بريطانيا بين اعترافين.. هل يُصلح ستارمر ما أفسده بلفور؟

على أهمية قيادة فرنسا قاطرة الاعترافات الأوروبية والغربية الأخيرة بالدولة الفلسطينية، فإن القرار البريطاني الذي أعلنه رئيس الوزراء كير ستارمر في هذا الشأن، لقي صدى تاريخياً، أوجب المقارنة مع الوعد الصادر عن وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 بـ"إقامة وطن قومي للشعب لليهودي في فلسطين".

قرن وما ينوف على 8 أعوام، فصلت بين الإعلانين. الأول وجد طريقه إلى التنفيذ عقب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 وحرب 1948. أما الإعلان الثاني، فهو عبارة عن خطوة رمزية حتى الآن، لأن الأرض التي يفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية، تخضع للاحتلال الإسرائيلي، بما يجعل إمكانية تجسيد الدولة على أرض الواقع، أبعد مما كانت عليه في أيّ يوم من الأيام.

والظروف التاريخية التي أحاطت بالإعلانين مختلفة اختلافاً يكاد يكون تاماً. بريطانيا عام 1917 كانت تجلس مكان الولايات المتحدة اليوم، كأكبر قوة عسكرية مدعومة ببحرية لا تُصارع وقتذاك، فضلاً عن امتلاكها أقوى اقتصاد مدعوم بمستعمرات لا تغيب عنها الشمس. وعلى رغم ذلك، كان الوهن قد بدأ يدب في أوصال المملكة المتحدة التي انهكتها حرب البوير في جنوب إفريقيا بين عامي 1899 و1902، وبدأت هيمنتها تنزاح تدريجياً لمصلحة قوى دولية أخرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

إسرائيل تحرج ستارمر

بعد الحرب العالمية الثانية وفقدان المستعمرات، ولحظة السويس عام 1956، احتلت الولايات المتحدة المكان الذي شغلته بريطانيا لعقود، وباتت بريطانيا قوة بين القوى الكبرى، على رغم أنها تمتلك أسلحة نووية ومقعداً دائماً في مجلس الأمن، وعضوية في مجموعة الدول السبع الكبرى، ولا تزال إسمياً زعيمة تحالف الكومنولث الرمزي الذي يضم المستعمرات القديمة.

ولا يخامر الشك أحداً، بأن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حزيران/يونيو اعتزامه الاعتراف بدولة فلسطين في سياق زخم ديبلوماسي شاركت فيه السعودية من أجل إحياء فكرة حل الدولتين، قد ساهم إلى حد بعيد في دفع ستارمر إلى الإقدام على الاعتراف مؤيداً بغالبية من نواب حزب العمال الحاكم.

بيد ان قرار ستارمر لم يكُ وليد اللحظة، إذ سبق له أن أعلن في تموز/يوليو الماضي عدداً من المحددات، التي قال إن تجاوبت إسرائيل معها، فإنه سيرجىء الاعتراف. لقد طالب بوقف نار مستدام في غزة وبإدخال كميات كبيرة من المواد الإنسانية لمكافحة الجوع الذي بدأ يستشري في القطاع، وبالتزام إسرائيل سلوك مسار سياسي يوصل إلى حل الدولتين.

الحراك الأوروبي المتصاعد والتحذير من الرد على إسرائيل بإجراءات عقابية في حال أقدمت على ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها، جعل الرئيس الأميركي يعلن أنه لن يسمح لنتنياهو بالإقدام على خطوة التهجير، لأن من شأنها إلحاق أبلغ الضرر بالسياسة الأميركية في المنطقة، وهي لم تكد تتعافى من تداعيات الضربة الإسرائيلية على الدوحة في 9 أيلول/سبتمبر الجاري

لم يتحقق أي شيء من هذه المطالب، لا بل بدأ الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة لاحتلال مدينة غزة في وقت سابق من هذا الشهر، بينما صادق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على بناء 3400 وحدة سكنة جديدة في القدس الشرقية بالمنطقة التي تسمى “إي1″، الأمر الذي من شأنه أن يشطر الضفة الغربية إلى شطرين جغرافيين و”يدفن” بحسب تعبير وزير المال الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، “فكرة حل الدولتين إلى الأبد”.

تصحيح دور أم تاريخ؟

أمام هذا التمادي الإسرائيلي، أعلن ستارمر في 21 أيلول/سبتمبر الجاري في بيان رسمي: “اليوم، ولإحياء أمل السلام وحل الدولتين، أُعلن بوضوح، بصفتي رئيس وزراء هذا البلد العظيم، أن المملكة المتحدة تعترف رسمياً بدولة فلسطين”.

وعلى رغم ان الدولة الفلسطينية لا تزال فكرة أكثر منها واقعاً على الأرض، فإن الاعتراف بها، تستبعه مترتبات قانونية وديبلوماسية. ويكتسب اعتراف بريطانيا وزناً ديبلوماسياً وتاريخياً، نظراً لما لعبه وعد بلفور في تأسيس دولة إسرائيل.

ويعلق السفير الإسرائيلي السابق لدى جنوب إفريقيا آلون ليل، قائلاً لصحيفة “الغارديان” البريطانية: “أرى أن (الاعتراف البريطاني) أكثر من حدث ثنائي. ويجب فهمه من المنظور التاريخي لإعلان بلفور. إنه نوع من تصحيح الدور التاريخي البريطاني”.

انتداب بريطاني جديد

اسم بريطانيا يقفز مجدداً إلى الواجهة مع تكثيف الجهود الدولية لوقف النار ومناقشة من سيتولى إدارة غزة في “اليوم التالي” للحرب. هذه المرة تحضر بريطانيا مع تداول اسم رئيس وزرائها سابقاً طوني بلير، كرئيس للإشراف على هيئة تنفيذية لإدارة شؤون القطاع لفترة انتقالية من خمسة أعوام.

واستناداً إلى مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، فإن هذه الفكرة نضجت خلال اجتماع في البيت الأبيض برئاسة دونالد ترامب في 27 آب/أغسطس الماضي بحضور جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي والمبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، فضلاً عن وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، الذي يعتبر مقرباً جداً من نتنياهو.

وقبل أيام، عرض ترامب على رؤساء دول عربية وإسلامية التقاهم في نيويورك على هامش أعمال الدورة العادية الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، خطة من 21 بنداً تتعلق بـ”اليوم التالي” في غزة، ومن بينها إلى جانب الوقف الدائم للحرب، انسحاب إسرائيلي تدريجي، وإنشاء “السلطة الانتقالية الدولية لغزة” (غيتا) تحت إشراف بلير وسكرتارية تضم 25 شخصاً. وهذه الخطة، التي بنيت على أساس إدارات دولية لمناطق دولية مثل كوسوفو وتيمور الشرقية، تنص على اشراك تدريجي للسلطة الفلسطينية في إدارة القطاع.

إقرأ على موقع 180  ماذا عن نفاق ابن جبير في رحلته بين الفرنجة والمسلمين؟ (2)

لكن لا يعرف ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستقبل بهذه الخطة، التي تفترض ضمناً أن انتهاء دور “حماس” سلطوياً وعسكرياً في القطاع، في وقت يخشى بعض الفلسطينيين، أن تتحول الهيئة المؤقتة لانتداب بريطاني جديد.

وفي الجانب الآخر، يرفض المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية تسليم إسرائيل القطاع لأية هيئة، ويطالبون باستئناف الاستيطان فيه، ويطالبون بضم الضفة الغربية، رداً على الاعترافات الجديدة بفلسطين.

مهما يكن من أمر، ولدت بريطانيا وفرنسا ومن قبلهما أسبانيا، زخماً ديبلوماسياً دولياً، زاد من عزلة إسرائيل، ودفع ترامب إلى مناقشة أفكار، غير تلك التي سبق أن طرحها، كنقل سكان غزة إلى مصر والأردن، ووضع القطاع تحت سيطرة أميركية وتحويله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.

كما أن الحراك الأوروبي المتصاعد والتحذير من الرد على إسرائيل بإجراءات عقابية في حال أقدمت على ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها، جعل الرئيس الأميركي يعلن أنه لن يسمح لنتنياهو بالإقدام على خطوة التهجير، لأن من شأنها إلحاق أبلغ الضرر بالسياسة الأميركية في المنطقة، وهي لم تكد تتعافى من تداعيات الضربة الإسرائيلية على الدوحة في 9 أيلول/سبتمبر الجاري.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  رونين بيرغمان: هل يُخاطر نصرالله رداً على اغتيال العاروري؟