

هذا في النظريّة، أما في التطبيق؛ يُمكن الاستناد إلى ما سُمّي بـ”مشروع كيسنجر” في سبعينيات القرن الماضي كمثال حيّ على هذه النظريّة. يعتقد المؤرّخ اللبناني د. نبيل خليفة في كتابه “لبنان في استراتيجية كيسنجر، مقاربة سياسية وجيو-استراتيجية”، أنّه كان للرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجيّة قناعة تامة بوجود مخطّط كيسنجريّ – أميركيّ خاص بلبنان والمنطقة، يقوم على تفجير الحوادث في لبنان، بهدف توطين الفلسطينيّين فيه (حسب بعض الخبراء، لم تتوفّر وثائق رسميّة تؤكّد هذا المخطّط). فجّر مشروع كيسنجر الحرب الاهليّة اللبنانيّة في العام 1975.
تجسّدت بعض بنود هذا المخطّط على أرض الواقع على الشكل الآتي: السماح بدخول الجيش السوري الى لبنان، بهدف ضبط منظّمة التحرير الفلسطينيّة. جعل لبنان كبلد عازل بين سوريا وإسرائيل، على أن يكون الخطّ الفاصل عند جسر نهر الأوّلي في شمال مدينة صيدا. وعند هذا الجسر، تواجد فعلاً آخر حاجز سوري باتجاه الجنوب. تبقى السيطرة، والهيمنة الجويّة فوق سماء لبنان لسلاح الطيّران الإسرائيليّ دون غيره.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005، أصبحت سوريا محصورة في داخلها. ومع بدء الثورة السورية عام 2011، تأكّدت الثابتة الجيوسياسيّة التي تقول: “سوريا دولة إقليميّة فاعلة، عندما تسيطر على لبنان. وهي دولة عاديّة عندما تنعزل في الداخل السوريّ ويخرج لبنان عن سيطرتها المباشرة، أو غير المباشرة”. وقد يعود سبب هذه الثابتة الى المُسلّمات الجيوسياسيّة لسوريا والتي تقول: أوّلاً، “تأخذ الشام معناها وقيمتها في الإقليم، فقط عندما تعتمد استراتيجيّة الاتجاه غرباً” (look West) نحو بيروت. فالشام كمنطقة هي في عزلة جغرافيّة. تحدّها من الشرق البادية (450 كلم حتى الحدود العراقيّة)، ومن الجنوب درعا، وجبل العرب. أما حلب، فهي قلب نابض يتّجه نحو الشمال إلى تركيا وليس إلى العاصمة السوريّة (300 كلم عن العاصمة). أما بيروت فهي لا تبعد عن الشام أكثر من 115 كلم. ثانياً؛ أهميّة، لا بل حتميّة مسك الشام العاصمة للأطراف، وغالباً بيد من حديد، لمنع تفكّك الموزاييك الإثنيّ، الدينيّ والمذهبيّ.
بعد سقوط نظام الأسد الإبن، استغلّت إسرائيل الفراغ الاستراتيجيّ في سوريا، لتخلق منطقة عازلة إضافيّة، إن كان في الجولان، أو على سفوح جبل الشيخ. كما عمدت عبر القوة العسكريّة، والجويّة بالتحديد، إلى تجريد النظام السياسيّ الجديد في سوريا من القدرات العسكرية بكل أبعادها ومستوياتها.
شكّلت زيارة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب مؤخّراً إلى منطقة الخليج نقطة تحوّل أساسيّة في الديناميكيّة الاقليميّة، وبخاصة تجاه سوريا. في هذه الزيارة، اجتمع الرئيس الأميركيّ بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. كما رفع العقوبات ولا سيما “قانون قيصر” عن سوريا بسبب زوال مُبرّرات استمرارها. عكست هذه المبادرة، عمق العلاقة الأميركيّة مع دول الخليج، وأهميّة هذه المنطقة، وتأثير دولها في رسم النظام الإقليميّ الجديد، والذي يسعى إليه الرئيس ترامب.
العودة إلى المثلثّ

يُهنئ الرئيس ترامب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو على العمل المشترك لضرب المشروع النووي الإيرانيّ. ثم يبعث إليه برسالة أنّه سيكون حازماً في فرض وقف لاطلاق النار في قطاع غزّة (الضلع الأولّ-إسرائيل)، الأمر الذي يدلّ على قيمة إسرائيل الجيوسياسيّة في المنطقة.
يرفع الرئيس ترامب كلّ العقوبات عن سوريا، ويفتح لها الباب للعودة إلى العالم العربيّ، وذلك من ضمن شروط كثيرة، منها ما هو ممكن ومنها ما هو صعب جدّاً جدّاً- الجولان السوري المحتلّ بعد أن اعترف بسيادة إسرائيل عليه عام 2019 (الضلع الثاني).
قدّم مبعوث الرئيس ترامب إلى المنطقة السفير توم برّاك ورقة إلى المسؤولين اللبنانيّين (الضلع الثالث للمثلثّ) يطلب بموجبها وضع جدول زمني لنزع السلاح غير الشرعيّ في لبنان. والمُلاحظ، أنه تمّ ربط كل شيء في لبنان، وبخاصة الملفات الداخليّة، بمدى نجاح ملفّ نزع السلاح غير الشرعيّ. فكيف سيتصرّف الضلع الثالث لحماية لبنان؟ وهل هناك من وعي جيوسياسيّ لدى الحكّام اللبنانييّن لاتخاذ القرار السليم؟ خصوصاً أن الضلع الأوّل هو في مستوى من القوة لم نشهدها من قبل. وذلك في الوقت الذي يحاول الضلع الثاني استعادة توازنه واسترداد دوره الطليعيّ مع مواكبة إقليميّة ودوليّة.