

ما أشبه اليوم بالأمس. بدأت خطة الاستعمار الداخلي “للهنود الحمر” عندما أناطت الولايات المتّحدة بـ”مجلس التعاون الهندي” الممثّل لـ”مكتب الشؤون الهنديّة” كلّ المهمات التي كانت للجيش الأميركي في بلاد الهنود. “كانت الدولة الأميركيّة ترمي “لطواويس” المكتب بالفتات من ثروات شعوبهم لقاء مساعدتها على سلب هؤلاء الأشقياء.. ومنذ 1849 راح هذا الاستعمار الداخلي يخلق للشعب الهندي مشيخات وأمراء وأسر حاكمة من المنتفعين الهنود، تفتك بأهلها لحساب الدولة الأميركيّة ولحساب حركات الاستيطان ومخطّطات الشركات الكبرى، وتسحب الأرض من تحت أقدامهم” (العكش، ص.50).
“رمت الولايات المتّحدة كلّ معاهداتها مع الشعوب الهنديّة في سلّة المهملات. فعندما توقّف الهنود عن المقاومة وتخدّروا بمعاهدات لا تعني شيئاً في منطق العدو، لم تعد هناك حاجة إلى معاهدات جديدة.. لم يستطع مكتب الشؤون الهندية أن يفسّر لماذا لم تتوقّف حرب الإبادة بعد أن ألقى الهنود سلاحهم واستسلموا لمخدّرات “الوعود” بالمستقبل السعيد.. ولماذا يتولّى مكتب الشؤون الهنديّة باسم الهنود أنفسهم تحقيق استراتيجيّة “شعب الله المختار” في الاستيطان والنّهب والإبادة” (العكش، ص. 64).
ما أشبه اتفات “السلام” العربيّة والفلسطينيّة مع العدو الصهيوني، التي عُقدت بأوامر أميركيّة، بمعاهدات أميركا مع الشعوب الأصلية إبان حروب إبادتها. أخذت أميركا والكيان الصهيوني ما تريدانه من تلك المعاهدات ورمت بما تبقّى إلى سلّة المهملات التاريخيّة. لا حقوق للشعب الفلسطيني، حتّى لا حقّ له بالبقاء. ما أشبه مكتب الشؤون الهنديّة وطواويسه بما آلت إليه “السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة”، وليدة اتفاقيّة أوسلو الأميركيّة، والتي انتقلت قوى الثورة الفلسطينية بموجبها من خارج فلسطين المحتلّة إلى سيطرة وإشراف الاحتلال الصهيوني. وماذا تعني “الوطنيّة” المستسلمة لأبشع أنواع الاحتلال الاستيطاني، ولاستبدال المقاومة بـ”سلاح” المفاوضات والمعاهدات. إنّ “مكتب الشؤون الهنديّة” لم يذهب إلى قتال سوى قوى المقاومة الهنديّة، إذا وُجدت، كما تفعل شرطة “السلطة الوطنية الفلسطينية” التي تحوّلت إلى أداة قمع للشعب الفلسطيني ومقاومته المسلّحة، تشارك عمليّاً في إبادته.
تقول تقارير لجبهة التحرير الجزائريّة، لم تُنشر لكن نقلتها الثورة الجزائريّة لحركة القوميّين العرب، إنّ الجزائر فقدت إبان الثورة 650 ألف قتيل، وليس مليون ونصف كما يُشاع، وإن نصف هؤلاء القتلى سقطوا على يد رجال الثورة الجزائريّة، إذ كانوا من الجزائريّين المتعاونين مع الاحتلال الفرنسي. ٍكان قتل هؤلاء ضرورة استراتيجيّة لانتصار المقاومة الجزائريّة وتحرير البلاد.
مستقبل النظام الدولي
لم يمثّل سقوط الاتحاد السوفييتي عند أواخر ثمانينات القرن الماضي “نهاية التاريخ”، ولم يرسُ العالم في “دفء” النظام الرأسمالي الديموقراطي الأميركي، كما حلُم بعض مفكّري أميركا وقادتها. مثّل نهوض الصين ونمو قدراتها الشاملة وثقافتها المغايرة نهاية القطبيّة الأميركيّة الوحيدة للنظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. أضف إلى ذلك تمكُّن الاتحاد الروسي من الإفلات من قبضة أميركا الخانقة وإعادة بناء قدراته الاقتصاديّة والعسكريّة، ولو جزئيّاً، وتحالفه مع الصين، برغم الإبقاء على نظامه الرأسمالي الذي بنته أميركا لروسيا. ثمّ كان توسّع دائرة الخارجين عن الهيمنة الأميركيّة من دول العالم الثالث. لم يقبل الغرب الأميركي-الأوروبي روسيا بنظامها الرأسمالي الجديد كجزء من أوروبّا الغربيّة، كما أنّه لم يقبل تركيا برغم غربنتها على يد أتاتورك وانضمامها لحلف الناتو كجزء من أوروبّا.
يستمر التناقض والصراع بأشكال عدّة بين الشرق والغرب، بين دول الشمال ودول الجنوب، بين مراكز النظام الرأسمالي العالمي وأطرافه. يستمرّ التناقض والصراع بين الفقر والتنمية، بين الأغنياء والفقراء، داخل الدول وبين دول العالم. من أجل تغيير النظام الرأسمالي الأميركي العالمي وقيام نظام عالمي جديد، متعدّد الأقطاب والثقافات، أكثر عدالة وأمناً، أقل عنفاً، “يكترث” لحقوق الإنسان، يحافظ على البيئة ومستقبل الكرة الأرضيّة.. سيستمر الصراع بأشكال مختلفة على الصعيد العالمي.
تعمل أميركا بشتّى الوسائل للإبقاء على هيمنتها العالميّة، وتعمل على إعادة صياغة النظام العالمي بما يساعد على ذلك، وخاصّة في منطقة “الشرق الأوسط”، أي المشرق العربي ومحيطه الإسلامي، حيث تشنّ الحروب وتطلق الدسائس، ليكون القرن الحالي “قرناً أميركياً” بامتياز. تعمل أميركا علناً على الاستيعاب المزدوج للصين وروسيا الاتحاديّة وتنصيب نموذجها وتابعها الصهيوني على نظام الشرق الأوسط الجديد. تصبّ كلّ وحشيّتها في شنّ حروب الإبادة لإعاقة بناء الشرق الأوسط كما تطمح له شعوبه، وبخاصّة بعد أن فشلت أميركا في حربها الأوكرانيّة في إسقاط “بوتين” وإعادة روسيا إلى حضيرتها. تعمل أميركا لعزل إيران وتقليص قدراتها، لشنّ حرب قاضية عليها، ولو بتقديم “تنازلات” كبيرة لروسيا في أوكرانيا وإسقاط التحالف الإيراني الاستراتيجي مع روسيا.
النهوض الصيني
يمثّل الشرق الأوسط تحدّياً تاريخيّاً دائماً للحضارة الأوروبية المسيحيّة الرومانيّة وثقافتها المتعارضة مع أخلاقيّات المسيحيّة الشرقيّة ومُثلها، كما للعدوانيّة الأوروبية التي تمثّلت بالحروب الصليبيّة وحروب التوسّع الاستعماري، وصولاً إلى الحروب الأميركيّة العدوانيّة المباشرة وغير المباشرة على العالم العربي خاصّة.
تعمل أميركا على أسر دول وشعوب الشرق الأوسط في دائرة التخلّف والعجز الشاملَين. نفّذت سياساتها هذه عبر السيطرة الاقتصاديّة والسياسيّة والانقلابات والاجتياحات العسكريّة، بالوكالة تارةً وبالمشاركة مع قوى أخرى مباشرة في بعض الأحيان. دمّرت أميركا العديد من الدول العربيّة المتمرّدة على سيطرتها، مثل الصومال والعراق وليبيا والسودان وسوريا ولبنان المقاومة، وأعاقت نمو مصر واستنزفتها عبر اعتداءات “إسرائيل” وحرب اليمن. عملت أميركا وما زالت على تحميل أعباء أزماتها إلى دول أخرى حليفة وصديقة أو تابعة لها، وإلى كافة أنحاء العالم الرأسمالي بشكل عام.
جدّد نهوض الصين الحرب الباردة التي بدأت مع نهاية الحرب العالميّة الثانية وانتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي. شكّلت الصين منذ بدايات القرن الحالي منافساً اقتصاديّاً لأميركا وتهديداً لقطبيّتها الواحدة. لم تستطع أميركا إعاقة نمو قدرات الصين، لحجم الصين وطبيعة نظامها واعتمادها في نهضتها الاقتصاديّة على قواها الذاتيّة. رفعت الصين معدّلات الادخار الوطني فيها إلى مستويات مذهلة، وحوّلت المدّخرات إلى توظيفات منتجة. مع نمو التهديدات العسكريّة الأميركيّة، لم تدخل الصين سباقاً مسلّحاً موازياً للتسلح الأميركي المكلف، بل اعتمدت سياسات التسلّح غير الموازي، كما بالاعتماد على سلاح الصواريخ، ونجحت في ذلك.
نمت القدرات الصينيّة الشاملة، في كل الميادين، بمعدّلات مرتفعة جداً. لحق الناتج المحلي الصيني الحقيقي بالناتج الأميركي الحقيقي عند تعادل القوة الشرائية (at PPP) في سنة 2011، حسب صندوق النقد الدولي، وتجاوزه بنسب عالية حتّى الآن، ربّما بأكثر من 35%. إن القدرات الاقتصاديّة تشكّل المحدِّد الأهم للقدرات العسكريّة. لحقت القدرات العسكريّة الصينيّة بالقدرات الأميركيّة وتجاوزتها في عددٍ من الميادين. بجانب التفوّق الكبير للصين في سلاح الصواريخ، والذي تمكّن منذ عقود من طرد حاملات الطائرات الأميركيّة إلى وراء خطّ الجزر الكبرى الممتدّة من اليابان حتّى غوام، حيث أصبح البرّ الصيني خارج متناول حاملات الطائرات الأميركيّة. تجاوز حجم الأسطول البحري الصيني حجم الأسطول الأميركي من حيث عدد سفنه وحداثتها. نمت قدرات الصين على بناء السفن بشكل مذهل، بينما تقلّصت قدرات أميركا على بناء السفن. تقول مجلّة “الإيكونومست” إن الصين رفعت قدراتها في بناء السفن من 5% من الطاقات العالميّة في تسعينيات القرن الماضي إلى نسبة 50% الآن، بينما تدنّت قدرات أميركا اليوم إلى 0.1% من القدرات العالميّة، مما جعلها تعتمد على قدرات اليابان وكوريا الجنوبيّة في ذلك المجال. حقّق برنامج الصين “أفق 2025″، والذي وُضع في سنة 2015 والهادف إلى تقدّم الصين في العلوم والتقنيّات الأحدث إلى مصافي مقدّمة دول العالم، نجاحاً كبيراً ومذهلاً أيضاً. أسقط برنامج Deep Seek مقولة تقدّم أميركا في مجال المعلوماتيّة والذّكاء الاصطناعي. كما تتقدّم الصين بأشواط كبيرة في مجال صناعة السيّارات الكهربائيّة ومدخلاتها، وتتقدّم أيضاً في مجالات التعدين الذي تزداد أهميّته مع تقدّم العلوم والتقنيّات.
إن نمو حركات التحرّر الوطني وانتشار قطاع الصناعات التحويليّة في العديد من دول العالم الثالث، ولو كان في مراحل النموّ الأوّلى (إنتاج بعض بدائل الاستيراد)، مضافاً لنمو طاقات الإنتاج الصينيّة، أوقع مراكز النظام الاقتصادي العالمي، وبخاصّة في أميركا، في عجوزات كبيرة من حيث ميزان المدفوعات الجاري، وراكم في دول مراكز النظام الرأسمالي العالمي عجوزات ماليّة كبيرة، ولا سيما في أوروبّا. يتسارع نمو العجوزات الأميركيّة في السنوات الأخيرة، حيث بلغت نسبة عجز الماليّة الأميركيّة 6.9% من الناتج المحلّي الأميركي، ويمكن أن يصل هذا العجز في السنة الجارية إلى أكثر من 8% من الناتج المحلّي.
بسبب عمق هذه الأزمات الماليّة والاقتصاديّة، خرجت السياسات الخارجيّة الأميركيّة في مجالات التجارة مع الدول الصديقة كما المناوئة، في عهد ترامب الجديد، إلى نطاق اللاعقلانيّة والمغامرة. تسعى أميركا إلى زيادة إنفاقها العسكري (تستعمل قدراتها العسكريّة لدعم شركاتها المعولمة وتجارتها الخارجيّة) بالرغم من ضائقتها الماليّة، مّا يفاقم عجوزاتها ويرفع من مستوى ديونها العامّة التي بلغت عند نهاية سنة 2024 أكثر من 36 تريليون دولار (بلغ ناتج الولايات المتّحدة في ذلك الحين أقل من 30 تريليون دولار). إنّ محاولة ترامب استعمال الضرائب الجمركيّة لحماية اقتصاد بلاده وتحسين موازينها التجارية والماليّة يعطي نتائج سلبيّة ويسارع في عزل أميركا وتعميق مآزقها الاقتصاديّة.
سياسات ترامب ووقعها داخلياً وخارجياً
عاد ترامب إلى البيت الأبيض بفعل فشل السياسات الاقتصاديّة لسلفه جو بايدن، وعلى أمل تحقيق وعودٍ اقتصاديّة ورديّة أطلقها ترامب في حملته الانتخابيّة. هل كانت الأزمات الماليّة والاقتصاديّة نتاج ضعف القيادة السياسيّة الأميركية السابقة، أم نتيجة مسارٍ تاريخيٍّ للنظام الرأسمالي الأميركي العالمي؟ هل أن أزمات أميركا مجرّد أزمات خللٍ مالي يمكن إصلاحه بقرارات تنظيميّة وإداريّة وضرائبيّة، أم أنّه أعمق من ذلك وأشمل؟
تعود الأزمة الاقتصاديّة الأميركيّة إلى متغيّرات عالميّة لم تستطع أميركا منعها أو قمعها، وإلى متغيّرات داخليّة أميركيّة أيضاً. لم يعد باستطاعة النظام الأميركي تأمين متطلّبات “نمط الحياة الأميركيّة” عبر النهب الإمبريالي العالمي. تقلّصت سيطرة أميركا على دول العالم وشعوبها، كما على الاقتصاد العالمي. تراجعت القدرات التنافسيّة الأميركيّة نسبيّاً في العالم. تمكّنت شعوبٌ ضعيفة نسبيّاً من مجابهة العدوانيّة الأميركيّة. تحمّلت هذه الشعوب الكثير من الدمار والخراب والقتل الأميركي، ولكنّها انتصرت في النهاية بصبرها وتصميمها وتضحياتها، برغم ضعف إمكاناتها القتاليّة.
أدّت العوامل الخارجيّة وانعكاسها على الداخل الأميركي إلى توسيع الهوّة بين الاستهلاك الأميركي وإنتاجيّته، ووارداته الخارجيّة المتاحة.
عاد ترامب إلى البيت الأبيض شديد الثقة بقدراته، واثقاً من أن الله يحميه ويدعم أحلامه: يريد ترامب أن يجعل من هذا القرن قرناً أميركيّاً بامتياز (كبعض سابقيه) ويستعيد عظمة أميركا. يريد تأبيد النظام الرأسمالي الأميركي وهيمنته العالميّة. يريد تحقيق انتصارات كبيرة وضمّ أراضٍ جديدة “بالعنف المقدّس”. يريد أشياء كثيرة ويعتقد أنّ عناده وتصميمه يعوّضان عن نقصٍ في إمكانيّات بلده. لا يفهم ترامب قيم الشعوب المختلفة عن قيمه. ليست الأوطان للبيع، ولو كانت مدمّرة. ليست غزّة للبيع. يبقى الوطن وطناً ولو تمّ تدميره؛ يبقى حيّاً ونابضاً في وجدان الإنسان وعقله وآماله وتطلّعاته. تبقى لديه رغبة العيش فوق ركامه وأنقاضه، ويعمل على إعادة بنائهٌ مهما كانت الصعاب ومهما كثرت المخاطر. المقاومة تعبيرٌ عن إرادة الحياة وعن غريزة الدفاع عن الذات، عن الهويّة الجامعة. يرى ترامب مقاومة العدوان الأميركي وجرائمه إرهاباً يستدعي حروب إبادة وفتح أبواب جهنّم في وجه المقاومين، ويرى في تخلّف قدرات أميركا التنافسيّة وجوعها لاستهلاكٍ يفوق إنتاجها حقّاً لها على شعوب العالم، وأن ديونها الناتجة عن جوعها للاستهلاك، “سرقةً” لها.
لن يستطيع ترامب تحميل دول العالم وشعوبه عبء تصحيح عجز ميزان المدفوعات الخارجي عبر فرض ضرائب جمركيّة مرتفعة على وارداته من هذه الدول، وعبر محاولته تحميل المصدّرين عبء هذه الضرائب، أو معظمها على الأقل. إنّ السوق وآليّاته سيحمّل عبء هذه الضرائب أو معظمه للمستهلكين الأميركيّين، عبر رفع الأسعار. يُنتج ذلك مزيداً من التضخّم، ثم ارتفاعاً في معدّلات الفائدة، ثم زيادة في عبء خدمة الدين الأميركي، أي سيؤدي إلى تسارع نمو المديونيّة الأميركيّة. فالضرائب الجمركيّة المرتفعة على الواردات ستنتج تدنّياً في مستوى الدخل الحقيقي للطبقات العاملة، أي مزيداً من الفقر والتشرّد. ربّما أدّت سياسات رفع الضرائب الجمركيّة إلى إلحاق أضرارٍ بالاقتصاد الأميركي أكثر ممّا تلحقه بالدول المصدّرة.
هل ستدفع سياسات ترامب الاقتصاديّة والعسكريّة العالم إلى حرب عالمية ثالثة يدرك ترامب مخاطرها؟ من شبه المؤكّد أن ترامب يدفع دول العالم إلى تخوم حرب عالميّة جديدة، وبخاصّة في منطقة الشرق الأوسط.
خسرت أميركا حرب أوكرانيا، أو هي تخسرها تدريجيّاً. لم تنتج هذه الحرب استنزافاً لروسيا وإيقاعاً لها من جديد في أحضان أميركا منهارة بائسة. إنّ هذه الحرب استنزفت أميركا وأوروبّا ودفعت بالحلف الأطلسي إلى شفير الهاوية. يعترف ترامب تقريباً بخسارته الحرب، فيدعو إلى إيقافها ويحاول الاستعاضة عنها ربّما بتحقيق مكاسب استراتيجيّة كبيرة لأميركا في الشرق الأوسط، وتدفيع دويلات الخليج الغنيّة، من أشباه المستعمرات، فواتير حروبه في الشرق الأوسط. تنقل أميركا أولويّاتها الاستراتيجيّة من أوروبّا إلى آسيا، حيث انتقلت مراكز الاقتصاد العالمي، وإلى الشرق الأوسط حيث تسترخص أميركا الدم العربي، بعد أن حقّقت انتصاراتٍ كثيرة فيه وبأكلاف معقولة.
تعمل أميركا على إعادة بناء الشرق الأوسط بحروبها التدميريّة الشاملة عبر الكيان الصهيوني الذي جعلته قاعدة استعماريّة استيطانيّة ذات أيديولوجية صهيونيّة استئصاليّة تحمل التراث التلمودي بكل أبعاده المناقضة للإنسانيّة والسلام، وتجعل من هذا الكيان أداة توسّعٍ جغرافي وأداة إرهابٍ تخيف به شعوب الشرق الأوسط ودوله، تُخضعها للابتزاز وتحشدها تحت الهيمنة الأميركيّة-الصهيونيّة، فهل تنجح أميركا في ذلك؟ هل تستطيع إنهاء المقاومات لها ولأحلامها؟ هل تستطيع أن تعيد الشرق الأوسط إلى القرن الثامن عشر؟
حرب الإبادة الأميركيّة في فلسطين ونتائجها
لم تكن حرب الإبادة التي شنّها العدو الأميركي-الصهيوني حرباً محدودة المدى والأهداف. كانت غزّة تمثّل عين العاصفة، لكنّ العاصفة شملت كلّ الأرض المحتلّة ومحيطها العربي والإسلامي. أراد العدو المركّب أن يجعل من دمار غزّة وإبادة شعبها مثالاً يخيف به بقيّة قوى المقاومة ويُقعِدها، ويُظهر للعالم قدرات التدمير الأميركيّة، وعدم الاكتراث بالمعايير والقيم الأخلاقيّة، كما بالمعاهدات والأعراف الدوليّة، والتي تضع حدوداً لوحشيّة الحروب، لكون أميركا دولة “استثنائية”، فوق كلّ القوانين والأنظمة والأعراف الدوليّة. تعمل أميركا على حكم معظم دول العالم بالتخويف من قدراتها التدميريّة، العسكريّة والاقتصاديّة، وشنّ هجماتها بكل قدراتها العسكريّة والاقتصادية والسياسية والاعلاميّة. لا تخفي أميركا جرائمها ضد الانسانيّة، وتُظهرها عمداً وتفتخر بها، لبثّ الخوف لدى الآخرين.
كان لحرب غزًة المتمادية نتائج عديدة، أهمّها التالي:
- نجح العدوان في إحداث دمار شبه شامل في البنية التحتيّة لغزّة، بحيث جعلها فعليّاً “غير صالحة للسكن”، كما يقول ترامب. كما قُتل عمداً أكبر عدد ممكن من السكان بحرب إبادة، وأُبيدت أكثر من 2200 عائلة فلسطينيّة (إحصاءات ربيع العام 2025)، على مرأى ومسمع كلّ دول العالم وشعوبها. إنّ عذابات الشعب الفلسطيني جرّاء العدوان الأميركي-الصهيوني، بالقصف والتجويع والتشريد (والذي بدأ فعلاً منذ سنة 1947)، لم يشهد العالم الكثير من أمثالها عبر التاريخ.
- توسّعت حرب الإبادة هذه إلى لبنان والضفّة الغربيّة المحتلّة واليمن، بهدف اقتلاع المقاومة منها ونمو المستعمرات الصهيونيّة لتضم كل أرض فلسطين. كما امتدّ قصف الطائرات إلى اليمن وإيران، وبأحدث ما أنتجته التقانة العسكريّة الأميركيّة من قنابل.
- لعب سلاح الجو الأميركي، المتفوّق والمسيطر على الأجواء، دوراً أساسيّاً في حرب الإبادة هذه. عمل سلاح الجو بشكلٍ مستقل عن سلاحي المدرّعات والمشاة، وأنزل دماراً كبيراً ومجازر في أماكن لم تصلها المدرّعات والمشاة.
- أسقطت هذه الحرب وبشكل غير مباشر النظام السوري المحاصر منذ أمدٍ طويل، عبر كشف عجزه، فهو كان في حالة شبه “موتٍ سريري”، بحيث لم يشارك بأي شكل في المعركة القائمة على أرضه في الجولان المحتل. سقط النظام السوري في أيدي “قوّة هامشيّة” للمعارضة. لم يدافع عنه أحد. استغلّ العدو المركّب هذا العجز الكلّي ليحتلّ مزيداً من الأرض السوريّة ومواقع استراتيجيّة مهمّة جدّاً في الجولان، ولتدمير أكثر من 80% من أسلحة الجيش السوري التي تمّت مراكمتها عبر عشرات السنين وبكلفةٍ مرتفعة.
- نجح العدو الأميركي-الصهيوني، نتيجة ما أنزله من خسائر ماديّة وبشريّة فادحة بالمقاومة، واغتيال قائدها التاريخي والمميّز، وبفضل ما أثارته أميركا من ضغوطات سياسيّة لبنانيّة، بدفع المقاومة “للانسحاب” من المعركة التي كانت تخوضها إسناداً المقاومة الفلسطينيّة. وافق حزب الله على سحب قواه إلى ما وراء نهر الليطاني، تاركاً تحرير بعض الجنوب المحتل للحكم اللبناني القديم-الجديد، كما ترك فعليّاً الجنوب هدفاً سهلاً للاحتلال.
- لأوّل مرّة في تاريخ الصراع العربي-“الإسرائيلي” يتمّ قصف المثلّث “الإسرائيلي” الحيوي (تل أبيب – حيفا – القدس) حيث الثقل الاقتصادي والسياسي والبشري للكيان الصهيوني، حيث تتركّز قدراته الصناعيّة المتقدّمة وإداراته المركزيّة. لم تنجح وسائط الدفاع الجوّي، التي تمّ بناؤها بقدرات ماليّة وتقنيّة أميركيّة، من حماية “قلب إسرائيل” من سلاح الصواريخ المتوسّطة والبعيدة المدى ومن سلاح “المسيّرات” ذات الكلفة المتدنّية نسبيّاً والقدرات العسكريّة المتقدّمة، والتي ينمو دورها سريعاً في القتال الحديث.
أفرغت المقاومة، وبخاصّة صواريخ حزب الله، المستعمرات الصهيونية في شمال كيان الاحتلال من سكّانها، برغم كلّ “الحمايات” الصهيونيّة لهذه المستعمرات وسكّانها. لتهجير سكّان المستعمرات أهميّة اقتصاديّة كبيرة وأهميّة سياسيّة أكبر. إن نسبةً مرتفعة من المهجّرين “الإسرائيليّين” تركوا الكيان نهائيّاً باحثين عن أوطانٍ جديدة لهم. أُقيم هذا الكيان من قِبل قوى الاستعمار الغربي ليكون وطناً قويّاً آمناً للشتات اليهودي، يؤمّن لهم الاستقرار والسلام والأمن بعد تعرّضهم للكثير من المجازر في أوروبّا. نجحت “المقاومة” في جعل هذا الكيان المكان الأقلّ أماناً لليهود في العالم، وأطلقت ظاهرة الهجرة المضادّة المتصاعدة. تعمل أميركا واليمين الصهيوني الحاكم على إقناع سكّان المستعمرات ومن غادر منهم الكيان بالعودة عبر اقتلاع المقاومة وضمان عجزها على التجدّد والبقاء، أو قيام مقاومةٍ جديدة بديلاً عنها، كما عبر قتل أكبر عددٍ ممكن من الفلسطينيّين وتهجير من تبقّى منهم على قيد الحياة. يعمل العدو المركّب على الحفاظ على التفوّق الديموغرافي اليهودي، والذي اختلّ قبل المعركة، ممّا دفع الكيان إلى التشريع لإسقاط الحقوق السياسيّة للفلسطينيّين في ظلّ الاحتلال ونزع قناع “الديموقراطيّة” عن وجه العدو العنصري الفاشي الصهيوني. إن بقاء المقاومة وقدرتها على التجدّد وخوض المعارك ضدّ الكيان الصهيوني، كفيلٌ بإفشال كلّ المخطّطات الأميركيّة-الصهيونيّة، العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة، على صعيد منطقة الشرق الأوسط.
تسبّبت حرب الإبادة الأميركيّة-الصهيونيّة، في ظلّ متغيّراتٍ عالميّة وتقنيّة (كما في وسائط الاتّصالات والإعلام) والتراجع النسبي للقدرات الأميركيّة الشاملة وولادة نظام عالمي جديد، في كشف حقيقة دور أميركا، ليس فقط كشريكةٍ في حرب الإبادة، بل كقائدةٍ فعليّةٍ لها. أصبح البيت الأبيض مركز القرار في إطار حرب الإبادة المستمرّة ضدّ الشعب الفلسطيني، وفي صياغة نظامٍ شرق أوسطي جديد. وكشفت هذه الحرب حقيقة الكيان الصهيوني ودوره في المنطقة، وكشفت استتباع هذا الكيان لأميركا وكيف تقمّصت الصهيونيّة، التي كانت ضحيّة النازيّة بشكلٍ ما، دور الجلّاد النازي وتجاوزته في وحشيّتها وإجرامها عبر وسائل القتل والإبادة الأميركيّة الجديدة.
مكّن سقوط القناع عن وجه أميركا البشع واستنزاف طاقاتها الماديّة وسمعتها في حروبها الإمبرياليّة، واتّساع ضغوطات الرأي العام العالمي، مكّن العديد من مؤسّسات النظام العالمي من التحرّر من الضغوط الأميركيّة واتّخاذ قرارات شجاعة ضدّ الإدارة الأميركيّة ومصالحها. دفع ذلك أميركا إلى الانسحاب من العديد من الاتفاقات الدوليّة ومن عضوية العديد من مؤسّسات النظام العالمي. تضعف هذه التطوّرات القدرة الشاملة للعدو الأميركي، وتشجّع مزيداً من الدول على التمرّد على قراراته وأوامره، وبخاصّة في العالم الثالث.