

كانت النتيجة الرئيسية التي خرجت بها قمة آلاسكا هي استبعاد السعي للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وهو أمرٌ مرفوضٌ من الجانب الروسي الذي يصرُّ على حسم الوضع بشكل مُستدام. النتيجة شكَّلت صدمة كبيرة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والدول الأوروبية. جدول الأعمال، الآن، هو اتفاق سلام فعلي، وليس وقف إطلاق نار. بالطبع، لا نعرف؛ بعد؛ أي شيء عن الشروط التي سيقترحها ترامب لإتمام مثل هكذا “اتفاق”، لكن لا شك أن “الشروط” ستشمل إجراء تعديلاتٍ إقليمية. سيحاول الرئيس الأميركي إقناع نظيره الأوكراني بـ”التعاون”، لكن الأخير لن يفعل، وكذلك لن يفعل داعموه في أوروبا، كما هو مُرجح.
لكن إذا صحّ هذا التوقع- أي نجح ترامب في إقناع زيلنسكي بالتعاون – يتعين على رئيس الولايات المتحدة تحديد خطوته التالية. وقد تكون هذه الخطوة بالعودة إلى محاولة الضغط على الروس، إما بفرض المزيد من العقوبات أو بممارسة نوع آخر- جديد من العقاب. لكن حتى هذا الإجراء سيتطلب تراجعاً آخر (ولن يُحقق شيئاً).
فقد سبق وراهن خبراء في السياسة الخارجية (الأميركية والأوروبية) على أن الاقتصاد الروسي في حالة سيئة للغاية، وأنه إذا صعّد الغرب الضغط على روسيا، سينهار المشروع الروسي برمته وتسقط حكومة موسكو وتستسلم. نسي هؤلاء أنه حتى في ظلّ الظروف الصعبة، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار الروبل، وتفشي البطالة، وإغلاق المصانع، والتضخم الجنوني، وجد بوريس يلتسين (أول رئيس للاتحاد الروسي) سبيلاً للمضي قُدماً: لم تشهد روسيا حرباً أهلية، والمؤسسات الحكومية استطاعت أن تستعيد سلطتها بوقت قياسي. والنتيجة أن إدارة يلتسين استمرت ثماني سنوات، وحلَّ محله زعيمٌ أكثر تحفظاً وتشدداً: فلاديمير بوتين.
الروس لا يعارضون الحرب
من الصعب جداً قراءة المزاج العام في روسيا بدقّة. فالروس، عموماً، يؤيدون النظام، وينشدون الاستقرار، ويكرهون الحرب ويتوجسون من تبعاتها. ولو كان هناك اعتقاد لدى الرأي العام الروسي- وسط الطبقات الاجتماعية الوسطى والغنية على وجه الخصوص- بأن حرب أوكرانيا كانت كارثة، لشاهدنا دلائل واضحة على ذلك. فعندما تعثّر الغزو السوفياتي لأفغانستان، طالب الشعب الروسي، وخاصة طبقة النومنكلاتورا (*) بإنهاء التدخل العسكري. وبعد قرابة عشر سنوات من الحرب في أفغانستان، بدأ الجيش الروسي بالانسحاب، في أيار/مايو 1988. وبحلول شباط/فبراير 1989، كانت جميع القوات الروسية قد غادرت.
لقد عارض الروس حرب أفغانستان لسبب رئيسي هو الخسائر البشرية، إذ تكبّدت بلادهم نحو 26 ألف قتيل و35 ألف جريح، وهو عددٌ أقل بكثير من الخسائر التي تكبدتها (حتى الآن) في أوكرانيا. أما في حروب الشيشان، التي دارت على الأراضي الروسية، فقد خسر الجيش الروسي ما يُقدَّر بنحو 15 ألف جندي (لا تتوفر أرقام رسمية). وتشير مراكز بحثية مثل مؤسسة “جيمستاون“، إلى أن الرأي العام كان يعارض استمرار القتال مع الشيشان ويفضّل التوصل إلى تسوية تفاوضية. لكن في النهاية، قضى الجيش الروسي على المقاومة الشيشانية، فيما ظلَّ معظم الجمهور الروسي في موقف المتفرج.
والجدير بالذكر، كما أظهر استطلاع رأي حديث، أجرته مؤسسة “غالوب” في أوكرانيا، أنه على الرغم من العملية العسكرية الخاصة والهجمات الروسية بالطائرات المسيّرة والصواريخ، يتجه الرأي العام الأوكراني بشكل حاسم ضد استمرار الحرب دون تسوية سياسية. ويغادر أعداد كبيرة من الشبان والشابات أوكرانيا هربًا من الحرب والتجنيد الإلزامي. ووفقاً لصحيفة “تلغراف” البريطانية، ففقد فرّ ما لا يقل عن 650 ألف رجل أوكراني في سنّ القتال منذ تصاعد الصراع مع روسيا عام 2022. ولا يشمل هذا العدد الآلاف الذين يختبئون حالياً من السلطات داخل بلدهم أو يدفعون رشاوى لتجنب الخدمة العسكرية.
ضمانات زيلينسكي
يتمسك زيلينسكي بموقفه الرافض لأي تسوية مع روسيا تتضمن تقديم تنازلات. ويرفض أيضاً أي عقد صفقة تتعلق بالأراضي. لذا، عندما يتفاوض مع واشنطن من المرجَّح أن يقوم بأمرين:
1- محاولة حشد أنصاره لتأييد موقفه الرافض لأي تنازل عن أي بقعة أرض في أوكرانيا، ومحاولة إعادة تركيز ترامب على تقديم ضمانات أمنية لكييف؛
2- المطالبة بانسحاب روسيا من كل الأراضي الأوكرانية. ومن المؤكد أنه سيطلب من ترامب المزيد من الأسلحة والأموال، وفرض عقوبات قاسية على روسيا. وليس من الواضح- بعد- كيف سيكون رد فعل ترامب؟
أما بالنسبة للضمانات الأمنية، فبالرغم من تأييد البعض لإرسال قوات إلى أوكرانيا، فإن الحقيقة المؤسفة هي أن أي دولة أوروبية، ناهيك عن المملكة المتحدة أو فرنسا أو ألمانيا، لن ترسل حتى جندياً واحداً، إلّا إذا كان ذلك لدعم القوات الأميركية. وقد سبق لترامب أن نفى وجود أي قوات أميركية على الأرض في أوكرانيا. لذا فإن أي ضمانات أمنية ستكون افتراضية، ولا تشمل إرسال قوات، أو ستقتصر على مهمات استطلاع جوية والأقمار الصناعية. ومن غير المرجح أن يقبل زيلينسكي بضمانات أمنية افتراضية، حتى لو كان يشمل التحليق الجوّي. وبالطبع أيضاً، قد يُغيّر ترامب رأيه؛ أي قد يفكر بإرسال قوات والتدخل في حرب أوكرانيا بشكل فعّال؛ لكن ذلك حُكماً سيُعرِّض رئاسته لمخاطر جمّة (…).
أزمة كارثية تنتظر أوكرانيا
الخُلاصة هي أن السياسة الأميركية قد تغيَّرت. لم تعد واشنطن وترامب يدعمان وقف إطلاق النار، بل يسعيان إلى تسوية في أوكرانيا عبر المفاوضات.
كم سيستغرق ذلك من وقت؟ وهل سيكون من الممكن حقاً تحقيق تسوية من الأساس؟.. لا يزال الأمر غير معلوم.
في هذه الأثناء، تستمر الحرب، وستواصل موسكو، في الغالب، الضغط عسكرياً على مدينة بوكروفيسك في شرق أوكرانيا وتوسيع خط التماس غرباً. أوكرانيا، المُنهكة أصلاً، والتي تعاني الآن من غموض وانعدام يقين بشأن الإمدادات العسكرية، تواجه أزمة كارثية.
– ترجمة بتصرف عن “آسيا تايمز“.
(*) مصطلح يُطلق على النخبة التي كانت حاكمة إبان الاتحاد السوفياتي السابق.