

في ستينيات القرن الماضي، اختفى ما يصل إلى 600 رطل من اليورانيوم العالي التخصيب من منشأة أمريكية في مدينة أبولو بولاية بنسلفانيا، وهي كمية تكفي لصنع عشرات الرؤوس النووية. الشركة التي كانت في صميم هذا اللغز تُدعى NUMEC (شركة المواد والمعدات النووية)، والتي أسسها زلمان شابيرو، وهو صهيوني بارز وثيق الصلة بإسرائيل.
برغم التحقيقات التي أجراها كل من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم يتم حل لغز هذه القضية أبدًا. وبعد سنوات، أشارت وثائق رفعت عنها السرية بقوة إلى أن اليورانيوم تم تهريبه إلى إسرائيل، وتحديدًا إلى ديمونا، المنشأة النووية السرية لإسرائيل في صحراء النقب.
في عام 1963، شعر الرئيس الأمريكي جون كينيدي بالقلق من الطموحات النووية الإسرائيلية. طلب كشفًا كاملًا وعمليات تفتيش أمريكية. لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك ديفيد بن غوريون تهرب وراوغ، وفي النهاية استقال. وخلفه رئيس وزراء سار على النهج نفسه. ثم جاء اغتيال كينيدي، ومعه انتهى الضغط الأمريكي (لمحبي نظرية المؤامرة هنا مادة دسمة يتداولها المناصرون الرئيس دونالد ترمب!).
منذ ذلك الحين، لم يجرؤ أي رئيس أمريكي على مواجهة إسرائيل بشأن برنامجها النووي.
واليوم، تُقدّر الترسانة النووية الإسرائيلية بما بين 100 و300 رأس نووي، ومع ذلك فإن إسرائيل:
-ترفض التوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT).
-لا تسمح بأي تفتيش دولي على أرضها.
-لا تواجه أي عقوبات أو مساءلة دولية.
في المقابل، تواجه إيران — التي وقّعت على معاهدة عدم الانتشار ولم يثبت امتلاكها أسلحة نووية — عقوبات مدمرة، وهجمات إلكترونية، واغتيالات، وتهديدات عسكرية مستمرة.
هذا هو نظام الفصل العنصري النووي؛ عالمٌ يُحصّن الحلفاء من الرقابة، ويُدين الخصوم بغض النظر عن الأدلة.
أكاد أجزم بأن محور تفكير نتنياهو حاليًا يكمن في كيفية اعطاء الإدارة الأمريكية الغطاء السياسي اللازم لتنفيذ خططه ضد إيران واقحام أمريكا بالحرب من دون أي مقاومة شعبية تُذكر
الراية الكاذبة
إذا كان القادة العالميون صادقين في رغبتهم بوقف انتشار الأسلحة النووية، فيجب أن تُوجّه الأسئلة الأولى ليس إلى طهران بل إلى تل أبيب: حول السرقة. الأكاذيب. الترسانة غير المعلنة. السوابق الخطيرة التي تم ترسيخها.
لا محاسبة. لا شفافية. لا قوانين. فقط حصانة.
مما يأخذنا إلى نظرية العمليات ذات “الراية الكاذبة”. مصطلح لعله يُفسّر شيئاً من الغموض الذي يكتنف برنامج ايران النووي.
العمليات تحت “الراية الكاذبة” (False Flag Attacks) هي افعال تُرتكب بنية إخفاء المصدر الحقيقي للمسؤولية وإلقاء اللوم على طرف آخر.
نشأ مصطلح “الراية الكاذبة” في القرن السادس عشر كتعبير يشير إلى التظاهر المتعمد بالولاء لجهة معينة على غير الحقيقة. المصطلح اليوم يمتد ليشمل الدول التي تنظم هجمات “ضد نفسها” لتُظهر هذه الهجمات وكأنها من تنفيذ دول معادية أو جماعات إرهابية، مما يمنح الدولة التي تعرّضت للهجوم – ظاهريًا – ذريعة لعدوان عسكري خارجي، وكذلك لكسب التعاطف الدولي.

بعد الضربات الأمريكية التي استهدفت البنية التحتية النووية الإيرانية، وتصريح الرئيس ترامب بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى أي تصعيد إضافي، وجدت إسرائيل نفسها فعليًا في وضع شبه منفرد على ساحة المعركة، حيث كانت تواجه خسائر كبيرة نتيجة الهجمات المضادة بالصواريخ الفرط صوتية التي تنفذها إيران، والتي بالفعل أدت الى شلل عام في مختلف المدن وإلى اغلاق مطار بن غوريون ونوم ملايين الإسرائيليين في الملاجئ.. قبل أن يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار في مطلع الأسبوع المنصرم.
الغطاء الأمريكي
تُعرف إسرائيل بفهمها العميق للمشهد السياسي الأمريكي، وهي بلا شك تراقب ردود الفعل السلبية المتزايدة داخل أوساط السياسة الأمريكية، لا سيما من جناح “أمريكا أولاً” المؤيد لترامب، والذي يرفض بشدة انخراط الولايات المتحدة في حروب خارجية لا تخدم مصالحها المباشرة. هذا الانقسام الداخلي في السياسة الأمريكية يشكل تحديًا معقدًا لصناع القرار في إسرائيل، الذين يجب عليهم الموازنة بين الواقع العسكري المتغير على الأرض والتوجهات السياسية المتقلبة لدى الحليف الأهم لهم.
لا يملك أي متابع للسياسة والعقلية الإسرائيلية وتأثيرها على السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن يعتقد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يحاول حاليًا إيجاد طريقة لدفع الرأي العام الأمريكي، سواء من اليسار أو اليمين، إلى الإبقاء على الدعم الإستراتيجي الأمريكي لإسرائيل، في مواجهة المخاطر والتهديدات التي تواجهها.
وما زلنا نذكر كيف تم استغلال هجمات 11 سبتمبر ٢٠٠١ لشن الحروب وتوسيع النفوذ وهو الحدث الذي أدى إلى غزو أفغانستان (2001) والذي استمر 20 عامًا، وكلّف أكثر من تريليوني دولار، وانتهى بعودة حركة “طالبان” إلى السلطة عام 2021.
كما نتذكر غزو العراق (2003) برغم عدم وجود أي صلة بين صدام حسين وهجمات 11 أيلول/سبتمبر، حين ربطت إدارة بوش العراق بـالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل (التي لم يتم العثور عليها). وتُعتبرهذه الحرب اليوم خطأً استراتيجيًا كارثيًا حيث استخدمت أحداث 11 سبتمبر لإثارة الخوف عند الشعب الأمريكي لتبرير حرب وقائية أدت في النهاية إلى قتل أكثر من 400,000 مواطن عراقي.
والجدير بالذكر أن الشخصيات المحورية في حربي أفغانستان والعراق هي: ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، بول وولفويتز، وريتشارد بيرل وغيرهم من إدارة بوش، الذين كانت لديهم طموحات طويلة الأمد للهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وكلهم كانوا معروفين بأنهم صهاينة وداعمين رئيسيين لدولة الكيان.
أكاد أجزم بأن محور تفكير نتنياهو حاليًا يكمن في كيفية اعطاء الإدارة الأمريكية الغطاء السياسي اللازم لتنفيذ خططه ضد إيران واقحام أمريكا بالحرب من دون أي مقاومة شعبية تُذكر.
على كل، الأيام والأسابيع القادمة، ستكون كافية لنعرف إن كنت على صواب أم خطأ، أو أن نتنياهو هو “الراية الكاذبة” نفسها!