“فورين بوليسي”: حرب قريبة بين إسرائيل وإيران.. أكثر عنفاً 

من المرجح أن تشنُّ إسرائيل حرباً أخرى على إيران قبل كانون الأول/ديسمبر المقبل، وربما يحصل ذلك في وقت أبكر- في نهاية الشهر الجاري (آب/أغسطس). وإيران، من جهتها، تتوقع الحرب، وتستعد لها. والحسابات الاستراتيجية، لكلا البلدين، تشير إلى أنها ستكون حرباً أكثر عنفاً من سابقتها، التي وقعت في حزيران/يونيو الماضي، بحسب نائب الرئيس التنفيذي لمعهد "كوينسي" تريتا بارسي، في مقال له في"فورين بوليسي".

كل الحسابات الإستراتيجية، والتحليلات العسكرية تشير إلى أن إسرائيل تُحضّر لشنّ هجوم جديد على إيران. وتؤكد أن إيران، بدورها، تتوقع هذا الهجوم، وتستعد للرد بضربات حاسمة، وفي اللحظة نفسها التي تتعرض فيها لأي إعتداء، ولن يكون بـ”خطوات تصعيدية”، كما فعلت في في الحرب الأولى، التي وقعت في حزيران/يونيو الماضي، عندما كانت تتوقع صراعاً طويل الأمد. إيران لن تترك لأي طرف أي مجال للإعتقاد بأنه يمكن إخضاعها للهيمنة العسكرية الإسرائيلية.

نتيجة لذلك، من المُرجح أن تكون الحرب المُرتقبة أكثر دموية بكثير من الأولى. وإذا ما رضخ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للضغوط الإسرائيلية مرة أخرى، وانضم إلى القتال، فقد تجدُ واشنطن نفسها وسط حربٍ شاملةٍ، وفي مواجهة مباشرة مع طهران.. وإذا ما حصل مثل هذا السيناريو، ستكون تجربة العراق (عندما غزَّت أميركا العراق عام 2003) سهلة بالمقارنة مع ما ينتظر أميركا في إيران.

أبعد من البرنامج النووي

لم تكن الحرب المباغتىة التي شنَّتها إسرائيل على الجمهورية الإسلامية، في حزيران/يونيو، تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني فقط، بل كانت أيضاً ضمن مشروع تغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط كله، حيث تُعدّ القدرات النووية الإيرانية عاملاً مهماً ولكنه ليس حاسماً.

لأكثر من عقدين من الزمن، ظلَّت إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة للقيام بعمل عسكري ضدَّ إيران لإضعافها واستعادة توازن إقليمي مواتٍ.. توازن لا تستطيع إسرائيل تحقيقه بمفردها.

في هذا السياق، كان للضربات الإسرائيلية ثلاثة أهداف رئيسية؛ كلها تتجاوز إضعاف البنية التحتية النووية الإيرانية. لقد سعت إسرائيل لجرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، وقطع رأس النظام في الجمهورية الإسلامية، وتحويل البلاد إلى سوريا أخرى أو لبنان آخر- الدول التي يمكن لإسرائيل أن تقصفها من دون أن تتعرض لأي مساءلة أو عقاب، ومن دون حتى أن تضطر لطلب أي تدخل أميركي. هدف واحدٌ فقط من الأهداف الثلاثة تم تحقيقه. علاوة على ذلك، ترامب لم “يقضِ” على البرنامج النووي الإيراني، ولم يستطع حتى إعادته إلى نقطة يُمكن فيها اعتبار القضية محلولة.

بعبارة أخرى، يمكن القول إن إسرائيل؛ بهجمات حزيران/يونيو؛ حقّقت انتصاراً جزئياً في أحسن الأحوال. كانت النتيجة المفضلة عندها لو أنها نجحت في جرَّ ترامب إلى مواجهة مباشرة ومفتوحة مع إيران، وجعلته يشارك في القتال بشكل كامل ويدمر قوة إيران العسكرية وبنيتها التحتية والاقتصادية. لكن ترامب يفضلُ العمل العسكري السريع والحاسم، ويخشى حرباً مفتوحة وواسعة النطاق. لذلك اتبع استراتيجية في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية كانت الغاية منها الحدّ من التصعيد بدلاً من توسيعه. على المدى القصير، نجح ترامب في ذلك ــ وهذا ما أثار استياء إسرائيل ــ ولكن على المدى الطويل، سمح لإسرائيل بمحاصرته في حلقة تصعيدية.

كان رفض ترامب التصعيد إلى ما يتجاوز حملة قصف محدودة سبباً رئيسياً لموافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار. خلال الحرب، تكبدت إسرائيل خسائر فادحة: تدهورت دفاعاتها الجوية، وأصبحت أكثر عرضة للصواريخ الإيرانية التي أصبحت بدورها أكثر فعّالية في إصابتها للأهداف داخل الأراضي الإسرائيلية. وكانت إسرائيل تريد مواصلة الحرب وإطالة مدتها لو أن واشنطن التزمت بشكل كامل بالمتابعة معها. لكن الحسابات تغيرت عندما اتضح أن تدخل ترامب (ومساعدته الكبيرة غير المباشرة) كانت لمرة واحدة فقط. لقد نجحت إسرائيل في جرّ ترامب ومعه أميركا إلى الحرب، لكنها فشلت في إبقائهما فيها.

إذا رضخ ترامب لإسرائيل مرة أخرى، وشارك في الحرب المرتقبة سيجد نفسه وسط حربٍ شاملةٍ، وفي مواجهة مباشرة مع طهران.. وستبدو تجربة غزو العراق سهلة مقارنة مع ما ينتظر أميركا في إيران

إخفاقات إسرائيل

ومع ذلك، فشل الهدفان الآخران لإسرائيل، فشلاً ذريعاً. فرغم نجاحاتها الاستخباراتية المُبكرة – مثل قتل 30 من كبار القادة و19 عالماً نووياً – لم تنجح إسرائيل في تعطيل القيادة الإيرانية والسيطرة عليها إلا لوقت قصير جداً- يكاد لا يُذكر. وخلال أقل من 18 ساعة فقط، استطاعت طهران أن تستبدل جميع القادة الذين قتلتهم إسرائيل، وشنّت وابلاً كثيفاً من الصواريخ الباليستية، وأثبتت- بما لا يترك أي مجال للشكّ- قدرتها على استيعاب الخسائر مهما كانت فادحة، وفي الوقت نفسه أثبتت قدرتها على شنّ هجمات مُضادة وأكثر شراسة من الهجمات التي تعرضت لها.

كانت إسرائيل تأمل في أن تُثير ضرباتها الأولية (المُباغتة) الذعر داخل النظام الإيراني، وتُعجّل بانهياره. ووفقاً لصحيفة “واشنطن بوست”، عمل عملاء “الموساد”، الذين يجيدون اللغة الفارسية، على الاتصال بكبار المسؤولين الإيرانيين عبر هواتفهم المحمولة، وهدّدوهم بأنهم سيتعرضون وعائلاتهم للقتل ما لم يُصوّروا أنفسهم في مقاطع فيديو وهم يندّدون بالنظام ويعلنون إنشقاقهم عنه علناً. وبحسب “واشنطن بوست” فقد أُجريت أكثر من 20 مكالمة من هذا النوع خلال الساعات الأولى من الحرب، أي عندما كانت النُخبة الحاكمة في إيران لا تزال في حالة صدمة وتعاني من خسائر فادحة. ومع ذلك، لا يوجد أي دليل يُثبت أن أياً من القادة الإيرانيين (السياسيون أو العسكريون) قد خضع للتهديدات الإسرائيلية أو إنصاع لتعليمات “الموساد”.. على العكس تماماً، هناك الكثير مما يُثبت أن النظام ظلَّ متماسكاً وسليماً.

أضف إلى ذلك أنه، وخلافاً لكل توقعات إسرائيل، فإن مقتل كبار القادة في الحرس الثوري لم يُفضِ إلى خروج احتجاجات جماهيرية، أو انتفاضة ضدَّ الجمهورية الإسلامية. بل على العكس: احتشد الإيرانيون، حول علم بلادهم، إن لم يكن حول النظام نفسه، وغلب الانتماء القومي على ما عداه.

نتائج عكسية

في الواقع، بدلاً من تعبئة الشعب الإيراني ضد النظام، ساهمت إسرائيل (من حيث لا تدري) في إحياء خطاب الجمهورية الإسلامية القومي. وبدلاً من إدانة نظام طهران لأنه يستثمر أموالاً ضخمة في برنامج نووي وصواريخ باليستية وإعداد شبكة من الجهات والميليشيات الفاعلة غير الحكومية المتحالفة معه، يشعر العديد من الإيرانيين بالغضب الآن لأن كل عناصر الردع الإيراني هذه لم تكن كافية كما يجب أن تكون.

إقرأ على موقع 180  طالبان في كازابلانكا.. أفغان مغاربة في قندهار

وفي هذا الخصوص، تنقل نرجس باجوغلي، الأستاذة في جامعة جونز هوبكنز، ما قاله لها فنان إيراني التقت به في طهران: “كنتُ من الذين يهتفون أثناء الاحتجاجات ضد إرسال أموالنا إلى لبنان أو فلسطين. لكنني الآن أدرك أن القنابل التي نواجهها جميعاً هي واحدة، وأنه إذا لم يكن لدينا دفاعات قوّية في جميع أنحاء المنطقة، فإن الحرب ستأتي إلينا”.

“الموساد” هدَّد كبار قادة النظام الإيراني بقتلهم وقتل عائلاتهم ما لم يُصوّروا أنفسهم في مقاطع فيديو وهم يندّدون بالنظام ويعلنون إنشقاقهم عنه.. لكن أياً منهم لم يخضع للتهديدات.. والنظام ظلَّ متماسكاً وسليماً.. والإيرانيون توحدوا حول قوميتهم وعلم بلادهم

ليس من الواضح ما إذا كان هذا التحول؛ الذي حصل خلال وبعد حرب حزيران/يونيو؛ سيستمر. ولكن على المدى القصير، يبدو أن هجمات إسرائيل قد عزَّزت، وعلى نحو متناقض، النظام الإيراني، وساهمت في تقوية التماسك الداخلي، وضيّقت الفجوة بين الدولة والمجتمع.

لقد فشلت إسرائيل أيضاً في تحويل إيران إلى سوريا ثانية، وفشلت كذلك في إرساء هيمنة جوّية مُستدامة مُستقلة عن الدعم الأميركي. صحيح أنها (إسرائيل) نجحت- إلى حدٍ ما- في السيطرة على المجال الجوي الإيراني خلال الحرب، لكنها لم تفلت من العقاب. فالرد الصاروخي الإيراني أصاب البنية التحتية في إسرائيل بأضراراً جسيمة لا يمكن تحملها. ولولا المساعدات الأميركية الكبيرة ــ بما في ذلك استخدام 25% من أنظمة الصواريخ الأميركية الإعتراضية، من منظومة “ثاد”، طوال الـ 12 يوماً (عمر الحرب) ــ ما كانت إسرائيل لتقوى على مواصلة الحرب لأكثر من يومين!

كلُ ذلك يعني أنه من المُرجّح جداً أن تشنَّ إسرائيل حرباً جديدة ضدَّ إيران. وهذا ما أشار إليه كلٌّ من وزير دفاع إسرائيل، يسرائيل كاتس، ورئيس أركانها، إيال زامير. فحرب حزيران/يونيو كانت “مجرد مرحلة أولى”، وفقاً لزامير، الذي أضاف أن إسرائيل “تدخل الآن فصلاً جديداً من الصراع”.

عاجلاً أم آجلاً

بغض النظر عمّا إذا كانت إيران ستسأنف تخصيب اليورانيوم أم لا، فإن إسرائيل عازمة على حرمانها من الوقت الكافي لتجديد ترسانتها الصاروخية، أو استعادة دفاعاتها الجوية، أو حتى نشر أنظمة مُحسّنة أو مُحدَّثة. هذا المنطق جوهر استراتيجية إسرائيل التي تُعرف بـ”القصاص الرحيم” أو “جز العشب”، أي توجيه ضربات وقائية ومتكررة لمنع الخصوم من تطوير قدرات يمكن أن تُشكّل تحدياً لهيمنتها العسكرية.

هذا يعني أنه مع إعادة بناء إيران لمواردها العسكرية، فإن لدى إسرائيل حافز لشنّ هجوم ضدّها، عاجلاً أم آجلاً. علاوة على ذلك، تُصبح الحسابات السياسية المتعلقة بحربٍ جديدة أكثر تعقيداً مع دخول واشنطن موسم انتخابات التجديد النصفي. ونتيجة لذلك، من المُرجّح جداً أن تُشنّ الضربةٌ خلال الأشهر المقبلة.

ولقطع الطريق أمام إسرائيل، وتبديد الوهم القائل بإن استراتيجية “جز العشب” ستنجح، يستعد القادة الإيرانيون لتوجيه ردٍ سريعٍ وقوي، وفي اللحظة نفسها التي يتعرضون فيها لأي هجوم.

وهذا ما أكده وزير الخارجية الإيراني، عبَّاس عراقجي، في تغريدة له على منصة “X”، قال فيها: “إذا تكرَّر العدوان الإسرائيلي علينا، فلن نتردد عن توجيه ردٍ حاسمٍ وكاسحٍ.. بحيث سيكون من المستحيل تحمله”. فالقادة الإيرانيون يعتقدون أن التكلفة التي ستتكبدها إسرائيل يجب أن تكون فادحة، وإلا فإن السكوت عن أي هجوم جديد أو التهاون في الرد سيؤدي تدريجياً إلى تآكل القدرات الصاروخية الإيرانية ويترك الجمهورية الإسلامية بلا حماية.

وفي حين أن حرب حزيران/يونيو انتهت بشكل غير حاسم (لا غالب ولا مغلوب)، فإن نتيجة أي حرب مقبلة ستتوقف على أي من الجانبين قد تعلم أكثر من الآخر، وأي منهما سيتصرف أسرع من الآخر: هل تستطيع إسرائيل تجديد صواريخها الاعتراضية أسرع مما تستطيع إيران إعادة بناء منصّات قاذفاتها وترميم مخازن ترسانتها الصاروخية؟ هل ما يزال لـ”الموساد” وجود قوّي داخل الأراضي الإيرانية، أم أن معظم موارده استُنفدت في السعي لإسقاط النظام خلال الحرب الأولى؟ هل اكتسبت إيران مزيداً من الإدراك والمعرفة عن كيفية اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية أكثر مما اكتسبته إسرائيل عن كيفية سدّ الثغرات التي لديها؟ في الوقت الحالي، لا يمكن لأي من الجانبين الإجابة على هذه الأسئلة بثقة (…).

قد يكون تجاوب ترامب مع حرب إسرائيلية ثانية ضد إيران حاسماً، لأنه غير راغب في الانخراط في صراع طويل الأمد. من الناحية السياسية، أشعلت مساهماته في حرب حزيران/يونيو حرباً أهلية داخل حركة “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”. ومن الناحية العسكرية، كشفت تلك الحرب عن ثغرات خطيرة في مخزون الصواريخ الأميركي. لقد استنفد كلٌ من ترامب، وسلفه جو بايدن، جزءاً كبيراً من أنظمة الدفاع الجوي الاعتراضية الأميركية في منطقة لا يعتبرها أي منهما حيوية للمصالح الأميركية الأساسية.

مع ذلك، ومن خلال منحه الضوء الأخضر للهجوم الأول، وقع ترامب في فخ إسرائيل – ومن غير الواضح ما إذا كان بإمكانه أن يجد مخرجاً، خاصة إذا تشبث بموقفه الذي يشترط أن تُجمّد إيران التخصيب تماماً كأساس للتوصل إلى أي إتفاق. على الأرجح أن “المشاركة المحدودة”- في أي حرب تخوضها إسرائيل مع إيران أو تُجرُّ إليها أميركا- لم تعد خياراً. سيتعين على ترامب إما الانضمام الكامل إلى الحرب أو البقاء خارجها. والبقاء خارجها يتطلب أكثر من مجرد رفض لمرة واحدة – بل يتطلب مقاومة مستمرة للضغوط الإسرائيلية، وهو أمر لم يُبدِ ترامب حتى الآن لا الإرادة ولا القوة اللازمة للقيام به.

– ترجمة بتصرف عن “فورين بوليسي“.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  تاريخٌ لم يعد يتطوّر