“أنصار الله” في اليمن بين فكي توازنات.. الداخل والإقليم

منذ اندلاع موجة "الربيع العربي" عام 2011، دخل اليمن طوراً جديداً من أطواره التاريخية غير المستقرة. فقد أدت الاحتجاجات الشعبية الواسعة إلى تنحي الرئيس علي عبدالله صالح بعد عقود من الحكم، وانتقال السلطة إلى عبد ربه منصور هادي بموجب ما تسمى "المبادرة الخليجية". غير أن هشاشة التسوية وتعثر المرحلة الانتقالية أوجدا بيئة خصبة لتصاعد نفوذ الفاعلين غير الدولتيي كجماعة "أنصار الله" (الحوثيين).

في العام 2014، تمكن الحوثيون من السيطرة على العاصمة صنعاء، ما مثّل نقطة تحول مفصلية دفعت باليمن إلى مرحلة جديدة من الصراع. ومع بداية عام 2015، تحول المشهد إلى حرب أهلية ذات أبعاد إقليمية معقدة، بعد تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية عبر عملية “عاصفة الحزم” لوقف تمدد الحوثيين واستعادة سلطة الحكومة الشرعية. ومنذ ذلك الحين، تفتت اليمن إلى مناطق نفوذ متعددة: الحوثيون في الشمال، الحكومة المعترف بها دولياً في بعض المناطق، والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً في الجنوب، إضافة إلى نشاط متزايد لتنظيمي “القاعدة” و”داعش” في اليمن في ظل الفوضى الأمنية.

هذا التشظي الداخلي تداخل مع عوامل جيوسياسية خارجية، ليُصبح اليمن ساحة تنافس إقليمي ودولي مفتوحة، حيث تتقاطع فيه حسابات أمنية واستراتيجية متشابكة بين قوى إقليمية كالسعودية والإمارات وإيران، وقوى دولية كروسيا والصين والولايات المتحدة.

الأهمية الجيوسياسية لليمن

يكتسب اليمن أهمية جيوسياسية فائقة بسبب موقعه الاستراتيجي على مضيق باب المندب، أحد أهم شرايين التجارة العالمية وأمن الطاقة، والذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي. هذا الموقع يمنح اليمن وزناً مضاعفاً في حسابات دول الخليج والمجتمع الدولي. كما أن امتلاكه سواحل طويلة وجزراً حيوية مثل سقطرى وميون يضيف أبعاداً أمنية وعسكرية بالغة الحساسية، خصوصاً في ظل سباق محموم على النفوذ في الممرات البحرية الدولية.

اليمن لم يعد مجرد ساحة صراع داخلي، بل تحول إلى عقدة محورية في التوازنات الإقليمية وحتى الدولية. ارتباط الحوثيين بالمحور الإيراني يقابله انخراط قوى محلية أخرى في تحالفات عربية ودولية مناوئة، ما يجعل مستقبل البلاد رهن تجاذبات خارجية وانقسامات داخلية. وفي ظل تصاعد المخاطر على الممرات البحرية وأمن الطاقة العالمي، يبقى الاستقرار في اليمن عنصراً حاسماً للأمن الإقليمي

وتتعامل القوى الإقليمية مع اليمن من زوايا مختلفة: فالسعودية ترى فيه عمقاً استراتيجياً لا يمكن التفريط به، بينما توظف الإمارات نفوذها عبر حلفائها المحليين لتعزيز نفوذها. أما إيران، فتسعى إلى توسيع نفوذها عبر دعم جماعات مسلحة داخل اليمن لتعزيز موقعها الإقليمي في مواجهة خصومها، في حين تركز إسرائيل على حماية مصالحها الأمنية والاستراتيجية، ولا سيما تأمين الممرات البحرية ومراقبة الأنشطة العسكرية المتصلة بالمحور الذي تقوده إيران.

الجذور التاريخية لـ”أنصار الله”

تعود جذور حركة “أنصار الله” إلى تسعينيات القرن الماضي، حين نشأت كرد فعل على التهميش المحلي. بدأت الجماعة كحركة اجتماعية–مذهبية محدودة في محافظة صعدة، قبل أن تتحول تدريجياً إلى قوة سياسية وعسكرية منظمة. الأزمات البنيوية التي عانى منها اليمن، مثل ضعف مؤسسات الدولة، تفشي الفساد، البطالة، والانقسامات المناطقية، وفرت كلها بيئة ملائمة لصعود الحوثيين. ومع تعثر المرحلة الانتقالية بعد انتفاضة 2011، تمكن “أنصار الله” من توسيع نفوذهم والسيطرة على العاصمة صنعاء عام 2014، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع في اليمن وعليه.

وفي حين رأت الرياض في تمدد الحوثيين تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وفّرت إيران دعماً سياسياً وعسكرياً ومالياً للجماعة. هذا الدعم شمل تزويد الحوثيين بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة وتوفير التدريب العسكري والاستخباراتي وتأمين موارد مالية.

إلى جانب إيران، تشير تقارير إلى دعم محدود من روسيا والصين، سواء عبر تمويل غير مباشر أو توفير معدات يمكن استخدامها لأغراض عسكرية وتجارية. وقد مكّن هذا الدعم الحوثيين من تعزيز قدراتهم العملياتية في البحر الأحمر، واستهداف السفن المرتبطة بإسرائيل، وتنفيذ هجمات صاروخية داخل العمق الإسرائيلي.

اليمن و”طوفان الأقصى

عقب عملية “طوفان الأقصى” تم تسليط الضوء على دور “أنصار الله” ضمن معادلات الصراع الإقليمي مع انخراطهم في المعركة إسناداً للمقاومة في غزة، بالصواريخ والمُسيّرات والخطاب السياسي.. غير أن الغارات الإسرائيلية التي استهدفت في أيلول/سبتمبر الماضي قيادات سياسية بارزة للجماعة – وفي مقدمتهم رئيس الحكومة أحمد غالب الرحوي وعدد من الوزراء – شكلت محطة فارقة. العملية منحت إسرائيل نصراً معنوياً، لكنها لم تؤثر على الهيكل العسكري للجماعة ولا على منظومة القيادة والتحكم والسيطرة. فقد سارعت حركة “أنصار الله” إلى تعيين بدائل لمواقعها المدنية واستمرت في التصعيد العملياتي، ما يعكس محدودية أثر العملية الإسرائيلية.

اليمن والصراع الإقليمي الأوسع

إلى جانب الملف اليمني، يتشابك الصراع الإقليمي مع تطورات البرنامج النووي الإيراني. فقد جاء العدوان الإسرائيلي بمشاركة الولايات المتحدة عبر قصف مفاعلي فوردو وناتانز ليُدخل المنطقة في مرحلة تهدئة مؤقتة لم تُنهِ مسار التصعيد. وبرغم توقيع إيران “اتفاق القاهرة” مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاستئناف التعاون الفني، فإن تفعيل الترويكا الأوروبية لآلية الزناد وإعادة فرض العقوبات الأممية زادا من احتمالات تجدد المواجهة العسكرية.

في هذا السياق، يبرز موقع الحوثيين كلاعب محتمل في أي مواجهة مستقبلية بين إيران والمحور الأميركي–الإسرائيلي. فالجماعة تمتلك قاعدة شعبية تتبنى خطاب العداء لإسرائيل والولايات المتحدة، وتستند إلى قدرات عسكرية بحرية وصاروخية متطورة نسبياً تسمح لها بتهديد السفن في البحر الأحمر وضرب أهداف إسرائيلية وأميركية في المنطقة.

إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": الحرب مع حزب الله ستكون مُدمّرة لإسرائيل 

سيناريو سقوط النظام الإيراني

تشكل إيران الداعم الأبرز لجماعة “أنصار الله”، إلا أن احتمالية سقوط النظام الإيراني تطرح سيناريوهات معقدة. أولاً؛ إن فقدان الدعم الإيراني المباشر – مالياً وعسكرياً واستخباراتياً – سيؤدي إلى تراجع قدرات الحوثيين القتالية ولا سيما قدرتهم على استمرار فرض سيطرتهم على مناطق نفوذهم، ما يضعف موقفهم الإقليمي ويحد من قدرتهم على تنفيذ عمليات خارجية. ثانياً؛ سيسعى الحوثيون إلى البحث عن حلفاء جدد، سواء إقليميين أو دوليين، لتعويض الفراغ الذي ستتركه طهران. ثالثاً؛ أن يحاولوا تعزيز استقلاليتهم بالاعتماد على القدرات المحلية من دون التخلي عن موقفهم السياسي. رابعاً؛ من المرجح أن يفرض أي تغير في التوازنات الإقليمية إعادة تقييم استراتيجية الجماعة مع المشهدين الداخلي والإقليمي.. بذلك، يواجه الحوثيون تحدياً مزدوجاً يتمثل في الحفاظ على مكاسبهم السياسية والعسكرية منذ 2014 وضمان استمرار مصادر الدعم الخارجي.

اليمن بين الداخل والخارج

تشير مجمل التطورات إلى أن اليمن لم يعد مجرد ساحة صراع داخلي، بل تحول إلى عقدة محورية في التوازنات الإقليمية وحتى الدولية. ارتباط الحوثيين بالمحور الإيراني يقابله انخراط قوى محلية أخرى في تحالفات عربية ودولية مناوئة، ما يجعل مستقبل البلاد رهن تجاذبات خارجية وانقسامات داخلية. وفي ظل تصاعد المخاطر على الممرات البحرية وأمن الطاقة العالمي، يبقى الاستقرار في اليمن عنصراً حاسماً للأمن الإقليمي.

في الختام، يبقى مستقبل جماعة “أنصار الله” مرتبطاً بشكل وثيق بالديناميات الإقليمية وموازين القوى في المنطقة. فاستمرار الدعم الإيراني سيُحدّد قدرتها على لعب دور فاعل في معادلات الصراع، بينما يُجبرها أي تراجع على إعادة تقييم استراتيجيتها وتعزيز استقلاليتها. كما أن موقعها في اليمن يمنحها تأثيراً على الأمن البحري والتوازنات الإقليمية، ما يجعلها لاعباً لا يمكن تجاهله في أي تسوية أو صراع مستقبلي. بالتالي، سيظل مصير أنصار الله محوريًا في رسم خارطة التنافس الإقليمي.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مصالحة "الأشقاء" العرب.. ومكافاة آل كوشنر