سوريا الجديدة.. الشجاعة تُعيد الثقة بالدولة لا نشر المخاوف

ذهب الاستقطاب ضمن المجتمع السوري، بعد الأحداث الأخيرة، إلى مستويات غير مسبوقة. وحلّت المخاوف والتجاذبات الحادّة مكان مناخ التفاؤل العام الذي ساد المجتمع إبان سقوط حكم بشار الأسد بسرعةٍ فائقة ودون إراقة ملحوظة للدماء.

دمٌ سوريّ سال بيد سوريين.. للمرّة الثالثة. دمٌ زاد من انقسام المجتمع ودفع إلى اصطفافات ما قبل الدولة. الدولة باعتبارها مفهوم وطنٍ واحدٍ موحّد لجميع مواطنيه. وبالنتيجة، ترسّخت مخاوفٌ لدى فئات أوسع من المجتمع أنّ الدولة، كمؤسّسة، غير قادرة على حماية أمنهم وتوفير سبل معيشتهم. وبرزت في المقابل اصطفافات تُشيطِن هؤلاء. اصطفافات هي أيضاً بدافع الخوف… خوف من الفوضى، ومن الاقتتال الداخليّ، والتدخّلات الأجنبيّة التي أصبحت في منتهى السفور من قبل إسرائيل بنيامين نتنياهو.

قبل كلّ شيء، لا بدّ من استعادة الثقة بالوطن والمواطنة والدولة. ليس ذلك أصلاً من خلال تصريحات الدول الكبرى والإقليميّة وألاعيب مصالحها. إذ بعد ثمانية أشهر من تركيز السلطات الجديدة اهتمامها على تطبيع العلاقات مع الخارج، لرفع العقوبات وجلب الدعم للنهوض بالاقتصاد وإعادة الإعمار، ها هو هذا الخارج يعود ويتحدّث عن استمرار العقوبات ورفعها بالتدريج ضمن شروط. ولم يأتِ سوى القليل من الدعم المالي الصريح للنهوض من كارثة أربع عشر سنةً من الصراع ومع أكثر من ثمانين بالمائة من السكّان لا يزالون يرزحون تحت خطّ الفقر.

وحدة الدولة أولاً

ما تمّ الإعلان عنه هو استثمارات. ولكن ليست الإشكاليّة حقّاً في جلب استثمارات تبحث عن الربح في بلدٍ فقير. الاستثمارات ستأتي بشكلٍ تلقائي إذا ما ترسّخت في سوريا دولة قانون وتميّز عمل أجهزتها بالشفافيّة. وفي هذا الصدد، ورغم كلّ الجهود التي يبذلها بعض المسؤولين في مؤسسات الدولة، ما يلفت الانتباه هو أن يطلِبَ مشروع القانون الذي أقّرته لجنة المالية في الكونغرس الأميركي من صندوق النقد والبنك الدوليين التدقيق في مصداقيّة عمل أجهزة الدولة ماليّاً وإجرائيّاً. ومن اللافت أيضاً أن يصدر تقرير استقصائي لوكالة “رويترز” حول عدم شفافيّة تعامل السلطة وحدها، دون أجهزة الدولة، مع الاحتكارات التي أسّستها السلطة البائدة وأمراء حربها. وكيف تزامن ذلك مع زيارة الوفد السعوديّ الضخم للإعلان عن مذكرات تفاهم حول استثمارات كبيرة، يحتاج الكثير منها إلى التمحيص في كيفيّة مراعاتها للحقّ العام وللحقوق الخاصّة.

الإصلاح الإداري مطلوب بإلحاح ويتطلّب جهداً كبيراً. ولكنّ الشفافيّة ودولة القانون هما العنصران الأساسيّان كي يزول الانطباع السائد حاليّاً- في الداخل والخارج- أنّ هناك سلطة فوق الدولة. والعنصر الآخر الجوهريّ يتمثّل في توحيد المؤسسات الموروثة من سنوات الصراع والانقسام الفعليّ، المؤسسات العامّة ضمن آليّات الدولة السوريّة والمؤسسات الخاصّة ضمن القوانين السورية. ومن الطبيعي أن يتمّ تعديل هذه الآليّات والقوانين كي تنضوي في إطار هذا الشمول.

المستفيد الوحيد من الشرذمة والانقسام والاصطفاف الحادّ في سوريا هو نتنياهو ومشروعه

وفيما يتعلّق بسياق استعادة الثقة بالمواطنة كما بالدولة، يبرز اليوم استحقاقٌ مفصليّ يبدو ظاهريّاً أنّ القوى الدوليّة تدفع إليه لترسيخ الاستقرار وتخفيف المخاوف. ويتمثل هذا الاستحقاق بدفع السلطات السوريّة وقوى شمال شرق سوريا إلى التفاوض حول إعادة وحدة الدولة السوريّة: وحدة الجيش، ووحدة مؤسسات الدولة، ووحدة المجتمع.

لم يُعطَ هذا الاستحقاق حقّه من الاهتمام اجتماعياً، على عكس النداءات المتعدّدة التي وجّهها سياسيّون ومثقّفون لإقامة مؤتمر وطني جامع يؤسّس لنظام دولة تشاركيّة بقاعدةٍ أوسع. هذا برغم أنّ كلاهما (المؤتمر الوطني والاستحقاق) واجها هجوماً كبيراً ضمن الاصطفافات القائمة التي تغذّيها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.

إلاّ أنّ استحقاق توحيد قوّات “قسد” (قوات سوريا الديموقراطية) ضمن الجيش والإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الدولة، و”مسد” (مجلس سوريا الديموقراطي) ضمن أيّ برلمان يتمّ العمل على إنشائه اليوم يطرح قضايا قد تشكّل مخرجاً للمخاوف والاصطفافات القائمة بعد الأحداث الأخيرة. هذا إذا ما تعامل طرفا التفاوض بعقلانيّة وحكمة وروحٍ وطنيّة بعيدة النظر، وإذا ما نشطت فعاليّات المجتمع السوري على طرفي نهر الفرات لإنجاح هذا التفاوض بعيداً عن الاصطفافات والمخاوف الموروثة أو التي يتمّ استفزازها.

استعادة الثقة

سوريا بحاجة لشمال شرقها، شعباً عربيّاً وكرديّاً، ونفطاً وغازاً وزراعةً، وشمال الشرق يحتاج لسوريا شعباً وروح تسامح ومواطنة وفعاليّات اقتصاديّة واجتماعيّة. وبالطبع كما تحتاج السويداء إلى دمشق ودرعا، والعكس بالعكس. وليس لأيّ منطقة في سوريا عناصر “الاستقلال”. ولا أحدٌ يستفيد من الشرذمة والانقسام والاصطفاف الحادّ، لا الكُرد ولا العرب ولا الدروز ولا العلويين ولا السُنّة. المستفيد الوحيد هو نتنياهو ومشروعه.

لكن ليس سهلاً أن يُفضي التفاوض إلى حلولٍ عقلانيّة ووطنيّة. فكيف يجب أن يتمّ ضمّ قوّات “قسد” إلى الجيش الوطنيّ؟ في مناخ اليوم الذي يحمل فيه الكثيرون السلاح. وفي حين تنتشر قوى مسلّحة في مناطق عديدة لم يتمّ ضمّها إلى الجيش السوري الجديد إلاّ بشكلٍ صوريّ. لقد واجهت الدولة السوريّة معضلة مشابهة عند الجلاء من الانتداب وتأسيس الجيش السوريّ من فصائل طائفيّة ومناطقيّة صنعها المستعمِر. الوضع أصعب اليوم لأنّ الزخم الوطنيّ كان قائماً حينها وأقوى من المخاوف والاصطفافات الموجودة اليوم.

إقرأ على موقع 180  لم يبقَ أمام اللبنانيين إلا إستنساخ قرطاجة!

وكيف يتمّ دمج مؤسسات “الإدارة الذاتية” ضمن مؤسسات الدولة السوريّة دون التوافق على شكل اللامركزيّة التي يجب إقامتها على كامل الأراضي السوريّة؟ هناك اليوم من يريد إعادة تشييد دولة شديدة المركزيّة في سوريا، تعيِّن فيها السلطة محافظين يحتفظون بكلّ القرارات دون حتّى الرجوع إلى المجالس المنتخبة للمحافظة، على شاكلة دولة “الأسد”. فهل حَفَظَ هذا النموذج الدولة السوريّة من الهشاشة أمام الاستحقاقات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية؟ كذلك، هناك من يتحدّث اليوم عن “فدراليّة” كما في العراق رغم كلّ دروس التجربة التي رسّخها الاحتلال الأميركي لهذا البلد. في هذا المجال أيضاً عرفت سوريا تجربة مماثلة حين قسّم الانتداب سوريا بينما أجبره السوريّون وفعاليّاتهم على توحيدها في مناخٍ احترم الخصوصيّات المحليّة. اليوم أيضاً المعضلة أكثر صعوبةً مع المخاوف والاصطفافات، إلاّ أن الدولة المركزيّة القويّة هي التي تصنع لا مركزيّة فعّالة للتنمية… كما في الصين، مثلاً.

وكيف يُمكِن التوفيق بين “مسد” وبين المشروع القائم اليوم لتسمية مجلس شعب. ولعلّ الإشكاليّة أصعب هنا بحيث لا يُمكِن حلّها دون حراك شعبيّ يُطالِب بتغيير آليّة العمل لخلق مجلس تمثيليّ انطلاقاً من الظروف القائمة، مثلاً لإتاحة الترشيح الحرّ من خارج اللجان المعيّنة.

مسؤولية الجميع

كلّ هذه استحقاقات صعبة. ولكنّ عدم التنطّح لها ولتفاصيلها اليوم سيأخذ إلى استدامة الترشذم الفعليّ الناتج عن سنوات الحرب السوريّة واصطفافات ما بعدها. ولا بدّ من خطواتٍ سريعة تُعطي الأمل أنّ هذا التفاوض سيصل إلى حلول. ليس فقط بين مناطق السلطة القائمة وشمال شرق، بل أيضاً بين مناطق الاصطفافات المستجدّة.

فلماذا يتمّ الحديث فقط عن قوافل مساعدات من دمشق إلى السويداء، وعن “ممرّ إنساني” مع الأردن أو “الكيان العبريّ”، بدل عودة التجارة “الحرّة” الطبيعيّة مع المحافظة؟ ولماذا لا يعود فتح مطار القامشلي للطيران الداخلي، كما كان الأمر في زمن “النظام البائد”؟ وكذلك عودة مؤسسات الدولة الأساسيّة؟ ولماذا يستمرّ انقطاع الاتصالات في شمال شرق سوريا؟ هناك توافقات جرت في الآونة الأخيرة على النفط والغاز والتعليم.. لماذا لا يتمّ تعميمها بشكلٍ منهجيّ ووضع كلّ الأمور الإداريّة والماليّة والخدميّة على طاولة التوافق بصراحة وبشفافيّة أمام المجتمع السوري برمّته؟

الخروج من المأزق الفعليّ، الذي أخذت إليه الأحداث الأخيرة، مسؤوليّة القائمين على الأمور على جميع الأطراف، وأيضاً مسؤوليّة على المجتمع وفعاليّاته. والمسؤوليّة تتطلّب شجاعة تتخطّى، بل تكسِر، خطابات التحريض والاصطفافات.. شجاعة تُعيد الثقة بدل نشر المخاوف.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لم يبقَ أمام اللبنانيين إلا إستنساخ قرطاجة!