سقوط الوهم اللبناني: الحدود ليست وحدها موضع تفاوض

لم يعد ممكنًا للبنان اليوم أن يفاوض خارجيًّا على حدوده، أو على قواعد الاشتباك، أو على حقوقه السيادية، فيما يبقى الداخل بلا حسمٍ واضحٍ لحدود السلطة بين الدولة واللاعبين الداخليين. فالنهج الذي حكم التجربة اللبنانية لعقود لم يعد قابلًا للاستمرار، ذلك أنّ الشروط التي سمحت به تسقط واحدةً تلو الأخرى

منذ اتفاق الطائف (1989)، وصولًا إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة، مرورًا بالانهيار الاقتصادي والمالي (2019)، استطاع لبنان شراء الوقت بنِسَبٍ متفاوتة. دولةٌ ضعيفة لكن قائمة بالحدّ الأدنى، ونظامٌ سياسيّ قادر على إدارة التناقضات من خلال التسويات، وغطاءٌ دوليّ وعربيّ يقبل بهذه المعادلات، وأحيانًا يضمن استمرارها مقابل الاستقرار.

اليوم، يقف لبنان على أعتاب انعدام هذا الهامش كليًّا. بالطبع، كانت هناك مؤشراتٌ كثيرة ترسم خارطة الطريق التي وصل إليها لبنان اليوم، من الانهيار المالي والمؤسساتي وصولًا إلى نتائج الحرب الأخيرة التي أعادت الاحتلال الإسرائيلي إلى الجنوب. هنا، لم يتأخر الاحتلال في استغلال كلّ الظروف الداخلية والخارجية لإعادة رسم خارطة المنطقة، في محاولةٍ لفرض شروطه على إيقاع الضبط الأميركي المدروس لتوحّشه المتفلّت.

للمفارقة، يترقب لبنان اجتماعًا بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو لتقرير مصيره، نهاية هذا الشهر، وفي الوقت نفسه، يجاهد دبلوماسيًّا وسياسيًّا لشراء الوقت من خلال التصريحات الرسمية المتكرّرة حول التقدّم في مسألة حصر السلاح في جنوب الليطاني، مع إثباتاتٍ عبر جولات دبلوماسية عسكرية لكسب بعض الثقة الدولية، ومع التشديد على أنّ القرار قد اتُّخذ بتنفيذ قرارات الدولة، ولا سيّما حصر السلاح على كامل الأراضي اللبنانية، لكن على مراحل وتبعًا للإمكانات والظروف المتاحة.

وهنا المعضلة. ثمّة نقاشٌ جدّيّ، ليس فقط على المستوى الداخلي، حول قدرة الدولة على الالتزام والتنفيذ، بل أيضًا على المستوى العربي والإقليمي والدولي. وهذا ما يجعل البعض يطرح تساؤلاتٍ حول ما إذا كان التفاوض الخارجي، أي في ما يخصّ الاحتلال الإسرائيلي والحدود والسيادة، من دون حسمٍ داخلي، مجرّد تفاوضٍ نظريّ. فالخارج لم يعد يريد التفاوض على نصوصٍ أو خطوطٍ فقط، بل على قدرة الدولة نفسها على فرض ما تُقرره.

ولم يعد خافيًا أن لبنان ليس منقسمًا فقط حول خيار السلاح، بل حول نموذج الحكم نفسه. فحدود السلطة لم تُحسم بين الدولة واللاعبين المحليين، أكان مع الحزب بدوره العسكريّ المتشعّب على مدى عقود، أو مع الزعامات التقليدية التي أنتجت منظومة فساد عطّلت كلّ إمكانية لبناء رؤية وطنية جامعة. هذا التداخل بين السلاح خارج الدولة (ولا سيّما بعد البيان الوزاري للحكومة وقرارها في 5 آب/أغسطس 2025) وبين نظامٍ سياسيّ قائمٍ على المحاصصة، حوّل الموارد السيادية. على سبيل المثال لا الحصر، من المرافئ إلى الطاقة وصولًا إلى المياه، إلى أدوات محاصصةٍ ونزاع، بينما كان يُفترض بلبنان أن يُفتّش عن اية عناصر قوّة تفاوضية يمتلكها، مستفيدًا من كل العناصر الداخلية والخارجية لتعزيز أوراقه وموقعه على طاولة المفاوضات مع إسرائيل.

لا يُختبَر مستقبل لبنان في هذه المرحلة بقدرته على كسب الوقت أو تجنّب الحرب فقط، إن استطاع ذلك، بل بقدرته على الانتقال من دولةٍ تُدار بالأزمات إلى دولةٍ تُدار بالقرار وبالرؤية الوطنية الواضحة. فالتسويات المقبلة، أكانت أمنية أم سياسية، لن تنتظر بلدًا لم يحسم بعد مَن يُقرّر باسمه، ولا ماذا يريد أن يكون عليه دوره في المنطقة

اليوم، لم يعد الخارج مستعدًّا للتعامل مع لبنان كحالةٍ استثنائية يمكن فصل أزماته عن محيطه. فالتفاوض يجري في لحظةٍ إقليمية تعيد تعريف أدوار الدول، وتربط بين الأمن والاقتصاد والحوكمة. من هنا، لا يُطرح الحسم الداخلي خيارًا سياسيًّا أو مطلبًا ثانويًّا، بل شرطًا عمليًّا لأيّ تفاوضٍ على مستقبل لبنان. فهذا البلد، الذي لم يترجم بعد قراره على أرض الواقع، ولم يحسم بعد مَن وكيف يُدير موارده، ولا مَن يُحاسَب عند الفشل بسبب الفساد الداخليّ، لم يعد قادرًا على أن يفاوض مَن يُمسك بالملف اللبناني إقليميًّا ودوليًّا كما كان يفعل سابقًا باستخدام الأوراق نفسها التي كانت تصل إلى حدّ ابتزاز هذه الدولة أو تلك.

ما الذي تغيّر بنيويًّا؟

التحوّل لم يكن ماليًّا فقط، بل بنيويًّا. فالانهيار المالي الذي بدأ عام ٢٠١٩ لم يضرب الاقتصاد وحده، بل أطاح بالوظائف الأساسية للاقتصاد اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، كشفت الحرب الأخيرة حدود القوّة وأسقطت معادلات الردع السابقة.

في هذا السياق، لم يعد التفاوض يدور حول خطوطٍ أو ترتيباتٍ تقنية فقط، بل حول سؤالٍ أعمق: هل في لبنان دولة قادرة على فرض ما تُفاوض عليه؟ ومع غياب جوابٍ واضح، يتحوّل أيّ تفاوضٍ خارجيّ من دون حسمٍ داخليّ إلى تفاوضٍ نظريّ يفتقر إلى الضمانات.

ففي المراحل السابقة، كان يمكن التعامل مع السلاح كملفٍّ مؤجَّل، ومع الفساد كخللٍ يمكن احتواؤه، ومع الموارد «كغنائم سياسية» تُوزَّع ضمن توازناتٍ داخلية. أمّا اليوم، وبعد الحرب الأخيرة وتغيّر البيئة الإقليمية وموازين القوى، فقد تلاشت قدرة هذه العناصر على التعايش من دون أن تتحوّل إلى عبءٍ مباشر. فالسلاح الذي شكّل عنصر قوّة في معادلاتٍ سابقة بات جزءًا من سؤالٍ أوسع حول مَن يملك القرار ومَن يتحمّل تبعاته على المستوى الوطني، فيما تحوّلت المنظومة السياسية التقليدية من عامل استقرارٍ نسبيّ إلى عنصر تعطيلٍ كامل لأيّ رؤيةٍ وطنية للبنان الجديد.

إقرأ على موقع 180  مجموعة الأزمات الدولية: لبنان واحتمالات الفراغ.. والأمن!

وما يجعل المرحلة الحالية مختلفةً جذريًّا عمّا سبق، ليس حجم الانقسام الداخلي ولا تعقيد الملفات، بل سقوط القدرة على شراء الوقت. في السابق، كان تأجيل الحسم يُدار ضمن توازناتٍ تسمح بتجميد الصراع من دون كلفةٍ فورية. أمّا اليوم، فإنّ كلّ تأجيلٍ يتحوّل تلقائيًّا إلى عنصر إضعافٍ إضافي لموقع لبنان، لا إلى عنصر حماية. فالدولة التي تطلب الوقت يُنظَر إليها خارجيًّا كدولةٍ عاجزة عن تنفيذ قراراتها.

من هنا، لا يمكن قراءة مرحلة التفاوض الحالية كمرحلة ضبطٍ نسبيّ يمكن أن يؤدّي إلى تهدئةٍ مستدامة، بل كمرحلة اختبارٍ مشروطة بقرارٍ دوليّ. فإمّا أن يتحوّل هذا الهامش الزمني إلى مسار تنفيذي واضح، أو أن يُعاد إطلاق كلّ السيناريوهات التي جرى ضبط إيقاعها مؤقّتًا، لا إسقاطها.

إشكالية لبنان اليوم لا تكمن فقط في توازن القوى أو في تعقيدات ملفّ السلاح، بل في غياب سلطةٍ قادرة على تحويل أيّ تفاهمٍ إلى سياسةٍ داخلية قابلةٍ للتطبيق. في هذا السياق، يصبح الخطر الحقيقي أن يتحوّل لبنان من طرفٍ يُفترَض به أن يكون شريكًا في أيّ تسويةٍ إقليمية مقبلة، إلى ساحةٍ تُدار ضمن تسويات الآخرين أو ملفًا على طاولة مفاوضات اللاعبين الكبار في الإقليم. فالدول التي تدخل مراحل إعادة ترتيبٍ إقليمية من دون قرارٍ داخليّ موحّد، لا تحجز لنفسها موقعًا على طاولة التفاوض، بل يُحدَّد دورها سلفًا وفق ما يراه الآخرون ممكنًا أو ضروريًّا.

من هنا، لا يُختبَر مستقبل لبنان في هذه المرحلة بقدرته على كسب الوقت أو تجنّب الحرب فقط، إن استطاع ذلك، بل بقدرته على الانتقال من دولةٍ تُدار بالأزمات إلى دولةٍ تُدار بالقرار وبالرؤية الوطنية الواضحة. فالتسويات المقبلة، أكانت أمنية أم سياسية، لن تنتظر بلدًا لم يحسم بعد مَن يُقرّر باسمه، ولا ماذا يريد أن يكون عليه دوره في المنطقة.

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  روسيا والطاقة في الشرق الأوسط: تعزيز الأمن القومي!