

في لحظة مشحونة بالتحولات الإقليمية والدولية، وقّعت السعودية وباكستان اتفاقية دفاع مشترك اعتُبرت خطوة تاريخية تحمل في طياتها أبعادًا استراتيجية تتجاوز حدود التعاون العسكري التقليدي. فالعلاقة بين الرياض وإسلام آباد ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد لأكثر من ثمانية عقود من التفاعل السياسي والاقتصادي والعسكري، غير أن توقيع هذه الاتفاقية في هذا التوقيت يعكس طبيعة الرسائل المركبة التي ترغب الدولتان في إيصالها إلى الإقليم والعالم.
لا تكمن الأهمية في الاتفاق بحد ذاته فقط، بل في رمزية أن تكون باكستان الدولة النووية الأكثر تأثيرًا في جنوب آسيا شريكًا دفاعيًا للسعودية، وما يحمله ذلك من وزن في ميزان الردع الإقليمي. فهذا التحالف يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة اضطرابات متسارعة، من العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان إلى الفوضى الأمنية في سوريا، ما يجعل تعزيز مفهوم الأمن القومي العربي ضرورة لا خيارًا. في هذا السياق، تبرز الاتفاقية كأرضية يمكن البناء عليها نحو مشروع أوسع يهدف إلى حماية المنطقة من التهديدات المتعددة ولا سيما التهديد الإسرائيلي.
السعودية لطالما نظرت إلى باكستان كحليف موثوق، وقد انعكس ذلك في الزيارات الرسمية المتبادلة على أعلى المستويات، من زيارات الملك عبدالله بن عبد العزيز المتكررة إلى إسلام آباد، وصولًا إلى زيارات الملك سلمان بن عبد العزيز في مراحل مختلفة. هذا العمق في العلاقات يؤكد أن الاتفاقية الحالية ليست مجرد رد فعل ظرفي، بل محطة في مسار طويل من التنسيق الاستراتيجي. وفي الوقت نفسه، فإن التوقيع لا يمكن فصله عن حالة القلق العام التي تخيم على الإقليم، حيث تعمل الرياض على رسم خريطة أمنية تستجيب للتحديات وتحافظ على التوازن، لا سيما في ضوء الإستهداف الإسرائيلي للدوحة، الأمر الذي جعل كل شركاء الولايات المتحدة في الخليج يبحثون عن كيفية تنويع خياراتهم الأمنية لحماية دولهم.
الاتفاقية السعودية – الباكستانية تأتي إذن عند تقاطع الأمن والثروة، الردع العسكري والاستثمار الاقتصادي، الرسائل الإقليمية والمصالح الدولية. وهي إعلان بأن مرحلة جديدة تتبلور: أمن المنطقة لا يُبنى بالصواريخ والدبابات فقط، بل أيضًا بالمعادن النادرة والتكنولوجيا الحديثة، وبشبكة متنوعة من التحالفات السياسية والإستراتيجي
ولا يمكن إغفال زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى السعودية مؤخراً، والتي تشكل مؤشرًا إضافيًا على مسار التقارب السعودي – الإيراني الذي تم تدشينه قبل أكثر من سنتين في بكين. هذا التطور يحمل انعكاسات مباشرة على مجمل الإقليم، خصوصًا إذا ترافقت هذه التفاهمات مع دينامية خليجية أشمل تسعى لوقف العدوان الإسرائيلي المتكرر على العديد من دول المنطقة، وتغيير نظرة العدو الإسرائيلي إلى المحيط العربي، وهو ما شدّد عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال قمة الدوحة الأخيرة، عندما استخدم تعبير “العدو” للمرة الأولى منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.

تجربة باكستان بدورها تقدم نموذجًا لافتًا للانتباه: بلد نجح في استقطاب مختلف المحاور الدولية، وتحول إلى مركز جذب للاستثمارات في البنى التحتية، المعادن، التكنولوجيا، النفط، وصناعة الرقائق الإلكترونية. هذه التجربة تؤكد أن الأمن لم يعد منفصلًا عن الاقتصاد، وأن الثروات المعدنية – كما في باكستان أو السعودية – باتت عنصرًا من عناصر القوة الاستراتيجية التي تتنافس عليها القوى الكبرى، الأمر يذكّر بمحاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاستحواذ على جزيرة غرينلاند لثرائها بالمعادن النادرة، ما يعكس أن صراع المصالح الاقتصادية لم يعد أقل أهمية من التوازنات العسكرية.
الاتفاقية السعودية – الباكستانية تأتي إذن عند تقاطع الأمن والثروة، الردع العسكري والاستثمار الاقتصادي، الرسائل الإقليمية والمصالح الدولية. وهي إعلان بأن مرحلة جديدة تتبلور: أمن المنطقة لا يُبنى بالصواريخ والدبابات فقط، بل أيضًا بالمعادن النادرة والتكنولوجيا الحديثة، وبشبكة متنوعة من التحالفات السياسية والإستراتيجية. وفي هذا السياق، يصبح من غير الممكن الاستمرار في سياسة التطبيع مع إسرائيل التي أثبتت فشلها في حماية الحقوق العربية أو ردع الاعتداءات. المطلوب اليوم مقاربة خليجية وعربية متماسكة تعيد تعريف مفهوم الأمن القومي، وتبني معادلة قائمة على الشراكة الدفاعية، التنمية الاقتصادية، والتكامل الإقليمي.
الاتفاقية السعودية – الباكستانية ليست مجرد وثيقة دفاعية، بل إعلان عن بداية مرحلة جديدة عنوانها ولادة محور أمني–اقتصادي يمتد من الخليج إلى آسيا الوسطى. محور يضع في أولوياته حماية فلسطين ولبنان وسوريا من العدوان الإسرائيلي، ويؤكد أن زمن التفرد الغربي بمقدرات المنطقة قد انتهى. لقد باتت المعادن والثروات والطاقة، كما الصواريخ والطائرات، عناصر متكاملة في معادلة القوة الجديدة. وما تحتاجه الأمة اليوم هو دينامية خليجية–آسيوية قادرة على تغيير موازين الردع، ورسم خريطة تفرض على العدو الإسرائيلي إعادة حساباته، وتؤسس لمرحلة استقلال اقتصادي وسياسي تحمي مصالح شعوب المنطقة وتعيد لها دورها التاريخي في قيادة التوازنات الدولية.