“الانتظام المالي” في لبنان.. ردمُ خسائر أم ردمُ حقوق مودعين؟

في هذا البلد العظيم الذي اسمه لبنان؛ من «قانون الفجوة» إلى «قانون الانتظام المالي» لم يتغيّر سوى العنوان، فيما المسار الإجرائي نفسه يُعيدنا إلى حيث توقّف طرح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. 

هي لجنة مصغّرة من وزيرَي المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان برئاسة رئيس الحكومة، ستنقل خطتها لمعالجة خسائر القطاع المالي وتحويلها إلى مشروع قانون يُحال إلى مجلس النواب.

تبدأ الصيغة من معادلة محاسبية صلبة: مطلوبات تُقارب 80 مليار دولار في مواجهة أصول تُقدّر بـ50 مليارًا وخسائر بنحو 30 مليارًا. هدف حاكم المركزي كريم سعيد، إعادة إطلاق الاقتصاد وإعادة انتظام النظام المالي، لا فتح دفاتر المحاسبة عن كل الارتكابات السابقة.

لذا، وعلى خط التفاوض، ولتقليص الاحتكاك المباشر مع المصارف وجمعيّتها، طرح سعيد الاستعانة بمستشارين خارجيين. وهذا ما حصل. فكانت «أنكورا» لجمعيّة المصارف، «روتشيلد» للمصرف المركزي، و«لازارد» للدولة.

مسارات الخطة.. وكسر القاعدة

تطرح الخطة ثلاثة مسارات متوازية: شطب الفوائد والاقتطاع من الودائع بنحو 34 مليار دولار، تسديد 21 مليارًا للمودعين خلال 3 إلى 5 سنوات، وتحويل قرابة 32 مليارًا إلى أسهم في المصارف أو إلى سندات “زيرو كُوبون” تستحق بعد 15 سنة وِفق خيار المودع.

لكن عمليًا، سيُشطب نحو 40% من الودائع قبل ترتيب المسؤوليات القانونية على نحو يُقدِّم رؤوس أموال المصارف ومساهميها على أموال الناس وأصول المصرف المركزي، وهو ما ينقل الخلاف من خانة الأرقام إلى خانة الإطار القانوني لتمييز الودائع وتراتبية تحمّل الخسارة وِفق قاعدة «مَن استفاد ومَن قرّر ومَن أخطأ يدفع أولًا».

السداد النقدي للمودعين يتوزّع حتى 100 ألف دولار على 3–5 سنوات مع خيار سحب بسقف شهري أو إبقاء الرصيد مضمونًا؛ وبين 100 ألف ومليون دولار على 10–15 سنة بالدفع بالليرة وعلى «سعر السوق»؛ وفوق مليون دولار عبر أوراق مضمونة بأصول يديرها المصرف المركزي (كازينو لبنان، طيران الشرق الأوسط، «إنترا» إلخ) مع احتساب عائد الذهب المُقدّر بين 1–2% سنويًا وإدراج الأوراق في البورصة لإتاحة السيولة الثانوية

على هذا الأساس تُناقَش ثلاث فئات كثيرًا ما تُستعمل كمسوّغات للاقتطاع:

الأولى؛ «ودائع غير مشروعة» يُقال إنها تدفّقت عبر تسهيلات استثنائية وتقصير رقابي؛ اقتصاديًا تشي هذه التسمية بانتفاع غير مستحق، لكن قانونيًا لا يُعتدّ بالوصف إلا بمعايير تحقّق صريحة (مصدر الأموال وتوافق الحركة مع النشاط المصرّح به) وقرائن يُثبتها تحقيق قضائي لا إداري.

 الثانية؛ «فوائد فاحشة» اعتمدها المصرف المركزي لجذب الدولار ونافست عليها المصارف؛ اقتصاديًا هي هندسة عكسية رفعت كلفة رأس المال وأنتجت ربحية ريعية، وقانونيًا تُبحث تحت الفوائد المفرطة والإثراء بلا سبب عند اقترانها بمعلومات مضلِّلة مع بقاء عبء الإثبات على المدّعي.

الثالثة؛ “ودائع غير مؤهلة» نتجت عن تحويلات من الليرة إلى الدولار بموافقة “المركزي” والمصارف؛ اقتصاديًا كانت هذه مقايضة نقلت عبء انهيار العملة إلى ميزانيات المصارف والقطاع العام، والودائع، وقانونيًا لا يجوز نزع أهليتها بأثر رجعي إلا بنصّ خاص صريح وبحدود ضيّقة أو بثبوت تدليس فردي أو مخالفة إلزامية.

طريق المعالجة.. أرقام وثوابت

في تفاصيل الهيكلة تنطلق المعالجة من كتلة ودائع بحدود 83 مليارًا عبر شطب 34 مليارًا بثلاث قنوات: حذف نحو مليارَي دولار من ودائع بلا أصحاب محدّدين مودَعة بأرقام منذ عهود أنظمة عربية سابقة (لكن ماذا إذا انبرى من يُطالب بها فجأة؟)؛ واسترداد قرابة 5 مليارات من فوائد مفرطة قياسًا بالمستويات العالمية؛ وتنزيل يقارب 23 مليارًا عبر تحويل «الدولار المصرفي» إلى «فريش» بحسومات مرتبطة بسعر الصرف الفعلي عند نشأة الوديعة، بحيث يُخفَّض نحو 31 مليارًا مصنّفًا «غير مؤهَّل» كما يسمّونها إلى قرابة 8 مليارات «مؤهَّلة» بنسب حسم تفاضلية تتراوح بين 65% و78%.

أما السداد النقدي للمودعين فيتوزّع حتى 100 ألف دولار على 3–5 سنوات مع خيار سحب بسقف شهري أو إبقاء الرصيد مضمونًا؛ وبين 100 ألف ومليون دولار على 10–15 سنة بالدفع بالليرة وعلى «سعر السوق»؛ وفوق مليون دولار عبر أوراق مضمونة بأصول يديرها المصرف المركزي (كازينو لبنان، طيران الشرق الأوسط، «إنترا»…) مع احتساب عائد الذهب المُقدّر بين 1–2% سنويًا وإدراج الأوراق في البورصة لإتاحة السيولة الثانوية.

محاسبيًا، تكشف بيانات المصرف المركزي عن سيولة بالدولار تقارب 11.7 مليار، وذهب مُقيَّد دفتريًا بنحو 32 مليار دولار، إضافةً إلى ما يقارب 5 مليارات من أصول أخرى تشمل مساهمات في «ميدل إيست» و«إنترا» وعقارات؛ وبذلك يصل إجمالي الأصول إلى ما يزيد عن 48 مليارًا، ما يفرض خفض التزامات تتجاوز 34 مليارًا لصالح المصارف، أي اقتطاعات فعلية من الودائع التي موّلت المصرف المركزي والتي أساءت، بمعنى آخر المصارف الأمانة لجهة استخدامها والمقامرة بها، بشراكة كاملة مع المصرف المركزي الذي كان “يُلزم” المصارف بمعادلاته، سواء أكانت موافقة أم متحفظة أم معترضة، على ذمة أهل القطاع المصرفي.

على المستوى السيادي، تُطرَح آليتان متوازيتان لمعالجة الدين:

الأولى، تحويل كل ما يفوق سقفًا سنويًا متَّفقًا عليه من إيرادات حقيقية مثل الجمارك إلى حساب مخصّص لسداد الفجوة، بإدارة مهنية تحت إشراف المصرف المركزي منعًا لابتلاع الفوائض في ثقوب الموازنة.

الثانية، تجميع الأصول غير المستغلّة من أراضٍ وشركات وفنادق داخل هياكل قابلة للتحويل إلى أسهم على طريقة «سوليدير» بالشكل وليس بالتجربة السياسية، مع إدارة دولية للتخمين والتسييل («مورغان ستانلي» مثالًا)، ومع عرضٍ طوعيٍ واضح التقييم لكبار المودعين لتحويل جزء من ودائعهم إلى مساهمات.

معركة الـ16.5 مليار دولار

ليس الـ16.5 مليار دولار التي يطالب بها مصرف لبنان الدولة اللبنانية، مجرد رقم عابر، بل عنوان لصراع دستوري ومالي يفضح حجم الخلل في إدارة الدين العام وحدود الشرعية القانونية التي تمّ تجاوزها عن عمد.

فالقاعدة الدستورية واضحة: لا يمكن للدولة أن تلتزم بدين عام من دون مصادقة مجلس النواب المسبقة، إما عبر الموافقة على اتفاقية اقتراض مع جهة محددة، أو عبر منح الحكومة إجازة قانونية لإصدار سندات دين. ما يعني أنّ أي التزام مالي لم يمر عبر السلطة التشريعية يفتقر إلى المشروعية. من هنا، يصبح إصرار مصرف لبنان على تسجيل هذا الدين في ميزانية الدولة مجرّد مطالبة سياسية-مصرفية تفتقر إلى السند القانوني.

إقرأ على موقع 180  الوثائق البريطانية عندما تنصف عبدالناصر!

وزارة المالية نفسها لا تعترف بهذا الدين. فهي ترى أنّ مبلغ الـ16.5 مليار دولار ليس دينًا مثبتًا على الدولة، بل مجرّد أرقام أدرجها الحاكم السابق رياض سلامة بهدف تحسين دفاتره المحاسبية وتجميل صورة ميزانية مصرف لبنان. وبالتالي، فإنّ الدولة غير ملزمة بردّه.

القضية إذاً أعمق من مجرد نزاع مالي؛ إنها فضيحة قانونية-اقتصادية. إذ يحاول مصرف لبنان تحميل الدولة دينًا لم تقره مؤسساتها الدستورية، وتحويله إلى عجز محاسبي مسجّل في ميزانية الدولة، في الوقت الذي كان فيه حاكم المصرف يسخّر أموال المودعين لتمويل المصارف والسياسيين، عبر “هندسات” مالية كانت في حقيقتها تهريبًا للثروة الوطنية إلى الخارج.

من هذا المنطلق، تكون معركة الـ16.5 مليار دولار مجرّد محاولة جديدة لتعويم النظام المالي-المصرفي، عبر تحميل الدولة والمجتمع كلفة الانهيار. لكن الدستور أوضح من أن يُلتفّ عليه: لا دين على الدولة بلا قانون، ولا التزام مالياً من دون مشروعية. وكل ما عدا ذلك ليس سوى تزييف محاسبي يراد منه تبرئة الجناة وإبقاء الناس أسرى وهم استرداد الودائع.

يبحث اللبناني عن جملةٍ واحدة صادقة: كيف سيستعيد ماله، ومتى، وبأي عملة، وعلى أي سعر؟ يريد خطة لا تخفي الرصاصة في «عائد الذهب 1–2%»، ولا تهرّب الحقيقة خلف مصطلحات «الأصول» و«الإدارة الموازية»، ويريد مُدانًا واحدًا على الأقل يدفع ثمن ما اقترفت يداه قبل أن يُطلب منه أن يموّل من جديد رأس المال الأثمن في هذه البلاد: الثقة

بين التراتبية القانونية والقوانين المتبدّلة

بالعودة الى قضيّة الودائع، فإنّ قانون النقد والتسليف وهيئات الرقابة (هيئة التحقيق الخاصة، لجنة الرقابة على المصارف) كلها، مُلزمة بصون الاستقرار وحسن الإشراف، وأي تقصير، إن ثبت، لا يبرر نقل الخسارة تلقائيًا إلى المودعين. تراتبية قانون التجارة والمصارف وأخيراً قانون معالجة أوضاع المصارف، ولو جاء مشوّهاً، كلها واضحة: يبدأ بامتصاص رؤوس أموال المساهمين، ثم الأدوات المرؤوسة والرساميل الهجينة، فحَمَلة السندات غير المضمونة، وأخيرًا المودعين مع حماية مشددة للصغار والحسابات المحمية، وذلك تحت مبادئ الثقة المشروعة وعدم رجعية القيود على الحقوق والمساواة أمام الأعباء العامة ومنع التعسّف. وعليه، أي مساس عام بالودائع يمرّ بقانون معياري واضح لا بتعاميم متبدّلة.

في ضوء ذلك، تبدو المقاربة المطروحة مُختلّة في أربع نقاط:

-تقفز فوق التراتبية عبر شطب أفقي قبل استنفاد رساميل المصارف ومساءلة أرباح غير مبرّرة؛

-تُنتج تجريمًا جماعيًا بلا أدلة فردية عبر أوصاف شمولية معرّضة للطعن؛

-تُشرعن سياسة فوائد عامة ثم تعاقب المتلقّين بدل البدء بمن قرّر واستفاد ريعيًا تحديداً من الدعم على أنواعه؛

-تضرب الثقة وتوزيع الأعباء لأن الاقتصاص الأفقي يُعمّق الركود ويُطيل التعثّر ويُقوّض حوافز الادخار والاستثمار.

بالمقابل، يمكن اعتماد مقاربة عادلة تستند إلى تدرّج مُلزِم ومسارات إجرائية واضحة، من نوع إعادة تقييم رؤوس الأموال بالقيم الحقيقية (Mark-to-Market) وشطب حقوق المساهمين أولًا، مع استرداد الأرباح غير المبرّرة (Claw back) من المساهمين والإدارات التي استفادت من هوامش الفوائد والهندسات؛ تحميل الأدوات المرؤوسة والدَّين غير المضمون قبل أي مساس بالودائع؛ تصنيف الودائع بموجب دليل لا وصف، على أساس تدقيق جنائي جدّي، ومكافحة غسل الأموال (KYC/AML) وتواريخ الإيداع وطبيعة الحركة وعلاقة المودع بالمصرف، ضمن مسار طعن إداري وقضائي سريع وملف فردي لكل حالة؛ تحصين صغار المودعين والودائع بعتبة حماية فعلية وجدولة مضمونة تُموَّل من مساهمات إلزامية على أرباح القطاعات الريعية لفترة محدودة، وعائدات خصخصة مدروسة لأصول تشغيلية بحوكمة تعاقدية، وأرباح المصرف المركزي المستقبلية بعد استعادة التوازن؛ وتسوية نقدية-محاسبية شفافة بسعر تسوية معياري وجدولة زمنية موحّدة تمنع تمييز المصارف، مع تدقيق جنائي في قنوات الفوائد والهندسات وتوزيع الأرباح ومساءلة رقابية عند الخطأ الجسيم أو الامتناع.

العدالة والثقة والتدقيق

بالانتظار، يبقى سؤال الثقة والمحاسبة، فيما يمضي مسار «الانتظام» ومعالجة أوضاع المصارف من دون الاقتراب من أي مجلس إدارة. نعم، للدولة مسؤولية، وللناس، ومنهم كبار المودعين، حصة من الحساب؛ لكن المسؤولية الأكبر، بحسب دعاوى وتقارير وتحقيقات متداولة، عن الهندسات وعن تحويلات وأرباح استثنائية لا يجوز أن تُطوى بلا تدقيق ومساءلة.

وبين وعود لمدّخرين صغار بجدولة ممكنة ومقايضة للكبار بأسهم وأصول وبورصة تُعِدّ «أوراقًا» تُسكّن القلق ولا تعالجه، يتقدّم مشروع «الانتظام» في الممر التشريعي، فيما يبحث اللبناني عن جملةٍ واحدة صادقة: كيف سيستعيد ماله، ومتى، وبأي عملة، وعلى أي سعر؟ يريد خطة لا تخفي الرصاصة في «عائد الذهب 1–2%»، ولا تهرّب الحقيقة خلف مصطلحات «الأصول» و«الإدارة الموازية»، ويريد مُدانًا واحدًا على الأقل يدفع ثمن ما اقترفت يداه قبل أن يُطلب منه أن يموّل من جديد رأس المال الأثمن في هذه البلاد: الثقة.

لو كان تغيير الأسماء يُغلق الدفاتر، لسمّينا العجز «وفرة» والدَّين «استدامة» والخسائر «انتظامًا». لكن الاقتصاد لا يُجامل، والعدالة لا تموت.. وإن تأخر “وصولها”. العدالة هي الثقة الأولى والأخيرة.

آن الأوان لتدقيق جنائيّ شامل وجدّيً، لتبيان حجم الدين الحقيقي، والمسؤوليات المباشرة في تضخيم الأرقام ونهب المال العام والخاص، بدل تحويل النقاش إلى معركة وهمية حول مبالغ لا وجود لها قانونًا.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  بداهات الصراع مع إسرائيل.. إقرأوا جوزيف سماحة