مأزق السُنّة بين التفوق التاريخي.. والدولة الوطنية التعدّدية

يُشكّل المسلمون السُنّة في العالم العربي أكثرية ديموغرافية وثقافية ودينية تمتد من المحيط إلى الخليج. وبرغم هذا الثقل العددي، لم تتمكن الجماعات السُنيّة في معظم الدول العربية من التحوّل إلى "مكوّن وطني شريك" ضمن دول تتسم بتعدّد الهويات والانتماءات. وبين إرث "التفوّق التاريخي" الذي ورثوه عبر قرون من الزمن، وواقع "الانكماش السياسي" الذي يعيشه الكثير منهم اليوم، يواجه السنّة ما يمكن وصفه بـ"أزمة وعيٍ سياسيٍّ غير مكتملة".

يهدف هذا النص إلى تفكيك هذه الإشكالية من خلال تحليل العلاقة التاريخية بين أبناء هذا المذهب والسلطة، وتصوّر الذات السُنيّة في مقابل مقتضيات الدولة الحديثة. يعتمد البحث على منهج تحليلي نقدي، يستند إلى قراءة تاريخية وسوسيولوجية لتطور الفكر السُنّي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول أزمة التمثيل، الهوية، والدور السياسي في السياقات الوطنية المعاصرة.

نشأة “الأمة الجامعة” والتجليات التاريخية

ترسّخت في الوعي السُنّي عبر القرون فكرة “الأمة الجامعة”، ليس فقط كمفهوم دينيّ، بل كإطارٍ سياسيٍّ يُحدّد ملامح الهوية العامة ويقود الدولة. ينبثق هذا التصور من الرؤية السُنيّة التقليدية لأنفسهم؛ فهم لا يعتبرون أنفسهم “طائفة دينية جزئية”، بل “الكلّ الجامع” الذي يُفترَضُ أن تنصهر فيه الطوائف الأخرى.

وقد تبلور هذا الإدراك عبر ثلاثة عناصر تاريخية رئيسية:

  • الخلافة: بدءًا بالأموية، مرورًا بالعباسية، وصولًا إلى العثمانية، وهي جميعها كانت ذات مرجعية وهوىً سُنّي، ما منح السنّة شعورًا بالتمثيل السياسي والقيادي.
  • الفقه السُنّي: تحوّل إلى مرجعية قانونية في معظم مراحل التاريخ الإسلامي.
  • اللغة والثقافة والتفسير الديني: بقيت مركزية في المدار السُنّي، وشكّلت أدوات الهيمنة الرمزية.

الدين والسياسة في الدولة الحديثة

مع سقوط الخلافة العثمانية وبروز الدولة الوطنية في مطلع القرن العشرين، واجه السنّة سؤالًا وجوديًا بالغ التعقيد يتصل بطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام السُنّي. هل هي علاقة تداخل أم انفصال؟ وكيف يمكن التوفيق بين الامتزاج التاريخي بين العقيدة والسلطة، ومتطلبات الدولة الحديثة؟

لم يتضمن القرآن الكريم تصورًا تفصيليًا لنظام الحكم، بل اكتفى بتوجيهات عامة مثل العدل، الشورى، والأمانة، وهي أقرب إلى المبادئ الأخلاقية منها إلى النماذج المؤسّسية. كما قدّمت السُنّة النبوية نموذجًا قياديًا فريدًا يتمثّل بشخص النبي محمد، الذي كان “رسولًا” لا “مؤسّس دولة” بالمعنى الحديث.

هذا الفراغ النصي دفع الخلفاء إلى الاجتهاد في تأويل دورهم، سعيًا للجمع بين “الشرعية الدينية” و”الضرورات السياسية”، ما أدى إلى تحوّل الخلافة من امتداد لدور النبوة إلى مؤسّسة سلطوية، وبخاصة في ظل الدولتين الأموية والعباسية.

 نتائج تداخل الدين والسياسة

ترسّخ التداخل بين الدين والسياسة عبر التاريخ إلى درجة أصبح فيها العلماء جزءًا من بنية السلطة أو في موقع التبعية لها. وقد نتجت عن ذلك معادلة غير متكافئة تُوظَّف فيها العقيدة لتبرير السياسات بدلًا من تقويمها.

في العصر الحديث، أعادت حركات الإسلام السياسي، مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، طرح مشروع دمج الدين بالسياسة، ولكن ضمن سياقاتٍ وطنيةٍ ومؤسساتٍ حديثة. وقد اصطدمت هذه الحركات بمعضلة المزج بين الإيمان والحكم، ما أدى إلى تسييس العقيدة أكثر من أسلَمة السياسة.

في المقابل، سعت الأنظمة الوطنية الحديثة إلى ضبط المجال الديني عبر مؤسسات رسمية مثل وزارات الأوقاف ومجالس الفتوى، وحوّلت الخطاب الديني إلى تابعٍ للدولة بدلًا من أن يكون سلطة رقابية عليها. وقد ساهم هذا التوجّه في إفراغ الدين من دوره القيميّ والأخلاقيّ، وتحويله إلى أداة للتعبئة أو التسكين.

أدى هذا الامتزاج بين العقيدة والسلطة عبر التاريخ إلى تديين الخلافات السياسية، ما جعلها أكثر احتدامًا وتعقيدًا، وطغيان الطابع المذهبي والطائفي على الصراعات، وبخاصة في المجتمعات المتعددة. كما أدى إلى إضعاف مصداقية المؤسسات الدينية الرسمية بسبب ارتباطها بالأنظمة، ما أضعف قدرتها على الاجتهاد وأداء وظيفتها الإصلاحية.

كما أن الخلط بين الديني والسياسي أوقف عملية النقد الديني الداخلي، وأعاد إنتاج الجمود باسم الحفاظ على الثوابت، برغم أن النصوص نفسها تدعو إلى التفكير والاجتهاد والتجديد. من هنا، ظهرت في الفكر الإسلامي الحديث دعوات للفصل الوظيفي بين الدين والسياسة، كما في اجتهادات محمد عبده ورفاعة الطهطاوي، اللذين يُسجل لهما أنهما سعيا إلى تجديد الفكر الديني مع الحفاظ على المسافة الضرورية بين الإيمان والتسلّط.

السنة – أمة أم طائفة؟

تُطرح داخل المجال السني أسئلة جوهرية، غالبًا ما تم تفاديها أو قُمعَت، ما أدى إلى شعور دائم بالحرج كلما طُرحت قضايا التعدّدية والتمثيل وحقوق الأقليات. ومن أبرز هذه الأسئلة:

  • هل السنّة يشكّلون “أمة” أم “طائفة”؟
  • هل يقبلون الشراكة مع الآخرين على قاعدة المساواة، أم يستمرون في الاعتقاد بأنهم يمثلون “الهوية الطبيعية” للدولة؟

هذه عينة من الأسئلة التي تكشف عن مأزق في تصور الذات السُنّية، حيث لا تزال الجماعات السُنّية تتردد بين رفض الانضواء في إطار طائفي، وبين عدم القدرة على بلورة مشروع وطني تعددي.

السلطة الرمزية والواقع السُنّي

برغم الاعتقاد السائد، لم تكن الأكثريات السنيّة دومًا ممسكة بكل أدوات الحكم. ففي عدة دول عربية، كان حضورهم السياسي محدودًا أو رمزيًا. في لبنان مثلًا، اقتصر الدور السُنّي على رئاسة الحكومة، من دون امتلاك مفاتيح الدولة العميقة. بينما حكم السُنّة في العراق في ظل ملكية هاشمية محدودة، ثم انقلاب عسكري بعثي لم يكن طائفيًا في بداياته. في حين أنّه في سوريا وبرغم الغلبة العددية والشعبية، استقرّ الحكم لاحقًا في قبضة أقلية علوية عبر النظام الأمني.

ما امتلكه السنّة، برغم ذلك، هو الرمزية. إذ يُنظَر إليهم كأصحاب الهوية الوطنية، والشرعية الدينية، والأكثرية التي لا تُختزَل في طائفة. وهذا ما جعلهم يواجهون صعوبة مزدوجة، فهم لا يستطيعون فرض الهيمنة الفعلية كما في الأنظمة الشمولية، ولا يقبلون التنازل الرمزي لصالح تعدّدية دستورية تساويهم بالآخرين.

غياب المراجعة الفكرية ونتائجها

برغم التغيّرات العميقة التي ضربت البنية السياسية في العالم العربي منذ عام 2011، لا تزال المراجعات الفكرية داخل الحقل السُنّي محدودة جدًا، إن لم تكن غائبة. ويمكن تلخيص هذا الغياب في ثلاثة مظاهر:

  • غياب رؤية فكرية سُنّية واضحة للدولة التعدّدية.
  • غياب قوى سياسية سُنّية تقبل بالتحوّل من “الهوية الجامعة” إلى “الفاعل الشريك”.
  • استمرار الخطاب الديني في إعادة إنتاج فكرة أن السُنّّة هم “الفرقة الناجية”، مما يُنتج لا شعورًا جمعيًا يُقصي الآخر دينيًا وثقافيًا.
إقرأ على موقع 180  لا جديد.. لقد بلغنا النهاية التي نستحقُها!

وهذا الغياب يجعل من كل مطالبة حقوقية للأقليات وكأنها عدوان على “الأمة”، لا مطلبًا عادلًا في إطار الدولة. وبذلك لا يمكن تجاوز هذا المأزق إلا عبر مراجعة فكرية جريئة تُعيد تعريف السُنيّة السياسية خارج معادلة الأمّة الحصرية، وإنتاج نخبة جديدة قادرة على تمثيل الأكثرية بمفردات الدولة لا بمفاهيم الجماعة، وبناء عقد اجتماعي جديد يدمج الجميع في دولة مدنية تعترف بالتعدّد دون أن تشترط التنازل عن الهويات. فما لم تنجز الأكثريات تحوّلها من هوية مهيمنة إلى فاعل شريك، ستظل الدولة مرهونة بالخوف، والمجتمع محكومًا بهاجس الآخر، والمستقبل رهينة صراعات لا تُحسَم لا بالسلاح ولا بالأكثرية.

توتر بنيوي مع مفاهيم الدولة الحديثة

لطالما مثّلت السُنيّة، بوصفها “الطائفة الأمة”، تصورًا دينيًا وتاريخيًا يدّعي الشمول والتمثيل الجامع للمسلمين، بل أحيانًا للكيان السياسي الإسلامي برمّته. لكن مع نشوء الدولة الحديثة وتبلور مفهوم التعدّدية السياسية والدينية، ظهرت فجوة حادّة بين هذا التصور الأممي ومقتضيات الدولة الوطنية التي تستند إلى الاعتراف بالاختلاف وتكافؤ المواطنين في الحقوق والواجبات، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الإثنية.

في هذا السياق، تكشف التجربة التاريخية للسُنيّة السياسية عن توتر بنيوي مع مفاهيم الدولة التعدّدية، المواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية. ما يجعل من مراجعة هذا الإرث ضرورة لأي مشروع إصلاحي حقيقي في المجتمعات ذات الغالبية السنيّة. أخذًا في الاعتبار أنّ السنيّة، لم تعرف، في أغلب مراحلها، واقعًا سياسيًا كانت فيه طائفة بين طوائف. فقد وُلدت كمذهب الأغلبية السلطوية، وترسّخت عبر الدولة الأموية ثم العباسية، وبلغت ذروتها المؤسسية مع السلطنة العثمانية. في كل هذه النماذج، كانت الدولة تتمثل السُنّية كمذهب رسمي، وتعاملت مع غيرها باعتبارهم “أهل ذمّة” أو “أهل بدع”.

لم تكن السنيّة في موقع الدفاع أو المطالبة بالحقوق، بل في موقع التشريع والتأصيل السياسي والديني. هذا الإرث جعل السنيّة المعاصرة تُقاوم التعدّدية السياسية والدينية لأنها تتناقض مع وعيها التاريخي كمرجعية شاملة، لا كطائفة محددة.

رفض التعدّدية وتصور العدالة

تُقابل مفاهيم التعددية، والتقاسم الطائفي، وتوزيع السلطات في الأنظمة العربية (خصوصًا لبنان والعراق وسوريا ما بعد 2011) بقدر كبير من الحذر والرفض من قبل فئات واسعة من النخب السنيّة. وتعود أسباب هذا الرفض إلى النظر للتعددية كآلية لإضعاف الأغلبية السُنّية عبر منح امتيازات للأقليات. إضافة إلى الاشتباه الدائم بنوايا الطوائف الأخرى، واعتبار مطالبها السياسية أدوات لمشاريع خارجية (صهيونية، استعمارية، إيرانية..إلخ). يترافق ذلك مع الحنين إلى النموذج الموحّد للدولة الإسلامية، التي يُمثّل فيها المسلمون السُنّة جسم الأمة.

وهذا ما يدفع السنيّة السياسية إلى تفضيل صيغ الدولة القومية أو الدولة الإسلامية أو الدولة المركزية، على حساب النماذج التوافقية أو الفيدرالية أو المتعدّدة، برغم ما يشوبها من سلطوية أو إقصاء. كما أنّ التصورات السنيّة التقليدية للعدالة تميل إلى فهمها على أنها تحقيق النظام الذي تمثله الأغلبية، لا على أنها تكافؤ فرص أو حماية للأقليات. فالعدالة في هذا الوعي لا تعني المساواة بين السُنّي والشيعي أو المسلم والمسيحي، بقدر ما تعني سيادة الحق وفقًا للفهم السُنّي. وتَظهر مطالب الأقليات السياسية أو الطائفية وكأنها محاولات لاقتطاع نفوذ من الأمة، لا مطالب مشروعة بالمساواة. لذا فإن أي نظام سياسي يضمن التمثيل العادل للجميع يُنظَر إليه كـ”تسوية قسرية” أو “محاصصة طائفية”، بدل أن يُفهم كـ”عدالة تعدّدية”.

لذلك تنظر “الطائفة الأمة” إلى الأقليات لا بوصفهم شركاء أصليين، بل غالبًا كـ”ضيوف” على المشروع السياسي الإسلامي؛ مكونات ذات وضع خاص يحتاج إلى إدارة لا شراكة، ويُشترَط انضواؤها في الجماعة للتعامل معها سياسيًا أو دينيًا. هذا التصور يؤدي إلى نوع من نفي الآخر أو إذابته الرمزية؛ أي أن الأقليات لا يُعترف بها بوصفها كيانات قائمة بذاتها، بل كأفراد تابعين ضمن إطار الأمة الأكبر.

في الخلاصة، تعيش السنيّة السياسية اليوم حالة من التراجع والانكشاف، لا سيما بعد ارتدادات الربيع العربي، لكنها لا تزال ترفض الاعتراف ببنيتها الطائفية، وتتمسك بدور “الجامعة” بدلًا من “الشراكة”، ما يعيق قدرتها على إنتاج خطاب يواكب الدولة التعددية الحديثة. هذا التوتر يكشف خللًا في تمثّل الذات السُنيّة، حيث يُنظر إليها كهوية معيارية للإسلام والأمة، في تناقض مع منطق الدولة الوطنية القائم على المساواة والتعدّد. يستوجب ذلك مراجعة نقدية لهذا الوعي، وإذا لم تُنجز تلك المهمة، ستظل السنيّة السياسية رهينة تصورات ما قبل الدولة، وغير قادرة على بلورة مشروع وطني جامع أو خوض شراكة حقيقية مع الآخر.

إنّ جدلية الدين والسياسة في الإسلام السني ليست قدرًا، بل نتاج تاريخي قابل للنقد والتطوير. والفصل الوظيفي بين العقيدة والسلطة لا يُضعِف الدين، بل يحميه من التوظيف السياسي، ويُعزّز فرص العدالة والمساءلة، ويعيد الاعتبار للشورى كجوهر للحكم في التصور الإسلامي.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لا جديد.. لقد بلغنا النهاية التي نستحقُها!