هكذا أدارت مصر أزمة حرب غزة

قبل ما يُقارب النصف قرن، وتحديداً في العام 1977، كانت أنظار العام كلها تتجه إلى القدس المحتلة التي قرّر الرئيس المصري أنور السادات أن يكون أول رئيس عربي يزورها رسمياً بعد وقوعها في أسر الإحتلال. مسارٌ تُوّجَ بمعاهدة سلام بين الجانبين في العام 1979 برعاية الولايات المتحدة.

حينذاك، تجاوزت مصر ما قيل إنها “المحرّمات العربية” بالذهاب إلى التفاوض المباشر مع إسرائيل، فقاطعها العرب واتهمت بأنها كانت السبب الرئيسيّ في ما اعتبر “عزل القضية الفلسطينية” آنذاك. شكّلت هذه الخطوة المصرية أحد أهمّ التحوّلات الجيو-سياسية في القرن العشرين وأدخلت الشرق الأوسط في مرحلة جديدة من التوازنات، حيث اعتبرت مصر أن هذا المسار هو الحلّ الأكثر واقعية لتحقيق الاستقرار الإقليمي وضمان أمنها القومي.

قيل آنذاك أن مصر انتهى دورها في الصراع العربي الإسرائيلي، بدليل انشغال قيادتها بقضاياها الداخلية، غير أن الوقائع، وهي غير معزولة عن التاريخ والجغرافيا، أعادت العرب إلى مصر من جديد من خلال إنهاء المقاطعة لتنتقل مصر من دولة مواجهة إلى دولة ضامنة للتوازن الإقليمي، حيث أصبحت القاهرة الوسيط المركزي تحديداً في ما يخص قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، وأولها القضية الفلسطينية. هذا التوجه لطالما كان في صلب عقيدة وتوجهات المؤسسة العسكرية والسياسية المصرية التي لم تتغيّر أهدافها على مرّ التاريخ، من الملكية مروراً بجمال عبد الناصر والسادات وصولاً إلى عبد الفتاح السيسي.

تتكىء السياسة المصرية على ركيزتين أساسيتين هما: السيادة الوطنية والأمن المصري؛ الدور القيادي الطبيعي لمصر بحكم التاريخ والموقع الجغرافي. من هذه الزاوية يُمكن النظر إلى سياسة مصر ودورها على مدى عامين من حرب غزة؛ سياسةٌ كانت عرضة للتشكيك والاتهام في بعض الإعلام العربي والغربي ولدى شرائح لا بأس بها من الجمهور العربي. فمنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت الأنظار تتجه إلى مصر بقدر ما اتجهت إلى غزة وإلى دور ما يعرف بدول وقوى “محور الممانعة”. فكيف تعاملت مصر مع أعقد وأقسى الحروب في التاريخ الحديث؟ وما كان دورها في السنتين الماضيتين وصولاً إلى مشهدية شرم الشيخ الأخيرة؟

أولوية الأمن القومي

بداية، لا بدّ من إعادة التذكير أن غزة، من منظور القاهرة، تُشكّل امتداداً للأمن القومي المصري. لذلك، تقارب القيادة العسكرية والسياسية المصرية هذه القضية، ليس من موقع عاطفي وإنساني وحسب بل من موقع الانحياز الطبيعي للحق الفلسطيني، وهو ما يُشكّل أساس عقيدة الجيش المصري كما الشارع المصري، بل هو أيضاً يرتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالأمن القومي المصري.

إن كل ما تقدّم يساعد القارئ والمتابع على ملاحظة الإطار العام الذي حدّدته القيادة المصرية لموقفها منذ اللحظة الأولى للسابع من تشرين الأول/أكتوبر والذي يمكن اختصاره بثلاث نقاط رئيسية:

أولاً؛ التأكيد على أن ما حدث هو نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة في فلسطين لا سيّما لجهة حصار غزة وتهويد القدس وسياسة الاستيطان في الضفة الغربية.

ثانياً؛ الخوف من تصفية القضية الفلسطينية وبالتالي رسم خط أحمر برفض تهجير أهل غزة إلى سيناء، ما يعني نقل الحرب إلى داخل مصر وتحديداً في سيناء التي ما تزال هدفاً للاحتلال الإسرائيلي في سياق أطماعه التوسعية في المنطقة وفي سياق محاولاته المستمرة لاستهداف دور مصر المحوري في المنطقة وصولاً إلى ضرب الأمن الداخلي المصري وضرب عقيدة الجيش المصري، وهو أقوى جيش عربي في المنطقة عقيدةً وتدريباً وعتاداً. من هنا، لم يكن تهديد الرئيس المصري بتعليق اتفاقية السلام مع إسرائيل بسبب استمرار حرب الإبادة على غزة مجرد صدفة عابرة.

ثالثاً؛ التحذير المصري المباشر الذي وجّهه الرئيس السيسي إلى سكان غزة بعدم مغادرة أراضيهم لأن ذلك يعني عمليّاً “تذكرة ذهاب بلا عودة”، كما قال، محذراً من أن ذلك، إن حصل، سيؤدي إلى سقوط حلّ الدولتين نهائيا ويؤسس لاتساع خطة التهجير وصولاً إلى تصفية القضية الفلسطينية.

هذه المسلّمات الثلاث شكّلت، إذا صح التعبير، الإطار الناظم لتعامل مصر مع أزمة حرب غزة، الأمر الذي مكّنها من استيعاب الضغوط وعدم الرضوخ للحملات التي تعرّضت لها والتي اتهمتها بفرض الحصار على أهل غزة وتجويعهم في محاولة مريبة وفاشلة للضغط على مصر ولحرف الأنظار عن جرائم الاحتلال، أو بالحدّ الأدنى، للهروب من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع في غزة.

وتُعرف الديبلوماسية المصرية بقوّتها الناعمة وبتناغمها مع دور الاستخبارات المصرية؛ لذلك نجدها تتسّم بالحذر والقوة والعقلانية والقدرة على المناورة ولا تنساق وراء الانفعالات.. والأهم الاستفادة من عوامل التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا.

وقد استخدمت مصر بنجاح كل هذه الأدوات حتى وصلت إلى قمّة شرم الشيخ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يعرف معظم من يهاجم مصر ويشكك في دورها بأن كل القنوات المصرية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول أفردت مساحة يومية للقضية الفلسطينية من خلال بثّ الأناشيد والوثائقيات حول المحطات التاريخية الرئيسية في الصراع العربي الإسرائيلي وفي الجهوزية العسكرية المصرية للدفاع عن أرض سيناء وكل الأراضي المصرية. أيضاً، من أشكال المناورة على سبيل المثال لا الحصر، والتي يمكن استحضارها في هذه اللحظة بالذات بعد قمّة شرم الشيخ، التصريح الشهير للرئيس المصري عندما دعا رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في سياق رفضه للتهجير أن يتمّ تخصيص أرض النقب لسكان غزة. حينها، أثار هذا التصريح غضب الإعلام العربي، في حين أنه كان من بين أساليب الضغط المصري الذي يناور دون أن يُسلّم أو يتنازل.

إقرأ على موقع 180  غضب سعودي من التقرير الأميركي.. وخشية من "إجراءات عقابية"

وقائع وتحديات

وإلى شرم الشيخ، كرّست القمة التي انعقدت حقائق عدة من شأنها أن تُعيد رسم المشهد العربي والإقليمي، ولا بدّ من التوقف عندها ورصدها ودراستها في القادم من الأيام وهي:

أولاً؛ حضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى القمّة والتوقيع على ما يعرف بـ”وثيقة السلام”. هذا الحضور لا يمكن تجاهله وبخاصة أنه حدث بعد رفض الرئيس المصري تلبية دعوة ترامب خلال الحرب للاجتماع به في البيت الأبيض بسبب الضغوط الكثيرة التي كانت تمارس على مصر ومحاولة الابتزاز الأميركية المكشوفة لها. ولأن السياسة الخارجية الأميركية الحالية لا يمكن فصلها عن شخصية الرئيس الأميركي والتي تغلب فيها “الأنا” بشكل أساسيّ، فإن ما حدث يشير إلى اعتراف أميركيّ بمحورية دور مصر واستحالة تجاوزها أو القفز فوقها أو ابتزازها.

ثانياً؛ المكان والتوقيت. أشرت أعلاه إلى أنه من صفات الديبوماسية المصرية الحذر والعقلانية في اتخاذ الخطوات ورسم السياسات والمناورة. وفي علم السياسة والديبلوماسية، لا يمكن إهمال أي تفصيل في الشكل، التوقيت، المكان، الخطاب، وفي كلّ تفصيل لأي مشهد. من هنا، لم يكن اختيار مدينة شرم الشيخ صدفة، بل جوهر الرسالة التي أرادت مصر إيصالها، تحديداً للاحتلال الإسرائيلي وللولايات المتحدة ولكلّ الدول التي كانت موافقة سرّاً على خطة تهجير أهل غزة. فشرم الشيخ تقع في جنوب سيناء التي تريد إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الاستيلاء عليها من خلال مشروع تهجير أهل غزة، تارة بالتهديد أو تحت مسمّى “الهجرة الطوعية”.

أيضاً، كانت مدينة شرم الشيخ محتلة من قبل إسرائيل بعد نكسة 1967 حيث أنشأ الاحتلال فيها مستوطنة واتخذها مقرّا لقواته الجوية، ولم تنسحب منها إسرائيل إلا في العام 1982 في سياق تنفيذ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وهو ما حدث على مراحل. من هنا، لا يمكن تجاهل رمزية اختيار هذا المكان لجهة التاريخ والجغرافيا.

من هنا، فإن اختيار هذا المكان في هذا التوقيت ليس صدفة، فالسبب لا يعود فقط لأن شرم الشيخ تعرف بمدينة المؤتمرات والسلام، بل رسالة مصرية إلى من يهمّم الأمر حول قوّة التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن تجاهلها. هذه القوة السياسية توظّفها مصر كجزء من استراتيجيتها لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي وهو هدف لن يتحقق إلا بالاعتراف بحق الفلسطيني في أرضه وهويته وفي عيشه بكرامة.

ثالثاً؛ بالتزامن مع قمة شرم الشيخ، فاجأت مصر الرأي العام بالإعلان عن إتمام تدريب وتجهيز قوات فلسطينية تتألف من خمسة آلاف عسكريّ داخل الأكاديميات العسكرية المصرية لحفظ الأمن في غزة بعد بدء الانسحاب الإسرائيلي. وبالفعل، تشير خطة ترامب إلى التنسيق مع مصر والأردن لدعم قوات الشرطة الفلسطينية لإدارة القطاع بعد الحرب. من هنا، يبيّن هذا الإعلان المصري، بأن مصر كانت تعمل بصمت منذ أشهر طويلة على ما بات يعرف بـ”اليوم التالي” وبخاصة في شقه الأمني لسحب أي ذريعة إسرائيلية في ما يخص عدم وجود قوات فلسطينية مدرّبة.

في الختام، لا بد من القول إنه تبرز أمام مصر والوسطاء تحديات كثيرة حيث تشكّل المرحلة الثانية من الاتفاق الامتحان الأصعب لنجاح التسوية بسبب سجلّ إسرائيل الإجرامي الذي لا يحترم أي اتفاقيات إلا بالضغط الأميركيّ.

يجب القول والتأكيد أن إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة  ما كان ليتمّ لولا صمود الشعب الفلسطيني أولاً، ولولا الضغط العربي الكبير الذي مارسته الدول العربية، لا سيّما الموقف السعودي في رفض إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل قبل وقف الحرب على غزة ووقف الاستيطان في الضفة، وفي النجاح الذي حققته الديبلوماسية السعودية والتي تناولتها في مقال سابق (راجع مقال ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين؟ ١٨٠بوست) في نزع وتكريس الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة بالتعاون مع فرنسا، والضغط الإماراتي بتعليق الاتفاقية الإبراهيمية، والوساطة المصرية القطرية طيلة عامين، ورفض مصر والأردن لخطة التهجير.

في ٤ مارس/آذار ٢٠٢٥، أشرت في مقال لي على أهمية الثنائية السعودية المصرية (راجع مقال ” التكامل السعودي المصري.. أول رد عربي على مخطط تهجير الفلسطينيين على موقع ١٨٠ بوست). انطلاقا من ذلك، يأخذني المشهد في شرم الشيخ بكل تفاصيله وسياقه إلى حقيقة لا تحتمل الشك، وهي أن مصر تشكّل نقطة الارتكاز للأمن القومي العربي ضد الأطماع الإسرائيلية في تصفية القضية الفلسطينية وفي منع حلم إسرائيل التوسّعي.

إن مشهد شرم الشيخ، يضع كلّ الدول العربية، لا سيّما لبنان أمام فرصة تاريخية للاستفادة من الزخم العربي والدولي لحماية أرضه وحدوده من أطماع إسرائيل تحت المظلّة العربية قبل فوات الأوان.

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الصحافة العبرية: بن سلمان يحتمي بالبوليصة الإيرانية رداً على خذلان بايدن