الحياد اللبناني.. من يحميه داخلياً وخارجياً؟

مسألة الحياد في لبنان شائكة ومعقدة. تُطرح منذ نشوء الكيان قبل أكثر من مائة سنة، لكن اللبنانيين يتصرفون واقعاً بما يتناقض مع مقومات الحياد. بل إنه شعارٌ يُرفعُ ضد تدخل دول دون أخرى أو محور دون آخر.

من النافل القول إن موقع لبنان الجغرافي، ونشوء الكيان الصهيوني على حدوده الجنوبية حكما عليه أن يكون في وسط الصراع العربي الاسرائيلي، وأن يتلقى آثار التهجير الفلسطيني إلى أرضه. كذلك، للأوضاع في سوريا كبيرُ تأثيرٍ عليه، سواء سياسياً، أم عسكرياً وأمنياً، مثلما كان للجوء السوري المليوني إلى لبنان تأثير على مجمل الواقع اللبناني. لجوءٌ يختزن أخطاراً كبيرة، اجتماعية ودموغرافية واقتصادية وأمنية.

كما أن التنوع الطائفي الذي يتميز به لبنان، شكّل عامل تفكك في ظل دولة ضعيفة، قامت على التنافس بين الطوائف على تقاسم الحصص والنفوذ، فعمّ الفساد، واستشرى الاستقواء بالقوى الخارجية، التي وجدت في لبنان المقسّم الولاءات ساحة مفتوحة للتدخل وللتنافس على الأرض اللبنانية. وبذلك، لم ينعم لبنان إلا بفترات قليلة من السلام والأمن، وقلّت الفترات التي خلت من وجود قوات أجنبية على أرضه، سواء بالاحتلال أو باستدعاء من قوى داخلية.

الحياد اللبناني ممكن؟

ثمة أسئلة بديهية: هل الحياد ممكنٌ في ظل الاصطفافات التي ميزّت التاريخ اللبناني بين لبنان ذي الوجه العربي ولبنان ذي الوجه الأوروبي والغربي؛ بين التحيز للقضية الفلسطينية وبين التحالف مع اسرائيل للقضاء على الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان؛ بين اعتبار الوجود العسكري السوري في لبنان وجوداً شرعياً وبين اعتباره احتلالاً وجبت مقاومته؛ بين من اعتبر فرنسا أمه الحنون وبين من رأى في السعودية الغطاء الشرعي لكل مسلمي العالم، أو وجد في تركيا استنهاضاً لأحلام خلافةٍ لا بد أن تعود؛ بين من تحالف مع ايران لقتال اسرائيل وبين من اصطف ضد هذا التحالف مع القوى الغربية ومع الولايات المتحدة الأميركية بالتحديد، إلى غيرها من الاصطفافات والاصطفافات المضادة التي جعلت لبنان ساحة مواجهة لكل هذه المشاريع الإقليمية والدولية.

وهذه الأسئلة تطرح الإشكالية التالية: هل الحياد ممكن في لبنان؟ وإذا كان ممكناً، ما هو شكله وما هي ضماناته؟ هل طرح الحياد بريء يهدف لإنقاذ لبنان أم هو تحييد عن محور دون آخر؟ وهل السلام مع اسرائيل هو مدخل لهذا الحياد؟

بالنظر إلى تجارب الحياد السابقة، نجد أنه يضمن الحماية بشكل أكبر حين يكون مدعوماً بقوة عسكرية أو اعتراف دولي فعّال. والحياد الدستوري أو المعلن لا يكفي في مواجهة أطماع استراتيجية أو توسعية، كما أثبتت التجارب الأوروبية. وتبقى سويسرا الاستثناء الأبرز، حيث لم تُحتل بعد إعلان الحياد، بفضل موقعها الجغرافي؛ استعدادها العسكري، واعتراف دولي راسخ.

 ولا يمكن الكلام عن حياد في المجتمعات المتعددة إلا إذا نجحت في بناء دولة قوية ووصلت إلى قناعة بأن حماية التنوع في شقيه السياسي والمجتمعي يتطلب، باعتباره شرطاً مسبقاً، وجود دولة قانون تضمن حقوق الجميع بحيث لا تجد القوى الخارجية أي ذريعة تسمح لها باستغلال التنوع من أجل التدخل في شؤون تلك الدولة.

ولا يصحّ الحياد إلا بناء على توافق داخلي حول ضرورته، وعلى تعزيز قدرات الدولة وتمكينها من القيام بدورها للدفاع عن المجتمع. وبالتالي يتطلب تحييد لبنان موافقة غالبيّة مواطنيه، وموافقة الدول المجاورة وقدرته على حماية حياده بنفسه عسكرياً ودبلوماسياً. فلا يكفي إعلان الدولة حيادها كي تحمي نفسها من الصراعات الإقليمية والدولية، لكن يجب أن تتمكن أيضاً من فرض احترام هذا الحياد على الدول المحيطة بها.

التوافق الداخلي

بالنسبة للتوافق الداخلي، فإنّ ردّات الفعل في لبنان على مسألة الحياد مختلفة جداً، منها المساند بشكل قوي له تحت شعار النأي بالنفس عن مشاكل المنطقة لا سيما الصراع الإسرائيلي العربي وعن الانخراط ضمن محاور إقليمية، ومنها الرافض تحت شعار استحالة الحياد في ظلّ وجود العدو الإسرائيلي على الحدود واحتلاله أجزاء إضافيّة من الأراضي اللبنانيّة وتهديد يومي خصوصاً بعد الحرب الأخيرة التي اندلعت في أيلول (سبتمبر) 2024. فكيان إسرائيل الذي أُنشئ في العام 1948 ، هو كيان غير نهائي من حيث المساحة، وهو قابل للتمدد في غير اتجاه والتوسع على حساب جيرانه، خصوصاً مع حكومات من اليمين المتطرف الذي يؤمن بـ”إسرائيل الكبرى”، ولا يخفي عقيدته هذه بل أعلنها أمام الأمم المتحدة وفي أكثر من مناسبة. هذه العقيدة تطورت من الاحتلال العسكري المباشر إلى إقامة مناطق عازلة خالية من السكان بالدرجة الأولى، ومنزوعة السلاح بالدرجة الثانية. هذا ما بدأ تطبيقه في سوريا، وغزة، ولبنان. ومصر والأردن ليستا بعيدتين عن تطبيق هذا المخطط في المستقبل.

ومن الضروري القول إن المطالبات بالحياد في لبنان لا يجوز أن تستبطن انحيازاً لمحور دون آخر، بمعنى أن بعض المطالبين بالحياد لا يجدونه ضرورياً حين يتعلق الأمر بجهات خارجية معينة، ولا يعترضون إلا على تدخل دول بعينها. وهذا تشويه كبير لمعنى الحياد إذ يصبح وسيلة للاستقواء لا لمعالجة الخلافات والتباينات بين اللبنانيين، وبالتالي يجعل فئة من اللبنانيين متوجسة من فكرة الحياد كما هو مطروح، مما ينزع صفة التوافق الداخلي بين كافة فئات الشعب اللبناني حول اعتماد هذا المبدأ، وهي الشرط الأول للدول المحايدة.

إقرأ على موقع 180  وَيْحٌ لكم.. ماذا فعلتم بالجامعة اللبنانيّة؟

الحياد ومحظور التطبيع

كما تترافق أيضاً الدعوة إلى الحياد في كثير من الأحيان مع دعوات للسلام مع اسرائيل باعتبار أن إنهاء النزاعات هو السبيل الأول لبلوغ الحياد. لكن هل يمكن الركون للجانب الإسرائيلي و الوثوق به، وهو الذي منذ أكثر من سبعة عقود نقض كل العهود التي أعطاها للمجتمعين الدولي والإقليمي؟ وإسرائيل التي لا تأبه بالقانون الدولي والأمم المتحدة وقرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، من المؤكّد أنها لن تحترم حياد لبنان إذا تعارض مع مصالحها. وهي قد تغوّلت بعد “طوفان الأقصى” وأصبحت لا تفهم السلام إلا بالقوة، أي سلام الاستسلام والخضوع والتخلي عن الحقوق، وتعمل على تهجير السكان لإقامة مناطق عازلة على حدودها. وهي سياسة تساندها فيها الولايات المتحدة بشكل سافر.

إن طرح الحياد مع الدعوة لمعاهدة سلام مع اسرائيل يمثّل تحدّياً لفئة كبيرة من اللبنانيين، لم تجفّ دماء شهدائها بعد، بل ما زالت مستهدفة بشكل يومي. وهناك فئات من مختلف المشارب في لبنان تعتبر إسرائيل عدواً وجودياً. والتوافق المطلوب للوصول إلى الحياد لا يتلاءم مع المطالبة بالغفران للكيان الصهيوني، والدعوة للتطبيع معه أي إقامة علاقة حسن جوار وتبادل سياسي وثقافي واجتماعي. لذلك، إن طرح السلام مع اسرائيل بما يتجاوز اتفاقية الهدنة لعام 1949، يتعارض تماماً مع التوافق الداخلي المطلوب لإقرار الحياد داخلياً.

التوافق الدولي والاقليمي

الشرط الثاني للحياد هو موافقة دولية وإقليمية على إعطائه للبنان. هنا يُصبح السؤال ما هو الثمن الذي ستطلبه إسرائيل والولايات المتحدة للقبول بتحييد لبنان وعدم الاعتداء عليه؟

لا ثمنَ يتقدم على نزع كل عناصر القوة التي من الممكن أن تتوافر للدولة اللبنانية. فنحن نعيش اليوم وصاية خارجية مقنعة، تشترط ألا يمتلك لبنان أي سلاح استراتيجي، وألا يقيم أية تحالفات خارج الإطار الغربي. والتبعية تناقض أسس الحياد التي تفترض ألا تكون الدولة المحايدة تابعة لأي محور أو طرف. وبديهي أن هذا ينفي الشرط المتعلق بقدرة الدولة على حماية حيادها، عسكرياً ودبلوماسياً. فلبنان ممنوع من بناء قوة عسكرية أو دبلوماسية تهدّد اسرائيل، المهدّد الأول للحياد.

في المبدأ، يتلاءم الحياد مع طبيعة الديموقراطيات التوافقية، إذ أنّه يُشكّل ضمانة لكافة مكونات المجتمع على غرار الضمانات الدستورية الأخرى مثل التشاركيّة في الحكم. الحياد في العلاقات الدولية قد تفرضه الواقعية السياسية بحيث يكون الوسيلة الوحيدة للحفاظ على مصالح الدولة عبر ضمان الحياد بواسطة القوى العظمى، وتكيف الحياد مع السياسة العامة للدولة.

لكن الحياد يتطلب قدرة الدولة على حماية هذا الحياد عبر بناء قوة عسكرية ودبلوماسية رادعة، لحماية حياده واقتناع الدول المجاورة والتوافق الداخلي. فلبنان لا يشبه كوستاريكا في إمكانية جعله دولة منزوعة السلاح نظراً لتواجد اسرائيل ذات الأطماع التوسعية على حدوده الجنوبية. وعُمان بعيدة عن إسرائيل وعن مطامعها. ولو سلمنا جدلاً بقبول إسرائيل بهذا الحياد، فإنَّها على الأرجح ستحاول استغلاله لكسب اعتراف لبنان بها قانونياً أولاً، وعزله عن محيطه العربي ثانياً، ومن ثمّ انتهاز الفرصة المناسبة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية بالتوسُّع على حسابه واستغلال مياهه ونفطه وغازه. وهي بلا شكّ تضمر نوايا عدوانيّة على لبنان، منها إقامة منطقة عازلة في الجنوب بحجة تأمين مستلزمات الأمن الحيوي الإسرائيليّ.

الحياد شرطه أن تكون مستقلاً

إنّ نجاح الحياد السويسري جعل منه نموذجاً يقتدى به، إلا أنّه أصبح أيضاً تجربة من الصعب تكرارها، لانّ ثلاثة عوامل حاسمة تجمّعت لتجعل من التجربة السويسرية تجربة فريدة، وهي: أولًا؛ وجود قوة عسكرية رادعة معترف بها دولياً. ثانياً؛ كان السويسريون قادرين دوماً على تطوير حيادهم بشكل إيجابي. ثالثاً؛ شكّل الوضع التاريخي والجغرافي لسويسرا عاملاً مُساعداً في تطوير معيار أو نموذج معترف به دولياً.

 إنّ التماثل بالحياد السويسري كنموذج من قبل الدول الصغرى، يتطلب الحرص على توفير العوامل الثلاثة المذكورة، وتطبيقاً حذراً ودقيقاً لها.

ربما يكون الحياد هو الحل للدول الصغيرة المحاطة بدول لا قدرة لها على مواجهتها. لكن الشرط الأول للحياد هو أن يكون قرار الدولة مستقلاً وليس تحت الوصاية كما هو حال لبنان اليوم الواقع تحت وصاية المعسكر الأميركي-الإسرائيلي-الغربي. فقبل الحديث عن الحياد، لا بدّ أن نتفق على هوية لبنان، على أي لبنان نريد ليكون الحياد حريةً واستقلالاً وليس خضوعاً لتهديدات إسرائيلية أو وصاية أميركية.

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  انسحاب واشنطن من "الأجواء المفتوحة"... تعميق للعداء ضد روسيا؟