مئوية الثورة السورية الكبرى.. والدروس المستفادة

تطل علينا اليوم مئوية الثورة السورية الكبرى التي حصلت في تموز/يوليو 1925 ضد الاستعمار الغربي (الفرنسي والبريطاني) والتي قادها الزعيم الكبير سلطان باشا الأطرش انطلاقاً من السويداء في جبل العرب في سوريا، وتشارك فيها قادة وطنيون من مختلف أنحاء سوريا ولبنان والأردن وفلسطين رداً على مشروع تقسيم المنطقة (سايكس- بيكو) 1916، ووعد بلفور 1917، وسوريا اليوم تعيش محنة الاحتلال الخارجي والاحتراب الداخلي، لا لشيء إلا لأنها بموقعها الجيوستراتيجي كانت هدفاً دائماً للاستعمار القديم والحديث.
تشترك مصر مع سوريا من حيث موقعهما أيضاً في كونها هدفاً تاريخياً للاستعمار الغربي منذ حملة بونابرت عليها سنة 1798 كأول حملة غزو غربية على أمتنا العربية، فكانت الثورات المصرية المتعاقبة ضد الاستعمار الغربي بجناحيه الفرنسي والبريطاني بدءاً من ثورة عرابي 1879 -1882 مروراً بثورة سعد زغلول 1919 وصولاً إلى ثورة جمال عبدالناصر سنة 1952.
ولقد جمعت المصيبة الاستعمارية كلاً من مصر وسوريا فوضعتهما في مناخ واحد ورؤية مشتركة وتطلع متكامل بينهما إلى مشروع وحدوي بدأه إبراهيم باشا في منتصف القرن التاسع عشر واستمر به جمال عبدالناصر سنة 1958.
إنها محاولات جادة بين أبناء الأمة وأقطارها للوحدة والتحصن بوجه محاولات الهيمنة والتسلط، باءت للأسف بالفشل الذريع بسبب التحالف الوثيق بين واقعنا في الداخل المتردي، وبين استغلاله الخارجي لأهداف استعمارية.
وما أثبتته الأيام والوقائع أن التحالف الغربي بأهدافه المعلنة قد نجح إلى حد كبير في مواضيع عديدة أهمها:
1- تجزئة المنطقة.
2- تكريس الكيان الصهيوني.
3- ديمومة الأثار المدمرة على أمتنا حتى أيامنا هذه.
وقد جاءت الحرب الصهيونية على سوريا سنة 1967 ليحتل العدو الإسرائيلي الجولان العزيز. علّ باحتلاله لأرضها ما يدفعها لرفع الراية البيضاء.
وبرغم كل ذلك ما هانت قلب العروبة ولا استكانت/ والتاريخ شاهد/ ومن قلب هذه التحديات امتشقت سوريا سلاح الإرادة، وبيدها الجريحة زرعت العلم السوري في هضبة الجولان المحتل سنة 1973، وتقول الوقائع، وهي صادقة ناطقة، إن هذه الحرب كادت أن تلغي مفاعيل الحروب السابقة عليها، لما أحدثته من صدمات وأزمات لقادة الكيان السياسيين والعسكريين لو أن رئيس مصر أنور السادات استمر بهذه الحرب لفترة أطول ولم يوافق على وقف اطلاق النار في ذلك اليوم المشؤوم من تاريخ أمتنا.
إن مفخرة تشرين/أكتوبر 1973 في الجولان مترافقة مع الدور العظيم لجيش مصر العظيم في عبور قناة السويس، قد فتحت عيون الغرب مجدداً على موقع سوريا فأدركت أنها لا يمكن أن تؤخذ بالترغيب بتسوية تنال فيها جوائز ترضية من هنا ومن هناك، في حين أن الغرب كانت عينه على الجائزة الكبرى المتمثلة بدفعها إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني.
وإذا كان الاحتلال لم ينفع، وإذا كانت الحروب لإضعافها لم تحقق أهدافها، وإذا كانت الاغراءات وجوائز الترضية لم تُسلْ لعابها ولم تصرفها عما شبّت عليه، فلا بد من طريقة أخرى تتمثل بإنهاكها من الداخل لتجعل من شبابها كهولة عاجزة يأكلها الشيب يوماً بعد يوم.
وكانت الأحداث الأخيرة سنة 2011 تحالفاً بين أخطاء وخطايا الداخل وتآمر الخارج.
وبالمحصلة في هذه الأيام:
– النفط ممنوع على السوري، وهو للأميركي مباح.
– القمح والماء والكهرباء، بديلها جوع وجفاف وعتمة، والغاز والنفط والمعادن موارد للتقاسم بين الشركات الكبرى.
هل نجحت المؤامرة بتمزيق سوريا كما نجحت في العراق واليمن والسودان وليبيا؟
نعم للأسف.
هل فشلت أنظمة بلداننا الشمولية في اغلاق الطاقة التي تأتي منها رياح التغيير الديموقراطي كما رياح عواصف المؤامرات؟
نعم فشلت.
وبالعودة إلى الثورة السورية الكبرى، وفي ذلك المناخ المضطرب الشديد الوضوح أمام نخب الأمة وقياداتها وشعوبها، قامت هذه الثورة الكبرى طلباً للحرية وللوحدة والتحرر.
هذه الثورة لم تكن بنت ساعتها، ولم تكن رد فعل على مكر غربي فحسب، بقدر ما كانت استشرافاً لمخاطر ما تحمله المؤامرة على أمتنا من جهة، وتطلعاً لبناء وحدة الأمة وتحررها من جهة أخرى.
كان هدف فرنسا فرْنَسَة سوريا ولبنان باعمال القتل وإلغاء المعالم والاعدامات الميدانية واجتياح القرى والبلدات، واليوم نشهد اعتداء على رموز الثورة الكبرى سنة 1920 وعمليات تصفية جسدية بشعة تعمّق الجروح بين أبناء الأمة.
وما يحصل في السويداء وجبل العرب هذه الأيام من توسيع للاحتلال الصهيوني وتغذيةٍ للفتن الداخلية واعتداء على رموز الثورة يجعلنا نسأل: ما أشبّه الحاضر بتفاصيل الماضي؟
لقد حملت الثورة السورية كل صفات الثورة من مقدمات وشروط وعناصر ذاتية وموضوعية تمثلت باتساعها وشموليتها، فامتدّت من جبل العرب في السويداء بقيادة الزعيم سلطان باشا الأطرش إلى دمشق بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، إلى الساحل السوري بقيادة صالح العلي، إلى الشمال السوري بقيادة إبراهيم هنانو، إلى البقاع بقيادة توفيق هولو حيدر.
هذه الثورة لم تكن قتالاً شجاعاً ضد القوات الفرنسية فحسب، بل كانت فعلاً سياسياً قومياً ونهضوياً وثقافياً بدأت تظهر معالمه مع النخب العربية في كل من إسطنبول ودمشق وبيروت وباريس، لتظهر هذه المعالم مع طلائع الحملة الفرنسية على سوريا ولبنان. ابتدأت هذه المعالم النهضوية التحررية مع رشيد رضا وشكيب أرسلان ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني لتستمر مع سلطان باشا الأطرش ورفاقه ضد الاستعمار الفرنسي.
لقد استعملت هذه الثورة كل أسلحتها، فامتطت إضافة إلى السلاح، سلاح الفكر والتعبئة والأدب والشعر والدبلوماسية عبر المجلات والدوريات والنشرات وأدوات التوجيه.
ومن صدى هذه الثورة العظيمة ما تزال ترن في أذني قصيدة أحمد شوقي:
سلام من صبا بردى أرق.. ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي.. جلال الرزء عن وصف يدقُ
دم الثوار تعرفه فرنســا.. وتعرف أنه نور وحق
نصحت ونحن مختلفون دارا.. ولكن كلنا في الهم شرق.
كما يحمل الأثير صوت الشاعر القروي المهجري رشيد سليم الخوري وقصيدته الممجدة لبسالة الثوار بقيادة سلطان باشا يوم حاول أدهم خنجر اغتيال الجنرال غورو ولجأ إلى السلطان فاعتقله الفرنسيون من جوار بيت سلطان في قرية حلوى في جبل العرب:
خففت لنجدة العاني سريعاً 
غضوباً لو رأك الليث ريعا
وحولك من بني معروف جمع
بهم وبدونهم تفني الجموعا
فيا لك غارة لو لم تذعها
أعادينا لكذبنا المذيعا
وبالك أطرشاً لما دعينا لثأر
كنت أسَمعنا جميعاً.
لقد سميت هذه الثورة بالكبرى لأنها بالفعل كانت كبرى، برجالاتها وشعاراتها وأهدافها واتساعها الجغرافي والسياسي وتأثيرها في المحيط وتصديها للمشروع الغربي الصهيوني بجهد دؤوب منذ مشروع حاييم وايزمن الهادف إلى زرع الكيان الصهيوني في فلسطين وبادية الشام.
قبل وفاته سنة 1982 كتب سلطان باشا الأطرش وصيته قائلاً:
“عزمت في أيامي الأخيرة وأنا انتظر الموت الحق أن اخاطبكم مودعاً وموصياً.
لقد أولتني هذه الأمة قيادة الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي الغادر، فقدمت بأمانة القيادة وطلبت الشهادة وأديت الأمانة.
وصيتي لكم أن أمامكم طريقاً طويلة ومشقات شديدة تحتاج الى جهاد وجهاد. جهاد مع النفس وجهاد مع العدو. اعلموا أن وحدة العرب هي حلم الأجيال وطريق الخلاص وأن ما أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، وأن كأس الحنظل بالعز أشهى من دماء الحياة مع الذل. إني لم أرَ أقوى تأثيراً في النفوس من قراءة التاريخ لتنبيه الشعور وإيقاظ الهمم. الحمد لله لقد أعطاني عمراً قضيته جهاداً وأرضيته زهداً، أما ما خلّفته من رزق ومال فهو جهد فلاح متواضع تحكمه الشريعة السمحاء”.
ختاماً قبل قراءتي لهذه الوصية كنت دائماً أسائل نفسي لماذا انعقدت الراية لسلطان باشا ولم تنعقد لغيره في قيادة النضال العربي في تلك المرحلة. فكان الجواب بهذه الوصية.
ألا يجدر بدولنا وجامعاتنا ومؤسساتنا التربوية والثقافية أن تجعل من هذه الوثيقة درساً في الوطنية والزهد والحكمة والشجاعة فيتعظ أولو الألباب؟ وتكون هذه الوصية خريطة عمل لمواجهة ما يخطط لسوريا وباقي المنطقة هذه الأيام.
(*) بالتزامن مع “الشروق
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ليبيا على موعد مع "قذافي" جديد!
هاني سليمان

عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، العضو المؤسس في المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  نقترب دولياً من "خط النهاية".. ولكل "أناه"!