السؤال الذي ظل معلقًا لسنوات طويلة سيجد إجابته الآن: كيف تم اغتيال المهدي ومن كان وراءه؟
الكتاب يعد بتقديم حقائق صادمة طال انتظارها، مرتكزًا على وثائق ومراسلات سرية تُنشر للمرة الأولى. من جهة، يُشير الكتاب بإصبع الاتهام إلى الدور المباشر الذي لعبه القائد العسكري القوي آنذاك، الجنرال أحمد الدليمي، في عملية الاغتيال، مُقدمًا تفاصيل حاسمة عن دوره. من جهة ثانية، يكشف الكتاب خيوط تواطؤ خطير وغير مسبوق بين جهاز الأمن المغربي، خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني، والمخابرات الإسرائيلية “الموساد” لتنفيذ هذه العملية الإجرامية في قلب العاصمة الفرنسية.
هل ستضع هذه الوثائق حدًا نهائيًا لواحد من أكثر الأسرار إثارة في التاريخ السياسي المعاصر؟
***
في نهاية الشهر الحالي، تكتمل ستة عقود تفصلنا عن ذلك اليوم الخريفي المشؤوم، (الجمعة 29 تشرين الأول/أكتوبر 1965)، الذي شهدت العاصمة الفرنسية باريس في منتصف نهاره، عملية إجرامية غادرة، تم فيها تغييب الزعيم التاريخي لليسار المغربي المهدي بن بركة.
لم يكن اختفاء عادياً، إذ بقي بن بركة منذ ذلك التاريخ رمزًا حيًّا في الذاكرة المغربية والأممية. متحولاً إلى أسطورة ملمحية ما زالت حتى اليوم تقض مضاجع من يقفون وراء تلك الجريمة.
تؤكد المذكرات والتقارير التي ظهرت على مدى العقود السالفة، أن بن بركة لم يكن سوى ضحية مؤامرة دولية كبرى؛ جريمة سياسية اجتمع على تنفيذها تحالف شيطاني من أربعة أجهزة مخابراتية قوية:
مخابرات “الكاب 1” تحت الأوامر المباشرة للحسن الثاني؛ “الموساد” الإسرائيلي؛ المخابرات الأمريكية (“سي آي إيه”).. وبالطبع، مخابرات البلد الذي نفذت فوق أرضه الجريمة، أي المخابرات الفرنسية.
***
منذ اللحظة الأولى للجريمة، لم تتوقف آلية التضليل الممنهج. سارعت الأبواق الرسمية إلى تلفيق “نكت سمجة” عن “تورط المهدي في صراع مافيا المخدرات”، بينما كانت محاولات الاستدراج جارية عبر إرسال ابن عم الملك، مولاي علي العلوي، السفير المغربي آنذاك بباريس، محملًا بـ”كلمة سر” واضحة: “الملك يرغب في عودتك لحل معادلة رياضية”.
كانت تلك المحاولة طُعماً مميتاً، سعت لإقناع المهدي بن بركة بإنهاء منفاه والعودة الفورية إلى الرباط. لعل الهدف الحقيقي كان هو سحبه إلى الفخ المُحكم الذي نُصب له أمام مقهى “ليب” في قلب باريس.
بعد الجريمة، جاء العداء العلني الصريح، ففي حوار مع الصحفي الفرنسي المشهور أيامها، إدوارد صابيليي، هاجم الحسن الثاني المهدي بن بركة، محاولاً تشويه صورة أستاذه القديم في الرياضيات.
لكن المثير في السردية الملكية، هو محاولتها تغيير كلماتها بعد سنوات قليلة. ففي البداية، دافع الملك شخصياً عن وزيره وضابطه العسكري القوي، الكولونيل محمد أوفقير، الذي تمت ترقيته إلى رتبة جنرال، رافضًا تسليمه للمحكمة الفرنسية التي طلبت حضوره لقفص الاتهام بخصوص جريمة بن بركة. كان هذا دفاعاً قوياً وحماية مباشرة لأحد المتورطين الرئيسيين.
من تداعيات هذا الموقف نشوء وتطور أزمة دبلوماسية وسياسية حادة بين المغرب وفرنسا الجنرال شارل ديغول.
غير أن هذا الدفاع تحول إلى اتهام كامل بعد أن نفذ الجنرال الدموي أوفقير محاولة انقلاب عسكرية فاشلة ضد ملكه، (16 غشت/أغسطس 1972). حينها، سارع الحسن الثاني إلى حذف تصريحاته السابقة، راميًا بعبء الجريمة الخطيرة كاملًا على الجنرال أوفقير الذي أصبح “كبش فداء” مثالياً، بعدما لقي مصرعه في أعقاب المحاولة الانقلابية.
وبعيداً عن ساحات القضاء، ظهر الحسن الثاني في كتاب “ذاكرة ملك”، (سيرة ذاتية للعاهل المغربي، من إعداد الصحفي الفرنسي إريك لوران، 1993). ليقدم وجهاً ثالثاً للمهدي بن بركة. تحوّل العداء إلى إشادة عاطفية، حيث أثنى الملك على الزعيم المغيب، قائلاً إنه لم يكن أستاذه في الرياضيات فحسب، بل “أستاذه في الأناقة” أيضاً، مؤكداً أن بن بركة هو من علّمه كيف يلبس.
ذلك التناقض الصارخ – من حماية المتهمين في الحاضر، إلى اتهامهم بعد فوات الأوان، ثم تمجيد الضحية كـ”معلم للأناقة” في التاريخ – يكشف بوضوح حجم محاولات القصر لتنقية السردية وغسل الأيدي من جريمة دولية، ظلت أسطورتها تطارد كل المتورطين.
***

ومن ذروة هذا التغيير في السردية الرسمية إلى أرض الواقع، أرسل الحسن الثاني وزيره القوي إدريس البصري (وزير الداخلية)، المعروف بكونه مهندس سنوات الرصاص، ليشرف بنفسه على تدشين وتسمية أحد أكبر شوارع العاصمة الرباط، باسم “شارع المهدي بن بركة”. جرى هذا الحدث العلني بحضور زعماء المعارضة في “الكتلة الديموقراطية”.. عبد الرحمان اليوسفي وعلي يعتة وامحمد بوستة ومحمد بنسعيد آيت يدر.
بهذا الإجراء، تحولت الضحية التي تآمرت عليها الدولة، إلى رمز وطني رسمي في قلب العاصمة. لقد كانت محاولة أخيرة لوضع حد لمطاردة الشبح، وإغلاق ملف الجريمة الخطيرة عبر “التصالح الرسمي” مع الذاكرة، برغم بقاء الجثمان مفقودًا وغموض الحقيقة قائمًا. إنه الفصل الأخير في قصة التناقض الصارخ بين جريمة الدولة وتكريمها الرسمي لضحيتها.
لكن المفارقة التاريخية الأكثر دموية وإثارة للدهشة تكمن في اختيار وتحديد المكان أنّه الشارع نفسه الذي احتضن مقر مكتب الاتصال الإسرائيلي ومديره السابق ديفيد دادون، (يهودي مغربي من أصول مراكشية)..
إنه تقاطع رمزي دموي لا يمكن تجاوزه. فالمكان الذي يحمل اسم الضحية التي ذهبت ضحية مؤامرة دولية شاركت فيها الأجهزة الأربعة، كان يتوسطه مقر جهاز تابع لواحد من المتهمين الرئيسيين في جريمة الاختطاف والاغتيال: “الموساد” الإسرائيلي.
بهذا الإجراء، تحولت الضحية التي تآمرت عليها الدولة وحلفاؤها إلى رمز وطني رسمي في قلب العاصمة، فيما يتواجد المتهم في الجريمة على الأرض نفسها. إنها أقصى درجات العبث السياسي. فقد كان التكريم الرسمي لبن بركة، في الشارع الذي يحمل اسمه، اعترافاً ضمنياً بالجريمة، لكنه في الوقت ذاته، كان تطهيراً تاريخياً للسلطة، ودفناً رمزياً نهائياً لملف الحقيقة، تاركاً إياه أسير تناقض لاذع بين تخليد الضحية واستضافة شريك الجلاد.
***
في العام 1995، المصادف للذكرى 30 لاختطافه واغتياله، سمحت السلطات المغربية بتنظيم مهرجان ضخم وغير مسبوق لتخليد ذكرى بن بركة. أشرف على هذا الحدث رفيق دربه الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، أما فقرات المهرجان فاحتضنتها القاعة الكبرى لقصر المؤتمرات بمدينة مراكش.
تكمن المفارقة القصوى والمغزى السياسي لهذه الخطوة في اختيار المكان ذاته، أي قصر المؤتمرات بمراكش، الذي لم يكن قد محي منه بعد أثر اجتماع القادة العالميين في عام 1994 للمصادقة على اتفاقية “الغات” (GATT)، التي مهّدت لإنشاء منظمة التجارة العالمية.
بهذا المشهد، لم يعد تكريم المهدي بن بركة مجرد لافتة في شارع. إذ نقل النظام السياسي القصة من دائرة الاتهامات الخفية إلى مسرح الدبلوماسية الدولية، حيث تُعقد أهم التفاهمات الاقتصادية، تحت إشراف رفيق بن بركة نفسه. كان هذا المهرجان، في ذلك الموقع تحديداً، بمثابة اعتراف غير مباشر بفشل كل محاولات دفن قصة الزعيم وتهميش دوره، وتحويله في نهاية المطاف إلى جزء لا يتجزأ من تاريخ المغرب الرسمي.. تاريخ تم تطهيره وغسل أيدي المتهمين فيه ببطء عبر الزمن.
لم يكن السماح بإحياء ذكرى المهدي بن بركة في قصر المؤتمرات بمراكش عام 1995، برئاسة رفيقه عبد الرحمن اليوسفي، مجرد لفتة بريئة من النظام. كان المشهد جزءاً ملموساً من حل المعادلة الغامضة التي كان الحسن الثاني قد حاول استدراج بن بركة لحلها قبل ثلاثة عقود بـ”كلمة السر الرياضية” الواضحة.
***
بعد ثلاث سنوات فقط من مهرجان مراكش، تجلّى الحل المأساوي لتلك المعادلة.. هكذا شاهدنا عبد الرحمن اليوسفي نفسه يُعيَّن من طرف الحسن الثاني وزيراً أول لما سُمي بـ”حكومة التناوب التوافقي” (شباط/فبراير 1998).
كما لو أن هذا التوافق، الذي جمع الملكية بالمعارضة التاريخية، تم فوق جثة بن بركة التي لم يُعثر عليها قط، وبعد ثلاثة عقود من تغييبه. أصبح إحياء ذكراه في مراكش، فوق الأرض التي شهدت أهم الاتفاقيات الاقتصادية العالمية، هو الثمن الرمزي والمفتاح السياسي الذي فُتحت به أبواب القصر للمعارضة السابقة.
بذلك، اكتملت فصول المأساة: لم يعد المهدي بن بركة رمزًا للثورة والمعارضة فحسب، بل تحول إلى جسر، دُمج إرثه الملطخ بالدم في جسد الدولة مقابل وصول “الوَرَثة” إلى السلطة. إنها المعادلة التي لم يحلها البروفيسور بن بركة في حياته، لكنها حُلَّت بشكل مرعب على حسابه بعد مماته.
***
بعد عقود من الصمت، انشق شاهد من قلب الظلام ليُلقي قنبلته الخاصة على الرواية المتهاوية: أحمد البخاري، عميل سابق في مخابرات “الكاب وان” المغربية، هو من حمل عبء الحقيقة إلى العلن.
لم يكتفِ البخاري، (توفي في شباط/فبراير من هذا العام)، بنشر اعترافاته في كتاب باللغة الفرنسية بعنوان “السر”، بل ظل يردد تفاصيلها المروعة حتى آخر أيامه، على قناته الخاصة في اليوتيوب، شاهداً من موقعه كمشارك في العملية التي دبرت اختطاف وتصفية المهدي بن بركة، على تورط نظام الحسن الثاني المباشر في الجريمة. حيث أكد البخاري أنه واحد من الشهود الباقين والشاهدين على الجريمة.
كانت تفاصيل اعترافات البخاري صادمة، لا تترك مجالاً للشك أو النسيان، لم يكن مصير بن بركة مجرد اختفاء، بل تذويب للجثة بحمض الأسيد، ثم دفن للجزء المتبقي، وبالتحديد رأس الزعيم المغتال، في الموقع المعروف بـ”النقطة الثابتة 3″.
هذه الشهادة القاسية، الصادرة من داخل الجهاز الذي نفذ الجريمة، لم تكن مجرد معلومة جديدة، لقد كانت الخاتم الأسود الذي يثبت فصول المؤامرة، ويُغلق الباب أمام أي محاولة لتجميل القصة أو نسبتها إلى “أكباش فداء” انتهت أدوارهم.
لقد تحول “السر” إلى صرخة علنية، تُبقي على جرح المهدي بن بركة مفتوحًا برغم كل محاولات التكريم الرسمي.
إن لغز المهدي بن بركة لا يتوقف عن كشف مفارقاته الجغرافية والسياسية المذهلة. فبينما كانت تفاصيل اعترافات العميل المنشق أحمد البخاري تزلزل الذاكرة الوطنية، مؤكدة أن جثة الزعيم ذُوبت بالأسيد، وأن رأسه دُفن في موقع سري يُعرف بـ PF3 “النقطة الثابتة 3″… جاء المشهد الأخير ليضع الجريمة في حيز احتجاز رمزي متواصل.
عندما تقرر إعادة تشييد مبنى راقٍ للسفارة الأمريكية حدث ذلك في هذا المكان الذي تقع “النقطة الثابتة 3″ ضمن مجاله. بذلك، أصبحت ذكرى المدفن الذي أُخفيت فيه بقايا جسد بن بركة، تحتضن مقر جهاز تابع لواحد من الأجهزة الأربعة المتهمة في مؤامرة اغتياله، الـ”سي آي إيه” الأمريكية.
وكأن هذا لم يكن كافياً، فأوائل الإسرائيليين الذين دخلوا المغرب بوجوههم المكشوفة، وليس سرًّا كما أسلافهم. عبروا مطار محمد الخامس في الدار البيضاء، بجوازاتهم الدبلوماسية ذات اللون الأزرق الداكن التي يتوسطها رمز الشمعدان، من عملوا منذ سنة 1994 في مقر مكتب الاتصال الإسرائيلي – الشريك الآخر في الجريمة – في شارع بني يزناسن الذي أصبح شارع المهدي بن بركة، صاروا مضطرين إلى كتابة اسم ولقب الزعيم التاريخي لليسار المغربي على عنوانهم الرسمي.
هكذا، تتحول العاصمة إلى مسرح تاريخي للعبث، يُكرّم اسم الضحية في شارع يعترف بوجود أحد الجلادين (إسرائيل)، وتُقام سفارة الحليف الآخر (أمريكا) فوق تراب قد يحوي بقايا جسد الضحية المُذوَّب. إنها جريمة احتجاز متواصلة، حيث يُحتجز سر الجثمان المفقود تحت سيادة الأطراف المتورطة في اغتياله، لتظل “النقطة الثابتة 3” شاهداً ثابتا صامتاً على فصول المؤامرة التي لا تزال تنزف في ذاكرة المغرب.
***
لم يهدأ المتآمرون وورثة فعلتهم، ولم يتوقفوا عن محاولاتهم لتلويث سيرة المهدي بن بركة، حتى بعد إجبارههم على تكريمه رسمياً. استمرت جهودهم في نشر حقائق مزيفة حول عمالة بن بركة للمعسكر الشرقي، وبالتحديد تشيكوسلوفاكيا في عهد الحرب الباردة. وفي نهاية 2021، تجدد الكلام عن اتهام بن بركة بالجاسوسية، وذلك عبر وثائق قيل إنها مسربة من عهد الحرب الباردة، تولت صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرها. غير أن بن بركة، أبرز المعارضين والمناهضين للصهيونية وللفكر الإمبريالي التوسعي، “يظل غصة في حلق مدبري جريمة الاختطاف”، وفق ما أدلى به محمد الأشعري (أديب ووزير سابق في حكومة التناوب).
كان هذا التشويه المتأخر محاولة يائسة أخيرة لنسف مصداقيته كزعيم أممي والطعن في وطنيته، بعد أن فشلت محاولات تجميل الجريمة وإغلاق ملفها. فكيف يمكن لعميل أن يكون بطلاً وطنياً؟
استمرت محاولات تلويث سيرة الزعيم بنقل الهجوم إلى قلب الحياة السياسية.. في 2009، كانت المفارقة مؤلمة ومخزية، دفع النظام بالكاتب العام لنقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، التابعة لحزب الاستقلال، الحزب ذاته الذي كان بن بركة من مؤسسيه وقادته الأوائل، قبل أن ينشق ويؤسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بأن يتهم بن بركة علنًا، قائلا بأن “المهدي بن بركة كان قاتلًا”. بل وصل الأمر بعبد الحميد شباط أن أعلن عن عزمه على “مقاضاة بن بركة أمام المحكمة الجنائية الدولية”!
غير أن اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال اعتبرت أن “تلك التصريحات تهم شباط، ولا تعكس موقفًا رسميًا للحزب”. لاحقًا سيعتلي شباط صهوة قيادة حزب علال الفاسي.
كانت هذه التهمة إعادة تدوير صريحة ومكشوفة للسردية التي روّجها النظام من قبل، محاولاً إلصاق دم عباس المسعدي (أحد قادة جيش التحرير في الشمال) بالمهدي بن بركة. لقد كانت محاولة لإلغاء القتل السياسي باغتيال سمعة الضحية.
وكما فشلت كل التلفيقات السابقة التي لم تصمد أمام ضوء التاريخ، ثبت أن هذه الاتهامات كانت سخيفة وباطلة، وتهدف فقط إلى تلويث إرث رجل باتت أسطورته أقوى من قتله وتشويهه.
بين تذويب جثة بالأسيد، واستضافة السفارات فوق مواقع الأسرار، واتهامات سياسية زائفة، تظل قصة المهدي بن بركة هي صرخة الحقيقة المكتومة التي ترفض أن تخضع للتجميل السياسي أو الدفن الجغرافي.
