الحكم اللبناني: مواجهة الداخل أصعب وأخطر من مواجهة الخارج!

بعد أيام، أي في التاسع من كانون الأول المقبل/ديسمبر، يكون قد مضى أحد عشر شهراً على انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية والذي تبعه تبوء السفير والقاضي نواف سلام رئاسة مجلس الوزراء. ما هو التقويم الأولي لبداية العهد الجديد من وجهة النظر الأوروبية عموماً والفرنسية خصوصاً؟

قيل الكثير في المدة الاخيرة عن تراجع الدور الفرنسي الخارجي وخصوصاً الشرق أوسطي ومحدودية فاعليته نتيجة تضعضع الوضع السياسي في الداخل الفرنسي من جهة وتقدم “البلدوزر الأميركي” على أكثر من صعيد شرق أوسطي من جهة أخرى. ربما هناك بعض الصحة في هذا الكلام، إلا أن باريس تمكنت من المحافظة على موقع خاص؛ من جهة، نتيجة الابقاء على استمرار التواصل مع جميع الفرقاء المعنيين بالوضعين الشرق أوسطي واللبناني من الولايات المتحدة واسرائيل (بالرغم من الفتور والنفور في العلاقات بينهما) إلى السعودية ومصر وقطر، وخصوصاً الابقاء على قنواتها مفتوحة مع ايران وحتى مع حزب الله، ومن جهة أخرى كونها محطة جغرافية ونقطة مرور لكل الموفدين والمتابعين لهذه المنطقة من العالم، من دون أن ننسى الدور المتمثل بنقل الرسائل إضافة إلى مهمة التوسط حيناً والتنسيق حيناً آخر مع الجهات الاقليمية والدولية وفي مقدمها الولايات المتحدة والسعودية. لكل ذلك تجمعت لدى الأوساط المتابعة في العاصمة الفرنسية معلومات وانطباعات نقلتها إليها عدة جهات اقليمية عربية ودولية غربية رسمت خطوطاً عريضة حول تقويم أولي لمسار الحكم اللبناني الجديد، على مسافة قريبة من اكتمال سنته الأولى في السلطة.

السعودية تدفع باتجاه خيار جوزاف عون

قبل أيام معدودة من انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية في النصف الأول من كانون الثاني/يناير 2025، انتدبت الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، كلٌ من جهتها، فريق عمل ديبلوماسي- أمني جاء الى بيروت بمهمة مواكبة العملية الانتخابية ومتابعة الاعداد لها وتهيئة ظروف نجاحها. وقتها كانت واشنطن وباريس لا تمانعان التريث واعطاء المزيد من الوقت من أجل تأمين شروط اتمام العملية أكان على صعيد اختيارالشخصية العتيدة أو على صعيد توفير الأكثرية المؤيدة المطلوبة، إلا أن الرياض دفعت في اتجاه الإسراع في دعم وصول العماد جوزاف عون إلى قصر بعبدا.. وهذا ما حصل.

لم يكتفِ هذا الثلاثي في السهر على انجاز الاستحقاق الرئاسي بل أبقى على عدد من أفراد طاقمه لمتابعة عملية اختيار رئيس الوزراء وتأليف الحكومة الجديدة ومواكبة بداية مسار الحكم الجديد. واللافت للانتباه هنا أن أحد أعضاء تلك المجموعات التي راقبت عن كثب كل الاتصالات التي سبقت تأليف الحكومة، يُسارع إلى التساؤل وبكثير من الخيبة في تقرير رفعه مؤخراً إلى إدارته: هل انتهى الحكم الجديد في لبنان قبل ان يبدأ؟ وذلك في معرض الإشارة إلى عدم اغتنام الثنائي جوزاف عون- نواف سلام فرصة الاستفادة من الزخم الدولي والاقليمي الذي أتى بهما الى الحكم والاسراع في تشكيل فريق حكم متجانس ومتحررمن كل القيود القديمة مع ما يستلزم من كسر الايقاع التقليدي في إدارة شؤون الحكم بشكل يُسهّل عملية استعادة ثقة الداخل والخارج.

الحكم متأرجح بين “الالتزامات والتعهدات”

وحسب الأوساط المتابعة للملف اللبناني، “مع الوقت بدأ يتكون تحفظ حيال مسار الحكم الجديد نتيجة “الانطلاقة الفاترة”.. والأسباب عديدة: أولها، “البطء” في التصدي للمهمة الاساسية المزدوجة وهي حصرية السلاح والاصلاحات. ثانيها، توترالعلاقات بين ثنائي عون- سلام نتيجة عدم الانسجام بينهما. بالنسبة إلى السبب الأول، حسب الأوساط المتابعة، “كان الكلام كثيراً والفعل قليلاً”. ففي الوقت الذي كان فيه المطلوب الاكتفاء بخطاب القسم والبيان الوزاري والانصراف سريعاً إلى اعداد “مبادرة جدية” لتنفيذ مضمونهما حيال حصرية السلاح، أتت المماطلة تحت ذريعة “الحوار” ولم تظهر ملامح الخطة العملية إلا بعد سبعة أشهر. وقد جاء التنفيذ بعدها “فاتراً وجزئياً” نتيجة “عدم التعاون الصريح والكامل” مع الجيش اللبناني من قبل “حزب الله”. وقد استفادت إيران من فترة الوقت الضائع وملأته عبر ارسال الموفد تلو الآخر إلى بيروت بغية إعادة انعاش وضعية الحزب التي أصيبت بنكسات متتالية. وهنا تتوقف الأوساط للرد على “الكلام المبهم” الذي قيل (النائب حسن فضل الله في حواره التلفزيوني مع الزميل جاد غصن عبر قناة “العربي الجديد”) عن “تعهدات” قدّمها الرئيس عون للحزب بشأن سلاحه، لتؤكد أن هناك في المقابل “التزامات واضحة وصريحة” أبلغها عون إلى الثلاثي الأميركي- الفرنسي- السعودي وهي سبقت عملية الانتخاب ومهّدت لها. وبالنسبة للخطة التي وضعتها قيادة الجيش اللبناني من أجل تنفيذ قرار حصرية السلاح، بعد طول انتظار، سجّلت الأوساط نفسها ملاحظات على “سوء التظهير السياسي” والفشل في “تسويقها الإعلامي”.

تبين أن هناك تململاً وانزعاجاً من قبل جهات خارجية معنية حيال مواقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويبدو أن أكثر من اشارة وُجِهت إلى الرئاسة الثانية في هذا الخصوص. والملفت للانتباه أيضاً في هذا الاطار أنها المرة الأولى لا تشمل حركة بعض الوفود الزائرة (الأميركية والسورية) محطة عين التينة (مقر الرئاسة الثانية)، وهذا الأمر استدعى تحرك بري في اتجاه طهران لنقل “قلقه البالغ من خطورة الوضع والتخوف من أجواء التصعيد”

أما بالنسبة إلى السبب الثاني (عدم الانسجام بين ثنائي عون- سلام)، فقد سجلت الأوساط الامتعاض لطريقة التعامل بين رئيسي الجمهورية والحكومة متوقفة عند “التباين الفاضح والعلني” حيال تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي والخطوات التي رافقت إضاءة صخرة الروشة إضافة إلى مشاكل أخرى.

من جهته، شرح الجانب اللبناني للوفود العربية والأجنبية في معرض رده على هذه التحفظات والانتقادات، وكما نقلت هذه الأوساط، أنه استثمر عامل الوقت للمضي في عملية الاقناع وتهيئة الظروف لحشد أكبر دعم سياسي داخلي وتوفير شروط اقرار حصرية السلاح من قبل مجلس الوزراء، ومن ثم تمهيد الأجواء لطرح موضوع الدخول في عملية المفاوضات. ولاحظت الأوساط المعنية أنه في الوقت الذي استمر الموقفان الأميركي والسعودي في موقفهما الضاغط من أجل الإسراع في تنفيذ خطة حصرية السلاح ضمن المهل المحددة، أبدى الجانب الفرنسي تفهمه للموقف اللبناني مشدداً في الوقت نفسه على ضرورة العودة إلى آلية مراقبة وقف النار قبل المبادرة إلى القيام بأية ردة فعل عنيفة (في إشارة مباشرة إلى ادانتها ضربات إسرائيل المتكررة).

إقرأ على موقع 180  الشيعية السياسية: قلق التاريخ وأهوال الهوية (1)

“انزعاج واستياء” من “الثنائي الشيعي”

وترى هذه الأوساط أن قيادة حزب الله التي كانت في الماضي مُلمة بالأوضاع الاقليمية ومدى انعكاسها على الوضع اللبناني، “لا تُريد الاقرار، حالياً، بمدى عمق المتغيرات وبالتالي التشبث باعتماد موقف الإنكار والمراوغة”، مع الاشارة الواضحة إلى أن الثقل الإيراني على قراراتها زاد أثراً وحجماً.

وأكثر ما تستغربه هذه الأوساط “مبادرة الحزب وبشكل علني ومتكرر إلى التشديد على استعادة بناء قدراته العسكرية وتعزيزها وتمسكه بالسلاح وكأنه يستجلب الرد الإسرائيلي ويُبرّره”. وقد تم كشف النقاب عن أكثر من رسالة خارجية (بينها رسالة فرنسية مباشرة) نقلت إلى الحزب عبر بعض قنوات الاتصال تنصحه بالتوقف عن إطلاق هذه المواقف العلنية. بالمقابل، لم يكن جواب الحزب مُقنعاً لا بل بدا مُربكاً، وحسب هذه الأوساط، “ثمة تخبط وتضعضع ضمن هيكلية اتخاذ القرار الحزبي”، إضافة إلى ضيق هامش المناورة بفعل الضغط الإيراني المباشر. أما الأمر الجديد واللافت للانتباه بالنسبة للمكون الثاني في “الثنائي الشيعي”، فقد تبين أن هناك تململاً وانزعاجاً من قبل جهات خارجية معنية حيال مواقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويبدو أن أكثر من اشارة وُجِهت إلى الرئاسة الثانية في هذا الخصوص. والملفت للانتباه أيضاً في هذا الاطار أنها المرة الأولى لا تشمل حركة بعض الوفود الزائرة (الأميركية والسورية) محطة عين التينة (مقر الرئاسة الثانية)، وهذا الأمر استدعى تحرك بري في اتجاه طهران لنقل “قلقه البالغ من خطورة الوضع والتخوف من أجواء التصعيد”.

أهمية الدور السعودي “الوازن”

لا تُقلّل الأوساط نفسها من أهمية المساعي المصرية والقطرية، إلا أنها تُشدّد على الدور السعودي “المحوري والوازن” الذي شكل قوة دفع أساسية في تحريك واتمام عملية الانتخاب الرئاسي ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة. كما تحركت الرياض بشكل فاعل بغية إرساء التعاون الأمني بين بيروت ودمشق وهي استضافت أكثر من لقاء لبناني- سوري بهذا الخصوص. وإضافة إلى تعزيز الحضور الديبلوماسي وتكثيف التواصل مع كل المكونات اللبنانية، برز حرصٌ سعوديٌ كبيرٌ على صيانة الاستقرار الداخلي وتعزيزه. وفي هذا الاطار، كشف النقاب عن “اتصالات سريعة وفاعلة وغير علنية” قام بها الفريق السعودي (بالتعاون مع الجانب الفرنسي) ليلة إضاءة صخرة الروشة مع المرجعيات الدينية السنية وزعماء الأحياء البيروتية بهدف احتواء الأزمة الناشئة والحيلولة دون قيام مواجهات في الشارع بين المحتفلين والمعارضين لهذا الاحتفال. كما تتوقف الأوساط عند جوانب أخرى من “الدور المساعد والفاعل” الذي يمكن أن تلعبه السعودية، أكان من خلال استضافة المؤتمر المخصص لدعم الجيش اللبناني الذي تسعى باريس إلى تسريع انعقاده أو على صعيد توظيف علاقاتها “الممتازة” مع واشنطن أو على صعيد الاستفادة من خط التواصل المفتوح بين الرياض وطهران (لا تستبعد خطوات في هذا الاتجاه).

انطباعات اقليمية ودولية غير مطمئنة

في المحصلة؛ عادت الوفود التي توالت زياراتها المتعددة إلى بيروت بانطباعات غير مُطمئنة، تختصرها تلك الأوساط كالآتي:

1-الشك الإسرائيلي بمدى “الالتزام الكامل والتعاون الصادق” من قبل حزب الله مع الجيش اللبناني لتنفيذ الخطة المرسومة يتصاعد مع احتمال زيادة وتصعيد الضغط العسكري والديبلوماسي على الحكم اللبناني. في وقت يسعى الجيش اللبناني ويجهد للمعالجة بعيدأ عن المواقف المتشنجة في تنفيذ الخطة المرسومة.

2- الثقل الإيراني يفعل فعله المباشر في الداخل اللبناني أكثر من أي وقت مضى.

3-حصرية السلاح مرتبطة بمفتاحين: الأول إيراني لن يتوفر قبل تحقيق تقدم على خط التواصل الإيراني – الأميركي، والثاني بيد حزب الله الذي لن يتخلى عن سلاحه إلا في سياق تسوية داخلية كبرى تُوفّر له المكاسب والضمانات لمستقبل موقع الطائفة الشيعية في التركيبة اللبنانية.

4-انقسام لبناني داخلي سياسياً وشعبياً مع تشنج متصاعد واشتداد لغة التخاطب المتطرف، الأمر الذي ستكون له انعكاسات على الاستقرار الداخلي، أمنياً وسياسياً.

5-التخوف من تفويت لبنان فرصة حجز مقعد في القطار الاقليمي المتحرك مع تراجع نسبة الاهتمام الدولي به مقارنة بالاهتمام المتصاعد والمتزايد بشكل غير عادي بالجار السوري.

وتختصر هذه الأوساط مجمل هذه الانطباعات بتصور عاد به أحد الموفدين إلى العاصمة اللبنانية أخيراً، (أكثر من جهة خارجية توافقه هذا الرأي)، ومفاده أن هناك ثمة قناعة (نوع من التسليم) عند بعض أهل الحكم في لبنان وهي أن آثار ومفاعيل أي مواجهة خارجية والمتمثلة بضربات إسرائيلية موجعة وعنيفة على لبنان تبقى أقل ضرراً وخطراً من تبعات أي مواجهة داخلية (بين الجيش والحزب) على السلم الأهلي وتماسك الجيش اللبناني ووحدة المجتمع اللبناني.

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حكومة دياب محاصرة دولياً.. ماذا يجب أن تفعل أو لا تفعل؟