هل انتصرت إيران فعلاً.. ماذا تقول الوقائع؟

انتهت الجولة الأولى من الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد إيران بشراكة أميركية كاملة. الجميع أعلن انتصاره في هذه المعركة، من جهة، الولايات المتحدة وإسرائيل أعلنتا عن تحقيق أهدافهما المشتركة. بالمقابل، أعلنت إيران أنها ربحت بمجرد وقف العدوان وإخفاق الطرف المقابل في تحقيق أهدافه.

ما هي الأهداف الإسرائيلية والأميركية المعلنة؟

أولاً؛ تريد إسرائيل إلحاق أضرار جسيمة بالقدرات النووية لإيران وتأخير امتلاكها السلاح النووي. ثانياً؛ تدمير برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية. أما هدف الولايات المتحدة الأساس فهو تصفير البرنامج النووي الإيراني، بكل أبعاده. ثمة هدف مشترك وهو الأبرز ويتمثل باسقاط النظام الإيراني، وهو الأمر الذي دلّت عليه طبيعة وأهداف الضربة – الصدمة الإسرائيلية الأولى، التي طالت منظومة القرار والتحكم والسيطرة في المؤسسات العسكرية والأمنية، وثلة من العلماء النوويين.

البرنامج النووي

لا شك بأن المنشآت النووية الإيرانية في نتانز، أصفهان وفوردو تعرضت لضربات مؤلمة واغتيل 11 عالماً نووياً على الأقل، لكن هل هذه الضربات كافية لتعطيل البرنامج النووي الإيراني كلياً؟

هناك ثلاثة أعمدة أساسية للبرنامج النووي الإيراني: أولاً العلماء. ثانياً المنشآت. ثالثاً النتاج النووي.

بالنسبة للعلماء النوويين، ينبغي التذكير أن إسرائيل اغتالت سبعة علماء نوويين في آخر 15 سنة قبل شنّها الحرب الأخيرة على إيران. خلال تلك السنوات، أثبتت إيران قدرتها على تطوير البرنامج النووي برغم أن العلماء الذين تم اغتيالهم كانوا على مستوى عالٍ من الخبرة مثل محسن فخري زاده (أبو البرنامج النووي الإيراني)، حتى أن الدكتور فريدون عباسى الذي تم اغتياله في أول ساعات الحرب كان قد نجا من محاولة اغتيال قبل 15 سنة وتحدث قبل الحرب بفترة قصيرة عن احتمال اغتياله أو قصف المنشآت النووية، مُطمئناً الإيرانيين أن البرنامج النووي الإيراني ليس مجرد منشآت بل هو علم موزّع في عقول الخبراء الإيرانيين. هذا العلم بات يُدرّس منذ نحو عقدين في جامعات إيران ويتم تناقله عاماً بعد عام ومن جيل إلى جيل حيث خرّجت إيران مئات وربما آلاف العلماء في هذا المجال على مدى 20 سنة ومن الصعب استئصال علم تم ترسيخه بشكل مؤسساتي لا بل ثمة معضلة بصعوية السيطرة على هذه الخبرات إذا تعرض النظام للخطر، كما حصل تحديداً مع ألمانيا غداة هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.. وبالتالي لا يُختزل البرنامج النووي الإيراني بأكثر من عشرة علماء تم اغتيالهم في الحرب الأخيرة.

إذا لم ترضخ إيران للطلبات الأميركية والأوروبية وتقدّم تنازلات، فإن الحرب الأخيرة لم تُحقّق نتائجها؛ ما يضعنا أمام سيناريوهين إذا أصرت إسرائيل والولايات المتحدة على تحقيق أهدافهما المعلنة. السيناريو الأول؛ إعادة فرض حرب جديدة على إيران قبل أن تتعافى وتبني قدرات جديدة، وهذه الحرب ستكون أكبر وأقوى وربما أطول زمناً. السيناريو الثاني؛ تكثيف العمليات الأمنية داخل إيران والسعي من أجل خلق فوضى داخلية

المنشآت النووية

يوجد في إيران عدد غير محدد بدقة من المنشآت النووية.. وهذا الغموض متعمد لأسباب بيّنت الحرب الأخيرة أحقيتها، برغم تمسك طهران بسلمية برنامجها النووي. ومن أبرز المنشآت:

أصفهان: منشأة لصناعة أجهزة الطرد المركزي و”الكعكة الصفراء” (الوقود المطلوب لتشغيل المفاعلات النووية) وتخصيب اليورانيوم.

نتانز: منشأة لتخصيب اليورانيوم حتى 5٪.

فوردو: منشأة لتخصيب اليورانيوم حتى 60٪.

وحسب شهود عيان، فإن منشأة نتانز هي الأكثر تضرراً جرّاء الضربات الإسرائيلية والأميركية. وفي بيان للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه بالفعل حصلت تسريبات لمواد إشعاعية في داخل منشأة نتانز “ولكن من الممكن التعامل معها”.

بالنسبة لمنشأة أصفهان، لم تتم مهاجمتها بصواريخ أميركية خارقة للتحصينات وتم الاكتفاء بصواريخ “توماهوك” (لأسباب تقنية ولوجستية حسب الأميركيين)، الأمر الذي يُثير شكوكاً حول مدى الضرر الحقيقي الذي أصاب التجهيزات الحسّاسة الموجودة في أعماق الأرض في هذه المنشأة. وفي جلسة شارك فيها ضباط يُمثلون المؤسسة العسكرية الأميركية مؤخرا مع بعض المشرّعين الأميركيين لشرح عملية استهداف المنشآت الإيرانية، برر رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي عدم استهداف منشأة أصفهان بصواريخ خارقة للتحصينات بسبب حساسية منشأة التي تقع في عمق لا يمكن للصواريخ أن تصل إليه أبداً، مما يُعزز فرضية نجاة القسم الأكبر من المواد والمعدات الحساسة في هذه المنشأة.

بالنسبة لمنشآة فوردو، من الصعب تقييم الأضرار التي لحقت بها إستناداً إلى المعطيات الصادرة عن الجانبين الأميركي والإيراني، ولكن في الأيام الأخيرة صدرت تسريبات تُظهر تقييم وكالة الاستخبارات الدفاعية، وهي ذراع الاستخبارات في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تفيد بأن اليورانيوم المخصّب في هذه المنشأة لم يُدمّر وأن أجهزة الطرد المركزي فيه ما زالت سليمة إلى حد بعيد مما يعني أن الولايات المتحدة ربما أعاقت البرنامج النووي الإيراني “بضعة أشهر فقط”، حسب تقديرات استخبارية أميركية رفضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب واعتبرها الناطقون باسم البيت الأبيض “تسريبات خاطئة”.. فيما أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن الأضرار في فوردو “جسيمة وليست بالقليلة”.

المحصلة النووية: وفق أقصى التقديرات أعاق الأميركيون والإسرائيليون البرنامج النووي الإيراني عدة أشهر لا سنوات وذلك استناداً إلى الدلائل المتاحة حالياً من الطرفين، ولعل الدليل الأبرز هو سعي الإدارة الأميركية والترويكا الأوروبية لجلب إيران إلى طاولة المفاوضات، فإن كان البرنامج النووي الإيراني قد تم تدميره بالفعل فما هي الحاجة لإجراء مفاوضات لإلزام إيران بعدم تخصيب اليورانيوم كلياً؟ وإن كان ترامب يدعي القضاء على البرنامج النووي الإيراني فلماذا لا يرفع العقوبات المرتبطة بهذا الملف؟

يصح القول إن إسرائيل باقدامها على جر الولايات المتحدة الأميركية إلى الحرب، حالت دون امتلاك إيران سلاحاً نووياً لطالما ردّدت أنها لا تسعى إليه أساساً ولكن ما فائدة العرقلة اذا لم تكن دائمة؟ هل ستقوم إسرائيل بشن هجمات أخرى إذا ما أعلنت إيران استكمال برنامجها النووي ولو بعد أشهر أو سنوات؟

الصواريخ الباليستية

تعتبر إسرائيل الصواريخ الباليستية تهديداً وجودياً لها ولذلك حدّدت تدمير البرنامج الصاروخي الإيراني هدفاً لها وشنّت طائرتها غارات استهدفت مصانع ومراكز تابعة للجيش والحرس الثوري الإيراني معنيّة بالبرنامج الصاروخي وتصنيع الصواريخ كما شنت أسراب من المُسيّرات والطائرات الإسرائيلية غارات استهدفت منصات إطلاق الصواريخ (أرض-أرض وأرض – جو) خلال الحرب وادعت تدمير أكثر من ثلثها. وإذا سلّمنا جدلاً بذلك، تكون إسرائيل قد حقّقت ضربة قوية للبرنامج الصاروخي الإيراني وبالأخص لقدرة التصنيع الصاروخي، واستشهد البعض بعدد الصواريخ التي أطلقتها إيران في أواخر الحرب مقارنة بأوائلها؛ فعلى سبيل المثال في أول يوم أطلق الإيرانيون ما يقارب 200 صاروخ وفي اليوم الثاني 150 صاروخاً ولكن بعد ذلك تقلصت الرشقات الصاروخية إلى أعداد أقل من خمسين لكن برغم تقليص عدد الصواريخ، فإن فعالية الهجمات الصاروخية لم تتراجع حتى اليوم الأخير مع دخول صواريخ أكثر تطوراً وقوة وتدميراً وإصابة، مما يثير الشك حول تأثير الضربات الإسرائيلية على قدرة إيران الصاروخية في إيذاء إسرائيل وتهديد أمنها. نعم، قد تكون إسرائيل فعلاً حقّقت نجاحاً نسبياً في عرقلة برنامج صناعة الصواريخ الباليستية في إيران ودمّرت ثلثي منصات إطلاق الصواريخ كما ادّعت ولكن هذا ليس كافياً للتخلص من التهديد الذي تُشكّله الصواريخ الإيرانية عليها وذلك بشهادة الصواريخ التي سقطت مراراً وتكراراً بعد هذا الإدعاء بتاريخ 16 حزيران/يونيو، أي بعد ثلاثة أيام من بدء الحرب.

إقرأ على موقع 180  إيران والسعودية.. اطلب الصلح ولو في الصين

البرنامج الصاروخي في إيران، كما البرنامج النووي، مبنيٌ على خبرات إيرانية داخلية وليس مستورداً من الخارج. فإيران التي تعاني من حظر على شراء الأسلحة منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وأيضاً بموجب قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2231 (تاريخ 2006) الذي يحظر على جميع الدول بما فيها الصين وروسيا بيع وتصدير الأسلحة لإيران وكل ما يتعلق بالبرنامج النووي والبرنامج الصاروخي الإيراني، اعتمدت على نفسها اعتماداً كلياً نظراً لعدم قدرتها على شراء أسلحة من أي بلد في العالم قبل انتهاء تاريخ الحظر في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وهذه المهلة تم تحديدها بناءً على الإتفاق النووي عام 2015 حيث تم ربط الاتفاق النووي بقرار مجلس الأمن رقم 2231 وتم تحديد مدة 5 سنوات لإنهاء الحظر على البرنامج النووي ومدة 8 سنوات لإنهاء الحظر على الأسلحة والصواريخ الباليستية وهو ما تم في تشرين الأول/أكتوبر 2023.

يفضي ذلك للقول إن إيران ستكون قادرة على إعادة بناء ما هدّمته الحرب الأخيرة بغض النظر عن حجم الأضرار والمدة الزمنية المطلوبة لذلك، فضلاً عن أنها نظرياً ستكون قادرة على شراء أسلحة من حلفائها كالصين وروسيا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تقدمت إيران بطلب شراء طائرات “سوخوي-35” من روسيا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2024 لتطوير قدراتها الجوية الضعيفة بسبب العقوبات، ولكنها لم تستلم الطائرات بعد وقد تكون هذه ورقة جديدة في حال حدوث حرب أخرى إن استطاعت إيران التغلّب على المماطلة الروسية والتعجيل باستلام هذه الدفعة وتدريب الطيارين عليها.

لم تكن الحرب الأخيرة على إيران حرباً حاسمة جزءاً لا يتجزأ من صراع طويل بين إيران من جهة وإسرائيل وأميركا من جهة أخرى وسيكون لهذا الصراع جولات أخرى، طال الزمن أم قصر

النتيجة الصاروخية: بناءً على المعطيات المتاحة ألحقت إسرائيل أضراراً بالبرنامج الصاروخي الإيراني ولكنها لم تزل هذا التهديد حتى ولو بشكل جزئي؛ فإيران أظهرت أنها قادرة على تحقيق إصابات مباشرة بأعداد قليلة من الصواريخ إلى ما قبل دقائق قليلة من موعد وقف إطلاق النار. وقد تكون ضريبة جر الولايات المتحدة الأميركية إلى الحرب هي عدم السماح لإسرائيل باستكمال مهمتها وتحقيق هدفها بشكل كامل.

ما ذُكر أعلاه من أهداف لإسرائيل والولايات المتحدة يتصل حصراً بالأهداف المعلنة رسمياً على لسان الجانبين، ولكن ثمة سذاجة إذا لم نأخذ في الاعتبار تصريحات ترامب وبنيامين نتنياهو. الأول غرّد بعد 5 أيام من اندلاع الحرب مطالباً إيران بـ”الإستسلام غير المشروط” كما غرّد في آخر أيام الحرب “إذا كان النظام الحالي في إيران عاجزًا عن جعل إيران عظيمة مجددًا، فلماذا لا يتم تغييره؟”

بدوره، خاطب نتنياهو في بداية الحرب الشعب الإيراني مطالباً إياه بالثورة على النظام وأن هذه فرصته للحرية وأن النظام بات ضعيفاً داعياً الشعب للانتفاض عليه.

لا نحتاج إلى الكثير من التحليل لنرى ما اذا كان استطاع كلٌ من ترامب ونتنياهو الإطاحة بالنظام، فأغلبية الشعب الإيراني التفت حول قيادة بلدها في مواجهة الغطرسة الأميركية والإسرائيلية ولم تستسلم إيران بل أكملت المعركة إلى آخر دقيقة.

ويُمكن الإستشهاد بواقعة تدمير بوابات سجن إيفين الذي يضم مئات السجناء السياسيين في العاصمة طهران، بفعل غارة إسرائيلية، ولكن رفض نزلاء السجن مغادرته، وقال بعضهم: “أن نبقى معتقلين لأسباب سياسية على يد النظام أهون من الحرية على يد اسرائيل والأميركيين”.

نعم، قد تكون الحرب عرقلت برامج إيران النووية والصاروخية ولكنها قطعاً لم تزلهما وما زال التهديد قائماً على إسرائيل وثمة فرصة أمام إيران لإستخلاص العبر مما حدث لتطوير قدراتها العسكرية والأمنية بالشراكة مع دول صديقة مثل روسيا والصين وباكستان وغيرها.

إذا لم ترضخ إيران للطلبات الأميركية والأوروبية وتقدّم تنازلات، فإن الحرب الأخيرة لم تُحقّق نتائجها؛ ما يضعنا أمام سيناريوهين إذا أصرت إسرائيل والولايات المتحدة على تحقيق أهدافهما المعلنة. السيناريو الأول؛ إعادة فرض حرب جديدة على إيران قبل أن تتعافى وتبني قدرات جديدة، وهذه الحرب ستكون أكبر وأقوى وربما أطول زمناً. السيناريو الثاني؛ تكثيف العمليات الأمنية داخل إيران والسعي من أجل خلق فوضى داخلية بطرق مختلفة ينتج عنها تغيير النظام أو إضعافه.

في الخلاصة، لم تكن الحرب الأخيرة على إيران حرباً حاسمة جزءاً لا يتجزأ من صراع طويل بين إيران من جهة وإسرائيل وأميركا من جهة أخرى وسيكون لهذا الصراع جولات أخرى، طال الزمن أم قصر.

Print Friendly, PDF & Email
مرتضى سماوي

كاتب متخصص في الشؤون الإيرانية والعلاقات الدولية

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أية خطة عسكرية تتبعها روسيا في أوكرانيا؟