اليسار الراديكالي في ستينيات وسبعينيات القرن الـ20.. سياقه وأسبابه؟ (3/1)

هذا البحث هو تحليل معمّق في دور وخطاب الحركات اليسارية الراديكالية التي ظهرت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، مستكشفًا أسباب نشأتها وتأثيراتها. متناولًا السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في تشكيل هذه الظاهرة العالمية، مع التركيز على دراسات حالات مفصّلة لمنظمات محددة.

شهدت الحقبة بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين موجة عالمية من الحركات والمنظمات اليسارية الراديكالية، التي تركت بصماتها على المشهد السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ العالميّ. لم تقتصر هذه الظاهرة على منطقة جغرافية واحدة، بل امتدت من الولايات المتحدة إلى أوروبا الغربية، ومن اليابان إلى الشرق الأوسط. وعلى الرغم من التباين في السياقات المحلّية، تشاركت هذه الحركات في مجموعة من الخصائص الأساسية التي وحّدت أهدافها وطرق عملها، أبرزها تبنيها الأيديولوجية الماركسية الثورية وتأثّرها بالماوية، ورفضها المطلق للنظام الرأسمالي العالمي، ومعارضتها الشديدة للسياسات الإمبريالية، وبخاصةً تلك التي قادتها الولايات المتحدة. هذه المنظمات لم تكتفِ بالمطالبة بالإصلاحات، بل دعت إلى تغيير ثوري وجذري وشامل للبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة، متّجهة إلى استخدام العنف الثوريّ وسيلة لتحقيق أهدافها.

يهدف هذا البحث إلى استكشاف العوامل المعقّدة والمتشابكة التي أدت إلى ظهور هذه الحركات وتأثيرها على المشهد السياسيّ والثقافيّ العالميّ. وإلى تحليل السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في تشكيل هذه الظاهرة، بالإضافة إلى دراسة حالات مفصّلة لبعض أبرز هذه الحركات لفهم استراتيجياتها ودوافعها وتداعيات صعودها وسقوطها.

أولًا؛ السياق التاريخي:

ظهرت الحركات اليسارية الراديكالية في بيئة دولية مشحونة بالاستقطاب الأيديولوجيّ الحادّ الناتج عن الحرب الباردة، التي قسمت العالم إثر الحرب العالمية الثانية، إلى معسكرين متناحرين: المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي. هذا الاستقطاب، الذي فرض توازن القوى النوويّ، خلق حالةً من الإحباط لدى جيل الشباب الذي رأى أن كلا المعسكرين فشل في تحقيق الوعود الحقيقية للتحرر والعدالة. لقد انتقد “اليسار الجديد” بشدة “اليسار القديم” المتمثل في الأحزاب الشيوعية التقليدية، التي اعتبرها بيروقراطية، وتابعة لموسكو، وفقدت روحها الثورية. وكان هناك شعور متزايد بأنّ هذه الأحزاب أصبحت جزءًا من المؤسّسة القائمة، وأنها لم تعد قادرة على تقديم حلولٍ جذريةٍ لمشاكل المجتمع.

في هذا السّياق، سعت هذه الحركات إلى تقديم نفسها كقوة ثالثة، تنتقد الرأسمالية الإمبريالية من جهة، والبيروقراطية الستالينية من جهة أخرى. هذا التوجه الجديد حفّز نشوء حركات بين الشباب والمثقفين الذين شعروا أن النظام العالمي لم يكن قادرًا على تلبية طموحاتهم في التحرّر والعدالة. كان شعورهم بالاختناق من الثنائية القطبية، وهيمنة الدولة الأمنية في كلا المعسكرين، دافعًا أساسيًا للبحث عن نماذج بديلة تدعو إلى ثورة شاملة: طبقية، وثقافية، وجندرية. كانت هذه الحركات تنظر إلى نفسها كجزء من جبهة عالمية مناهضة للإمبريالية، وتحمل وعيًا بأن النضال المحليّ لا يمكن فصله عن النضال العالمي. يقول المؤرخ إريك هوبسباوم (1994) في هذا الصدد: “إن الحرب الباردة كانت بالنسبة للكثيرين مثل علامة على أن النظام العالميّ بحاجة للتغيير الجذري”.

حركات التحرر وتأثيرها العالميّ

كانت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث (آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية) مصدر إلهامٍ هائلٍ للشباب الراديكالي في الغرب. فقد أثبتت هذه الحركات، من خلال كفاحها ضد القوى الاستعمارية، إمكانية التغيير الجذري خارج حدود الأنظمة السياسية التقليدية. أصبحت الثورة الجزائرية (1954–1962) والثورة الكوبية (1959) وحرب فيتنام ضد التدخل الأميركي رموزًا عالمية للصمود في مواجهة الهيمنة الإمبريالية. ألهمت شخصيات مثل تشي غيفارا وفرانز فانون جيلًا كاملًا بفكرة الكفاح المسلّح ودعت إلى تضامن عالمي بين الشعوب المضطهدة. هذه الأفكار تجاوزت التحليل الطبقيّ التقليديّ لتشمل تحليلًا أعمق للقضايا الثقافية والجندرية والعرقية المرتبطة بالاستعمار. كما تشير روس (2002): “أثرت نماذج الثورات التحرّرية مثل كوبا والجزائر وفيتنام في صياغة الوعي الثوري للشباب الراديكالي في الستينيات” (ص. 45). كان التأثير ملموسًا بشكل مباشر؛ حيث سعت العديد من المجموعات الراديكالية في الغرب إلى إقامة علاقات مباشرة مع حركات التحرّر الوطني، وزارت معسكرات التدريب، وتبادلت الدعم الماديّ واللوجستيّ. هذا التفاعل عزّز فكرة “العالم الثالث” كقوة ثورية، وأكد أن التحرّر ليس مقتصرًا على البلدان الفقيرة، بل هو مطلبٌ عالميّ.

موجة احتجاجات 1968

عام 1968 لم يكن مجرّد أيامٍ تتوالى، بل كان لحظةً فاصلةً في التاريخ العالميّ. شهدت مدن كبرى مثل باريس وبرلين ونيويورك ومكسيكو سيتي وبراغ احتجاجات واسعة النطاق تعكس تحوّلات عميقة في الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ. في باريس، بدأت الاحتجاجات بمسيرة طلابية ضد الأنظمة الجامعية القديمة، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى إضرابٍ عام شمل أكثر من عشرة ملايين عامل، وطالب بتغيير شامل في المجتمع الفرنسي.. عكست هذه الاحتجاجات تمرّدًا ثقافيًا وسياسيًا على القيم المحافظة، والبيروقراطيات السياسية، والنظام الأبويّ. لقد كانت إشارة واضحة إلى فشل الأنظمة السياسية في فهم طموحات جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن هذه الاحتجاجات لم تحقّق أهدافها المباشرة، إلا أنها كانت بمنزلة “المدرسة” التي تخرّجت منها العديد من الحركات الراديكالية المسلّحة في السبعينيات. هذه الحركات رأت أن النضال السلميّ غير كاف، وأنّ العنف هو الحل الوحيد لمواجهة عنف الدولة.

ثانيًا؛ الأسباب السياسية والاقتصادية:

تُعدّ حرب فيتنام أحد أهم العوامل المباشرة التي أدّت إلى راديكالية الشباب الغربيّ. كانت الحرب رمزًا صارخًا لغطرسة القوة الأميركية وإخفاقاتها الأخلاقية والسياسية. ومع انتشار صور مذبحة “ماي لاي” في فيتنام عام 1968، شعر جيل كامل بصدمة أخلاقية عميقة تجاه سياسات بلادهم. أثارت هذه الصدمة نضالًا طلابيًا غير مسبوق في الجامعات الأميركية، حيث ظهرت حركات مثل “طلاب من أجل مجتمع ديموقراطي” (SDS) التي دعت إلى إنهاء الحرب وإلغاء التجنيد الإجباري. في أوروبا، تحوّلت الحرب إلى قضية سياسية مركزية، ودفعت الطلاب والمثقفين إلى تبني مواقف أكثر تطرفًا تدعو إلى تغيير كامل في النظام الرأسمالي الذي أنتج مثل هذه الحروب.

إقرأ على موقع 180  بين القيم والمصالح.. أقنعة كثيرة تتدحرج!

في الوقت نفسه، كانت ردّة فعل السلطات على الاحتجاجات السلمية عاملًا حاسمًا في تصاعد الراديكالية. فبدلًا من الاستجابة لمطالب المتظاهرين، لجأت الدول إلى القمع البوليسيّ. هذا القمع، الذي تجلّى في أحداث عنيفة مثل قتل الناشط بينو أونيسورغ في ألمانيا الغربية، ما أقنع بعض النشطاء بأنّ الدولة لم تكن طرفًا محايدًا، بل كانت جهازًا عنيفًا يجب مواجهته بالعنف. في إيطاليا، أدت “استراتيجية التوتر” التي اتبعها اليمين المتطرف إلى تفاقم العنف السياسي. هذا المناخ دفع إلى “سنوات الرصاص” (Anni di piombo) التي شهدت صعود الألوية الحمراء التي اعتبرت العنف المسلّح هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير.

ترافق ذلك مع بلوغ سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ذروته في الستينيات، مما خلق شعورًا وجوديًا بالتهديد من الإبادة الجماعية. هذا التهديد، الذي كان محسوسًا بشكل خاص لدى جيل الشباب، دفع إلى ظهور حركات مناهضة للأسلحة النووية. هذا الوعي شكل رافدًا للحركات الراديكالية التي رأت في النظام العالمي نظامًا انتحاريًا بطبيعته، وخلصت إلى أنّ الطريقة الوحيدة لتفادي الكارثة هي الإطاحة بالنظام نفسه.

ثالثًا؛ الأسباب الاقتصادية:

برغم أن الدول الغربية شهدت ازدهارًا اقتصاديًا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ أواخر الستينيات شهدت ظهور ملامح أزمة هيكلية في النظام الرأسمالي. بدأت معدّلات التضخم في الارتفاع مصحوبة بتباطؤ النمو الاقتصادي، وهي ظاهرة عُرفت بـ”الركود التضخميّ”. ويشير هوبسباوم (1994) إلى أن “الستينيات شهدت تزايد الشكوك في فعالية النموذج الاقتصاديّ الغربيّ، مع ارتفاع التضخّم إلى 13.5% في الولايات المتحدة عام 1980” (ص. 403). هذا الوضع أثار الشكوك في شرعية النظام برمّته، وأقنع العديد من الشباب بأنّ الرأسمالية غير قادرة على تحقيق الاستقرار والرخاء على المدى الطويل. بالنسبة لليسار الراديكالي، لم تكن هذه مجرّد أزمة دورية، بل كانت دليلًا على فشلٍ بنيويٍّ لا يمكن إصلاحه.

عدم المساواة المتزايدة

وعلى الرّغم من تحقيق بعض المكاسب الاجتماعية خلال فترة ما بعد الحرب، إلا أن الستينيات والسبعينيات شهدت عودة تدريجية لهيمنة رأس المال الكبير على توزيع الدخل والثروة. فقد ارتفعت حصة الفئات الأعلى دخلًا، في حين استمرّ تآكل القوة الشرائية للطبقات الدنيا والمتوسطة، لا سيما في الولايات المتحدة. يوضح توماس بيكيتي (2014) أن “حصة الـ 1% الأكثر ثراءً في الولايات المتحدة ارتفعت من 25% عام 1945 إلى 35% عام 1970” (ص. 291). هذا الاتجاه عكس خللًا عميقًا في بنية النظام الاقتصاديّ الذي لم يكن يعمل لصالح الأغلبية، بل لصالح النخب المالية والاحتكارية. وقد ساهم هذا الخلل في تغذية شعور متزايد بالغضب الاجتماعيّ لدى الشباب والعمال والمثقفين، تجلّى في شكل احتجاجاتٍ وإضراباتٍ وشعاراتٍ تطالب بتوزيع أكثر عدالة للثروة.

رابعًا؛ الأسباب الاجتماعية:

مثّلت الستينيات لحظة مفصلية في التاريخ الاجتماعيّ للغرب، حيث برز جيلٌ جديدٌ من الشباب لم يعايش ويلات الحرب العالمية الثانية، بل نشأ في ظلّ رخاءٍ نسبيّ، وتوسّعٍ تعليميّ، وانفتاحٍ ثقافيّ غير مسبوق. هذا الجيل سعى إلى إعادة تعريف معاني الحرية، الأخلاق، والهوية. يشير غيتلن (1993) إلى أن “طفرة المواليد أدّت إلى زيادة تأثير الشباب في المجتمع، ليس فقط عدديًا بل ثقافيًا أيضا، حيث أصبحوا فاعلين أساسيين في إعادة تشكيل المعايير والقيم” (ص. 120). كما لعبت وسائل الإعلام دورًا أساسيًا في بناء “ثقافةٍ شبابيةٍ” مستقلة، عابرةٍ للحدود القومية، تتحدث بلغة الروك، والاحتجاج، والتحرّر الجنسي. وهكذا تحولت الفجوة بين الأجيال إلى فجوةٍ بين رؤيتين للعالم: رؤية محافظة تُعلي من الانضباط والتقاليد، وأخرى شبابية تبشّر بالتحرّر، الفردانية، والتجديد الراديكالي.

حركات التحرّر النسوية

برزت الحركة النسوية الجديدة في الستينيات كجزء لا يتجزأ من المدّ الراديكاليّ العام، وقد تلاقحت أفكارها مع اليسار الجديد في معركة واحدة ضد السلطة الأبويّة والرأسمالية. وتوضح مورغان (1970) أن “ارتباط الحركة النسوية باليسار الراديكالي في نضالها ضد الرأسمالية، بوصفها نظامًا يُعيد إنتاج اضطهاد النّساء من خلال السوق والعمل والأسرة” (ص. 45). وقد طرحت نساء مثل سيمون دو بوفوار، وكيت ميلت، وشولاميث فايرستون أطروحات نقدية ترى أن تحرّر المرأة لا يمكن فصله عن النضال ضد السلطة الذكورية التي تتجسّد في السياسة، الدين، والثقافة. النَسَويَة في هذا السياق لم تعد مجرد دعوة إلى “مساواة” بالمعنى الليبرالي، بل مشروعًا تحرّريًا جذريًا يضع سؤال الجندر في صلب التحليل الطبقيّ والسياسيّ.

من الحقوق المدنية إلى البيئة

إضافة إلى الحركات الشبابية والنسوية، لعبت حركات اجتماعية أخرى دورًا محوريًا في تشكيل وعي الجيل الراديكالي. في الولايات المتحدة، مثّلت حركة الحقوق المدنية نقطة تحول كبرى، حيث ربطت قضايا العرق بالسياسة والاقتصاد. لم تكن القضية فقط قانونية تتعلّق بإلغاء التمييز العنصري، بل كانت مشروعًا سياسيًا يطالب بالعدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، وحقّ المجتمعات السوداء في تقرير مصيرها. كما شهدت تلك المرحلة صعود الحركات البيئية كرد فعلٍ على التدهور البيئيّ الناتج عن الرأسمالية غير المنضبطة. مثّلت أعمال مثل “الربيع الصامت” لريتشيل كارسون (1962) لحظة وعي بيئي مبكرة. من جهة أخرى، ظهرت حركات التحرّر الجنسي في أواخر الستينيات، خاصة بعد أحداث “ستونوول” في نيويورك عام 1969، وطرحت أسئلةً جديدةً حول الجسد، الهوية، والتحكّم الاجتماعي.

(*) في الجزء الثاني غداً (الثلاثاء): من هي أبرز التنظيمات اليسارية الراديكالية في أوروبا والعالم؟

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أحزان الامبراطورية.. وتناقضاتها