ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين؟

لا استقرار في المنطقة العربية وربما في العالم قبل تطبيق حل الدولة الفلسطينية وليس إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية. وعند الحديث عن القضية الفلسطينية، دائماً ما يتمّ استخدام مصطلح "حلّ عادل" لفلسطين، على الرغم من أن العدالة تعني ألا تحتلّ فلسطين في العام ١٩٤٨، وألاّ يُقتل ويُهجّر أهلها. والعدالة تعني ألا يُقتل أطفال غزة وأهل هذا القطاع المنكوب والمكلوم على مرأى من العالم أجمع في أبشع إبادة ترتكبها وما تزال دولة احتلال في التاريخ.

في ذروة البطش الإسرائيلي الذي لا يقف عند حدود غزة، بل يمتدّ أيضاً إلى الضفة والقدس في فلسطين وإلى لبنان وسوريا وصولاً إلى قطر بغطاء أميركيّ مباشر، اجتمع قادة العالم، أمس الأول (الإثنين) في نيويورك، باستثناء الولايات المتحدة الأميركية، للاعتراف بدولة فلسطين، بمبادرة من المملكة العربية السعودية وفرنسا. فماذا يعني هذا القرار؟

بالطبع، إن هذا القرار لا يتخطّى حتى هذه اللحظة الرمزية السياسية من دون أي مفاعيل على الأرض في قلب فلسطين، إلا أنه برغم ذلك، يشكّل خطوة جبّارة تحسب للسعودية بالدرجة الأولى، من شأنها أن تؤسّس لمرحلة مفصليّة وحاسمة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إذا ما تمّ تدعيمها بخطوات ملموسة سيعرض هذا المقال بعضاً منها.

وخلافاً للاعتقاد السائد عند البعض بأن هذه الخطوة التي قادتها السعودية هي “فولكورية” وتشكّل تمهيداً للتطبيع المجانيّ، إلا أنها تشكّل صلب خارطة الطريق التي أعلنت عنها المملكة منذ سنوات عدّة كشرط لأي تطبيع محتمل مع إسرائيل. فقبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى يومنا هذا، تطمح كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية إلى توقيع “اتفاقية أبراهام” مع السعودية وذلك لما تمثّله المملكة من دور وثقل ورمزية في العالمين العربي والإسلامي. ومنذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، كانت تشترط المملكة حلّ القضية الفلسطينية من خلال إقامة الدولة الفلسطينية أولاً.

وفي لحظة مفصليّة من حرب الإبادة على غزة والتي أحرجت العالم الغربي كلّه بدءاً من البلاد التي أعطت صكّ الملكية لإسرائيل لكي تحتلّ فلسطين في العام ١٩٤٨، حيث بات يُنظر إلى تفلّت إسرائيل بقيادة نتنياهو على أنه مصدر تهديد لاستقرار دول العالم لا سيّما بعد انقلاب الرأي العام الغربي حدّ اتهام حكومات دولهم بالتواطؤ، استخدمت السعودية أوراق قوّتها وفعّلت ديبلوماسيتها لتأطير هذا الالتفاف العالمي المتزايد حول فلسطين من خلال قرار أمميّ، بالتعاون مع فرنسا، يقضي بالاعتراف بدولة فلسطين.

والتوقيت هنا هو العامل الأساسي في خطوة السعودية هذه، إذ تأتي في ذروة ضغط الرأي العام العالمي على الولايات المتحدة وإسرائيل لوقف حرب الإبادة. من هنا، فإن الاعتراف بدولة فلسطين في هذا التوقيت بالذات سيزيد من عزلة إسرائيل الدولية وسيشكّل عامل ضغط على الولايات المتحدة لوقف الحرب على غزة بشكل عاجل وللجم نتنياهو وسياساته التوسعية واعتداءاته. والأهمّ، هو أن الاعتراف بفلسطين عبر هذا الإجماع الدولي يشكّل ضربة لفكر الصهيونية الذي لا يعترف بالحق الفلسطيني في الوجود، ولا يعترف بوجود أرض فلسطينية، ولا بالهوية الفلسطينية (لذلك تطلق إسرائيل تسمية العرب على الفلسطينيين). لذلك، فإن هذا الاعتراف سيساهم في دعم السردية الفلسطينية وسيعطي الفلسطينيين والدول الداعمة لفلسطين الحقّ والشرعية في الضغط الديبلوماسي للمطالبة بالحقوق الطبيعية لأي شعب في دولته وإن كانت ما تزال مقطّعة الأوصال بفعل الاحتلال.

وعلى المستوى السياسي، فإن الاعتراف بدولة فلسطين للمرة الأولى منذ العام ١٩٤٨ يعني علميّاً إسقاط الشرعية عن كل مشروع بناء المستوطنات الذي تستمرّ إسرائيل في تطبيقه في الضفة الغربية، وهذا بحدّ ذاته ضربة لشرعية المشروع الصهيوني الاستيطاني بكل جوانبه من مستوطنات وبوابات ورسم حدود داخليّة تقطّع أوصال الفلسطينيين، وتقيّد حريتهم وأبسط حقوقهم في العيش وحرية التنقل. في هذا الإطار، ثمّة جزئية أساسية تناقلتها وسائل الإعلام تفيد برسالة سعودية إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تحذّر فيها المملكة من استمرار إسرائيل في سياسة الاستيطان وتهدد فيها بالاستمرار في رفض إبرام أي اتفاقية سلام مع إسرائيل في حال لم توقف الاستيطان. هذا الموقف يضاف إليه موقف الإمارات العربية المتحدة الذي هدّد بتعليق اتفاقية السلام أيضا في حال لم يتوقّف مشروع الاستيطان بالضفة.

من هنا، فإن سقوط الشرعية الدولية عن مشروع الاستيطان الإسرائيلي باعتبار أنه يشكّل احتلالاً لدولة قائمة من شأنه أن يزيد الضغوط الاقتصادية على إسرائيل وذلك عبر فرض العقوبات على المنتجات التي تسيطر عليها إسرائيل في الضفة وتشجع بالتالي أكثر حركة المقاطعة الآخذة بالازدياد والتفاعل حول العالم أيضاً، إن هذا الاعتراف يتيح المجال لإبرام اتفاقيات تجارية واستثمارات مع الحكومة الفلسطينية وعلى الأراضي الفلسطينية ومشاريع دعم للشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها.

بالطبع، لن تكون مهمّة تحويل هذا الاعتراف إلى خطوة عمليّة لحلّ الدولتين على أرض الواقع بالمهمّة السهلة في ظلّ الجنون الإسرائيلي المتفلّت وفي ظلّ الاستقواء بالولايات المتحدة الأميركية. من هنا، يجب أن يسمح هذا القرار بتفعيل الضغط الغربي الشعبي والرسمي لزيادة العزلة الدولية ضد إسرائيل لوقف الحرب على غزة ووقف الاستيطان في الضفة. أيضا، توفّر خطوة المملكة هذه المظلّة العربية لدعم الالتفاف العربي الذي بدأ، وذلك أوّلاً بالضغط السياسي والديبلوماسي السعودي من خلال ورقة “اتفاقية أبراهام”، والتهديد الإماراتي بتعليق اتفاقية السلام، واستمرار الموقف المصري الرافض للتهجير والذي يجب دعمه عربيّاً بكل الوسائل، والضغط الديبلوماسي القطري الذي تصاعد بعد الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة. أمّا الخطوة الأهمّ، فهي الالتفاف حول الدولة الفلسطينية وتحقيق الوحدة الفلسطينية الداخلية التي بغيابها، ستبقى إسرائيل تتحكّم في كل مفاصل الحياة الفلسطينية.

إقرأ على موقع 180  إيلاريون كبوجي.. تليقُ بك أجراس فلسطين

 ويبقى السؤال، كيف ستكون ردّة الفعل الأميركية حول الخطوة السعودية والفرنسية. هل يدفع حلم دونالد ترامب حدّ الهوس لنيل “جائزة نوبل للسلام” إلى ملاقاة المطالب العربية والدولية وتدارك مخاطر سياسة نتنياهو ليس فقط على المنطقة بل على العالم وعلى الولايات المتحدة نفسها؟

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان: السلطات المحلية بين مواجهة خطاب التطرف وتعزيز التماسك المجتمعي