“شجرة الفستق” لمصطفى اللبّاد.. إيران والعرب في قرن

Avatar18018/12/2025
يصدر حديثاً عن دار نوفل/هاشيت أنطوان كتاب "شجرة الفستق: إيران والعرب في قرن (1941 – 2013)"، للمحلل السياسي المصري الراحل الزميل الدكتور مصطفى اللبّاد، وفيه يعرض لمئة عام من العلاقات الإيرانية العربية، في بعدها الجيوسياسي. وخلص فيها الى أن حسابات طهران، بغضّ النظر عن أيديولوجيّة نظامها– تستند باستمرار إلى عاملين أساسيّين: الطموح المستمرّ في الزعامة الإقليميّة، ورؤية التناقضات القائمة في المنطقة بما في ذلك القضيّة الفلسطينيّة، ضمن منظورٍ يتجاوز التناقضات والقضايا في حدّ ذاتها، ليصل إلى محوريّتها في صياغة التوازنات والحراكات في المنطقة وكيفيّة استعمالها لمصلحة نفوذ إيران الإقليمي.

يعرض مصطفى اللباد، بموضوعية وبلا أي تحامل أو أفكار مسبقة، تلك العلاقة المعقّدة؛ فإيران ليست ملاكًا، ولا هي شيطانًا، بل دولة ذات طموح لا ينفصل عن كينونتها وهويتها، براغماتية، لا يرتقي فوق مصلحتها اعتبار. ويُبيّن الكتاب أنّ التوتّر الإيراني-العربي لا ينبع من نظام حكمها، أكان شاهنشاهيًا أم إسلاميًا، بل من أنّها، تاريخيًا، في حالة تنافس مع جوارها، ومن أنّها، وحتى عام 2013، كانت هي الرابحة من اختلال موازين القوى مع محيطها العربي.

لماذا كتاب “شجرة الفستق”؟

الهضبة الإيرانية أرض التناقضات الصارخة: جبال شاهقة، وصحارٍ قاحلة، وصراعٌ دائم من أجل الماء. إنّها بيئة صعبة ومتطلّبة. وشجرة الفستق لا تنمو فيها فحسب، بل تزدهر. ويكمن سرّ حياتها في نظام جذورها العميقة والمتشعّبة، التي يمكن أن تغوص وتتمدّد أمتارًا في التربة الجافّة والمالحة حتى تثبت الشجرة بقوّةٍ وتمدّها بالغذاء، حيث تهلك النباتات الأخرى.

يمكن قراءة هذه الشجرة كاستعارةٍ للسلوك السياسي الإيراني، الذي يستمدّ مرجعيّته من الهوية الثقافية المصقولة بالشعر والفلسفة الفارسيّين، والمندمجة مع الإسلام الشيعي. هذا التجذّر التاريخي العميق سمح للدولة الإيرانية باستيعاب الصدمات الخارجيّة، واستمداد القوّة من تاريخها الخاصّ، والحفاظ على هوية حضارية مميزة وغير منقطعة في مواجهة التحدّيات، وتشكيل طابعها الأصيل.

ومصطفى اللباد كان واعيًا لتلك الاستعارة، ولأمّةٍ أتقنت فنّ البقاء بحساباتٍ دقيقة، جعلتْها عارفةً للّحظة التي ينبغي فيها أن تنحني أمام عواصف التاريخ لتحفظ نفسها – وفي أحيانٍ كثيرة نظامها – ثم النهوض من جديد.

ولمناسبة صدور الكتاب الجديد للدكتور مصطفى اللبّاد (وكان شريكًا، للمناسبة، في مناقشة فكرة موقع 180 بوست هو والزميل الراحل وسام متى بدءًا من مطلع العام 2019)، ينشر “180 بوست”، بالتنسيق مع إدارة “دار نوفل/هاشيت أنطوان” وعائلة الراحل، مقدمة الكتاب الجديد الذي ستكون لنا إطلالات جديدة عليه في الأسابيع المقبلة.

مقدّمة كتاب “شجرة الفستق”

إيران ليست بلدًا عاديًّا يمكن تحليل ماضيه السياسي كمدخلٍ كافٍ لاستشراف مستقبله، بل هو بلدٌ إقليمي كبير متداخلٌ إلى أقصى درجات التداخل مع خرائط السياسة العالميّة وتقاطعاتها، سواءٌ في عصر نظامه الملكي السابق «المنفتح» على النظام الدولي، أو في عصر نظامه الجمهوري الإسلامي الحالي «المتصادم» مع ذاك النظام. ولكنّ الأوصاف من قبيل «الانفتاح» و«التصادم» للإشارة إلى النظام السياسي الإيراني في فتراتٍ تاريخيّة مختلفة، بغضّ الطرف عن مدى دقتها، لا تلغي حقيقة أنّه – مع اختلاف أيديولوجيّاته الحاكمة – نظامٌ متداخل إلى حدٍّ كبير مع النظام الدولي، لسببٍ أساسي هو طموحاته الإقليميّة التي تبدو عَلمًا على سياسات إيران الإقليميّة والخارجيّة. وكأنّ إيران لا تتصالح مع نفسها إلّا وهي دولةٌ إقليميّة نافذة، وكأنّ دورها الإقليمي تعدّى عبر تاريخ دولتها الحديث مرحلة «الضرورة» ليرتقي إلى مصاف «المأزق الوجودي»، الذي لا ينحلّ إلّا بتحقيق إيران لذاتها الإقليميّة.

ولأنّ تلك الطموحات الإقليميّة «الأزليّة» تجد تطبيقاتها العمليّة في منطقةٍ جغرافيّة كانت، منذ بدايات القرن العشرين، إحدى أهم المناطق في الاستراتيجيّات العالميّة بسبب مواردها الضخمة من الطاقة، فقد اكتسبت إيران أهمّيةً مضاعفة وموقعًا استثنائيًّا في النظام الدولي. وإذا عُطف التوتّر الناجم عن الطموحات النوويّة الإيرانيّة وتصادم المصالح والأولويّات، بين طهران من ناحية وواشنطن ومعها العديد من عواصم المنطقة من ناحيةٍ أخرى، على هذا الخليط الفريد من الاعتبارات والطموحات، فسيجد الراغب في استشراف آفاق المستقبل الإيراني وسيناريوهاته نفسه هو الآخر أمام مأزق.. ولكن من نوعٍ آخر.

إيران ليست شيطانًا يجري الترويج لخطره المزعوم بغرض التعمية على عدوّ العرب الحقيقي أي دولة الاحتلال الصهيوني، كما أنّ إيران في الوقت نفسه ليست ملاكًا لا يأتيها الباطل من أمام ولا من خلف، فهذه التوصيفات ليست من طبائع الأمم ولا من أساسيّات السياسة. إيران جارٌ تاريخي كبير يشترك مع العرب في كثيرٍ من القواسم الحضاريّة والتاريخيّة، والاختلافات مع إيران، وهي اختلافاتٌ حاضرةٌ وستظلّ حاضرةً بمنطق الأمور، يجب أن تدار بهذه الروح وبذلك المنطق حرصًا على مصالح العرب ووجودهم وعلى انتظام سياقات التعاون الإقليمي

علينا أن نتذكرّ في حومة الاختلاف على أدوار إيران في المنطقة أنّها كيانٌ حضاري وتاريخي وجارٌ للعرب منذ آلاف السنين، وليست هابطةً على المنطقة بالمظلّات، والقواسم المشتركة بين العرب والإيرانيّين كثيرة. في المقابل، إيران منافسٌ تاريخيٌّ للعرب تتصاعد شراسته كلّما اختل ميزان القوى لمصلحته، وهو أمرٌ يتبدّى جليًّا في صراعات المنطقة الدائرة راهنًا ونفوذ إيران فيها. فالظاهرة المؤسِّسة للتوتّر العربي-الإيراني الراهن هي اختلال موازين القوى، لا المذهبيّة التي تستخدمها الأطراف المتصارعة لإخفاء حساباتها الجيو-سياسيّة.

وبدلًا من مقارعة النفوذ الإيراني المتمدّد في المنطقة من العراق إلى سوريا إلى لبنان واليمن بمشروعٍ سياسي وتنموي عربي، راحت بعض الدوائر الإعلاميّة تنفخ في نار الفتنة المذهبيّة حتّى اختلط نابل المنطقة بحابل سياساتها.

يبدو المشهد اليوم في المنطقة وكأنّ عجلة التاريخ عادت ألف سنةٍ إلى الوراء، حتّى أطلّت الشعوبيّة المقيتة، التي شكّلت الأساس الفكري للنفور بين العرب والإيرانيّين، برأسها من جديد.

لذا يجب التسليم بوجود إرثٍ تاريخي مشترك بين العرب والإيرانيّين، فيه الإيجابي وفيه السلبي، كما يليق بجوارٍ جغرافي يمتد إلى آلاف السنين. فقد جرى التركيز على حوادث تاريخيّةٍ بعينها وتمييزها عن السياق العامّ، وصولًا في النهاية إلى التعمية على الخيط الطويل والمتّصل للتاريخ المشترك بين العرب والإيرانيّين. ومع انخراط إيران العسكري في سوريا، تستبطن المقولة المؤسفة التي تسم إيران بـ«الخطر القريب»، زعمًا آخر رائجًا مفاده وجود «هلال شيعي»، يتآمر للتمدّد في طول المنطقة وعرضها وتحرّكه أصابع إيرانيّة.

العداء لإيران خطيئة لا تُغتفر

ويُعَدّ وضع الإيرانيّين في سلّةٍ واحدة مع العدوّ التاريخي للعرب، شرطًا لمقارنة لا تجوز تاريخيًّا ولا موضوعيًّا ولا حتّى استراتيجيًّا، في عصرٍ يشهد اشتداد الضغوط على الدول العربيّة، باعتبارها المسرح الأساس لمشاريع متلاطمةٍ جهاديّةٍ ودوليّة. فإيران لم تنشأ بقرارٍ دولي فرضته أجندةٌ دوليّة بقوّة السلاح على العرب رغمًا عن إرادتهم، واستمرّت تغذّيه بالمال والسلاح والفيتو، وضمنت له تفوّقًا عسكريًّا كاسحًا على قدراتهم مجتمعين! بل كانت جارًا للعرب منذ آلاف السنين، وهي جارةٌ لهم الآن، وستظلّ كذلك في المستقبل.

وإيران لا تستند إلى دعم خارجي في وجودها الضارب في عمق ثقافة وتراث المنطقة، ولم تقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه، أو تدّعي «هبةً إلهيّة» للسيادة على كامل المنطقة الممتدّة من النيل إلى الفرات. فهي ليست دولةً هابطة بالمظلّات على جغرافيا المنطقة وتاريخها، بل كيانٌ مؤسِّس ورافدٌ أساسيّ من روافد ثقافتها وحضارتها. أمّا حقيقة وجود مشاكل حدوديّة بين العرب والإيرانيّين فهو أمرٌ معتاد بين الجيران، والدليل على ذلك وجود مشاكل مماثلة بين العرب وتركيا (لواء الإسكندرون)، والعرب وإثيوبيا (منابع النيل والحدود مع السودان والصومال)، والعرب وإسبانيا (سبتة ومليلة)، أي بوضوح بين العرب وكلّ جوارهم الجغرافي. ولا يعني ذلك التقليل ممّا نراه نحن كعرب حقًّا، ولكنّ الارتقاء بمستوى الخلاف إلى مصاف مساواة الجار التاريخي، أي إيران، بالعدوّ التاريخي، أي دولة الاحتلال الصهيوني، لَخطيئةٌ لا تُغتفر بحقّ التاريخ والجغرافيا قبل أن تكون بحقّ إيران.

فالعلاقات العربيّة-الإيرانيّة لم يصنعها بنو البشر فقط، ولم تخلقها التطوّرات الإقليميّة فحسب، بل أوجدتها الجغرافيا التي هي قدر الأمم، وصقلها التاريخ وصاغتها حضارة الإسلام. قدر العرب أن يكون جوارهم إيران، كما هو قدر إيران أن يكون العرب جوارها.

والأرجح أنّه لم يحدث هذا القدر الهائل من الاختلاط الحضاري بين فضاءٍ حضاري وآخر مثلما حدث بين العرب وإيران، حيث صاغت الحضارة العربيّة الإسلاميّة الأمّتين في قالبٍ مشترك، رفد الحضارة الفارسيّة بعنصرٍ جديد. وهو ما استنهض طاقاتها وفجّر حيويّتها من ناحية، ودعم حضارة العرب بأبعادٍ جديدة أضفت الطابع التعدّدي عليها، وخرجت بالإسلام وتعاليمه السمحة ومنظومته القيميّة التي أرساها إلى خارج الجزيرة العربيّة، وعضده بالمزيد من العلماء والمفكّرين، حتّى اكتسبت حضارة الإسلام بعدًا أمميًّا حضاريًّا لا عرقيًّا فقط.

العقيدة والحضارة والإدارة

أزاح الإسلام عن إيران الشتات الفكري الضارب في المجتمع الإيراني وقتذاك، بعدما فضّ الاشتباك الناشب بين العقائد الدينيّة المنتشرة وقتها في طول إيران وعرضها، كما يقول آية الله مطهّري في كتابه «الإسلام وإيران». وثبّت الإسلام الوافد من جزيرة العرب – ربّما للمرّة الأولى في تاريخ إيران – مبدأ وحدة العقيدة بين الإيرانيّين، إذ لم يربط بين الإيرانيّين قبل الإسلام، من آريّين وساميّين وذوي لغاتٍ وعقائد مختلفة، سوى القوّة فقط التي كفلت للحكّام السيطرة، حتّى جاء الإسلام فربط بين الناس جميعًا في فلسفةٍ واحدة، وبناءٍ فكري واحد.

فتح الإسلام أبواب التواصل الحضاري مع ثقافات العالم أمام الإيرانيّين، الذين لم ينفتحوا قبل الإسلام بقرونٍ عديدة حتّى على أنفسهم، نظرًا إلى تشتّت منظومة القيم والأفكار داخل بلادهم. وكان من الطبيعي أن تنفتح إيران على العرب، هؤلاء الذين أفسحوا للإيرانيّين مكانًا متميّزًا في حضارة الإسلام، حتّى صار بعض علماء المسلمين من أصول إيرانيّة مراجع دينيّين حتّى للعرب أنفسهم.

إقرأ على موقع 180  زيارة غروسي إلى طهران.. أزمة جديدة أم تفاهمات جديدة؟

ومنذ القرون الأولى لانتصار الإسلام، أصبح الإيرانيّون أكثر حضورًا في نسيج الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهكذا صار أبو عبيدة معمّر بن المثنّى وواصل بن عطاء من أئمّة علم الكلام والجدل والعقيدة، وسيبويه والكسائي أعلم علماء النحو والصرف العربي، إلى آخر القائمة، دون تمييزٍ عنصري، إلّا في فتراتٍ جدّ قليلةٍ ولأسبابٍ سياسيّة لا عقيديّة. من ناحيتهم، انفتح العرب على إيران ولم يجدوا غضاضةً في اقتباس النظام الإداري للدولة العربيّة-الإسلاميّة من النظام الإداري الإيراني. ومنذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، جرى تنظيم الدواوين على طريقة الدفاتر والدواوين الإيرانيّة القديمة، ثمّ نقل العرب العلوم والمعارف من اللغات المختلفة، فكان أول ما تُرجم إلى العربيّة منقولًا من القبطيّة المصريّة واليونانيّة، ثمّ نُقل الديوان بكامله على زمن الحجّاج من الفارسيّة إلى العربيّة.

في هذه المساحة الزمنيّة الكبيرة نسبيًّا التي تبلغ قرنًا من الزمان، يتأكّد أنّ حسابات إيران – بغضّ النظر عن أيديولوجيّة نظامها الحاكم – تستند باستمرار إلى عاملين أساسيّين: الأول؛ الطموح المستمرّ في الزعامة الإقليميّة، والثاني؛ رؤية التناقضات القائمة في المنطقة بما في ذلك القضيّة الفلسطينيّة، ضمن منظورٍ يتجاوز التناقضات والقضايا في حدّ ذاتها، ليصل إلى محوريّتها في صياغة التوازنات والحراكات في المنطقة وكيفيّة استعمالها لمصلحة نفوذ إيران الإقليمي

وصار علماء المسلمين من العرب والإيرانيّين فوق الأعراق والأصول الجغرافيّة، نظرًا إلى تراكم المعارف والخبرات والتناغم الحضاري بين الدائرتين الحضاريّتين العربيّة والفارسيّة. وحتّى اليوم لا يعرف الكثيرون أنّ كثرةً من أصحاب الصحاح الستّة وكذلك من مؤلّفي الكتب الأربعة هم من أصولٍ إيرانيّة، مثل البخاري ومسلم والنيشابوري وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو داود السجستاني والترمذي والبيهقي وابن ماجه القزويني. وتصل هذه الشراكة التاريخيّة العقائديّة إلى ذروة كفايتها التفسيريّة، حين نعرف أنّ اثنين من الأئمّة السنّة الأربعة ينحدران من مقاطعة خراسان؛ وهما أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأحمد بن حنبل المروي الخراساني. وحتّى في ظلّ اشتداد الشعوبيّة التي ظهرت بين العرب والفرس في فتراتٍ زمنيّةٍ قليلةٍ على عهد الأمويّين والعباسيّين والتي تطلّ برأسها الآن مجدّدًا للأسف، وتوغل في مشاعر العصبيّة القوميّة، نجد العالِم الإيراني الشهير الثعالبي النيسابوري يجعل مقدّمة كتابه «سرّ الأدب في مجاري كلام العرب» بيانًا قويًّا لتعلق الإيرانيّين بالإسلام والحضارة العربيّة-الإسلاميّة حين يبدأ الكتاب كالتالي:

«من أحبّ الله تعالى أحبّ رسوله محمّدًا المصطفى صلى الله عليه وآله، ومن أحبّ الرسول أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ اللغة العربيّة التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم، ومن أحبّ اللغة العربيّة عُني بها وثابر عليها وصرف همّه إليها. ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه قوّة بصيرةٍ وحسن تديّن اعتقد أنّ محمّدًا صلوات الله عليه خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربيّة خير اللغات والألسنة…».

وفيما كتب العالم الإيراني الشهير أبو عبيدة بن معمّر بن المثنّى كتابًا بعنوان «مَقاتل فرسان العرب» ليخلّد ذكرى العرب والعروبة وفضل العرب على الإنسانيّة، فقد كتب العالم العربي المسعودي كتاب «مَقاتل فرسان العجم» ليردّ على أبي عبيدة معمّر بن المثنّى، ويعيد الاعتبار للفرسان الإيرانيّين وتاريخهم.

الإصطفاف والفرز المذهبي

واليوم، لم يعد الفرز السياسي في كثيرٍ من دول الشرق الأوسط، كما هو مفترضٌ في بيئةٍ سياسيّةٍ طبيعيّة، بين قوى اليمين وقوى اليسار، بل بين أحزابٍ وتيّارات سياسيّة تُعدّ واجهةً لطوائف متنافرةٍ تتصارع في ما بينها على خلفيّةٍ طائفيّة بامتياز. وحتّى تصميم التحالفات الإقليميّة في الشرق الأوسط لم يعد فقط انعكاسًا للسياسات الداخليّة للدول، ولا حتّى ترجمةً دقيقة لمصالحها الوطنيّة في الإقليم وحدود أدوارها التي تراها في منطقتها فقط، بل أصبح رسم التحالفات الشرق أوسطيّة يُدار ويُنَسَّق على أساس الاصطفاف المذهبي العابر للحدود الوطنيّة. وصار الفرز الطائفي أحد أكثر المعايير أهمّيةً لتمييز التيّارات والقوى السياسيّة داخل دول المنطقة، وأحد الدوافع الرئيسيّة لإقامة التحالفات الإقليميّة بين هذه الدول، في مواجهة تحالفاتٍ مدموغة بلونٍ طائفي مخالف، وصولًا إلى اعتبار مراكز صنع القرار في النظام الدولي الراهن أنّ التنافس السنّي-الشيعي هو أحد أبرز ملامح الصراع في الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين.

إيران ليست شيطانًا يجري الترويج لخطره المزعوم بغرض التعمية على عدوّ العرب الحقيقي أي دولة الاحتلال الصهيوني، كما أنّ إيران في الوقت نفسه ليست ملاكًا لا يأتيها الباطل من أمام ولا من خلف، فهذه التوصيفات ليست من طبائع الأمم ولا من أساسيّات السياسة. إيران جارٌ تاريخي كبير يشترك مع العرب في كثيرٍ من القواسم الحضاريّة والتاريخيّة، والاختلافات مع إيران، وهي اختلافاتٌ حاضرةٌ وستظلّ حاضرةً بمنطق الأمور، يجب أن تدار بهذه الروح وبذلك المنطق حرصًا على مصالح العرب ووجودهم وعلى انتظام سياقات التعاون الإقليمي، وهو ما تقوم عليه فكرة الفصل الثاني بملاحظة الثابت والمتغيّر في حسابات إيران الجيو-سياسيّة وطموحها التاريخي لتولّي دور «المرجعيّة الإقليميّة»، عبر تحليل الظواهر والأحداث المتلاحقة من منظورات التوازن الدولي وطموح إيران الإقليمي ومصالحها الوطنيّة. يحاول هذا الفصل (الثاني) تقديم رؤية تفكيكيّة لحسابات إيران الجيو-سياسيّة المعقّدة، تلحظ بدايات تشكّل السياسة الإيرانيّة حيال العرب إبان رضا شاه، مرورًا بسياسة محمّد رضا شاه العربيّة والاعتبارات المتحكّمة فيها. على ذلك يبدأ الفصل أولًا بعرض السياسة الإيرانيّة حيال العرب منذ الحرب العالميّة الأولى في عام 1914 حتى إزاحة رضا شاه في عام 1941، ثمّ يُلقي الضوء ثانيًا على سياسات إيران العربيّة المحكومة بالتوازنات من عام 1941 حتّى هزيمة العرب عام 1967، وفي النهاية يلحظ التغيّر في سياسات إيران العربيّة في الفترة الممتدة من عام 1967 حتّى عام 1979، عام انتصار الثورة في إيران ويفسّر أسبابه.

في هذه المساحة الزمنيّة الكبيرة نسبيًّا التي تبلغ قرنًا من الزمان، يتأكّد أنّ حسابات إيران – بغضّ النظر عن أيديولوجيّة نظامها الحاكم – تستند باستمرار إلى عاملين أساسيّين: الأول؛ الطموح المستمرّ في الزعامة الإقليميّة، والثاني؛ رؤية التناقضات القائمة في المنطقة بما في ذلك القضيّة الفلسطينيّة، ضمن منظورٍ يتجاوز التناقضات والقضايا في حدّ ذاتها، ليصل إلى محوريّتها في صياغة التوازنات والحراكات في المنطقة وكيفيّة استعمالها لمصلحة نفوذ إيران الإقليمي.

لا يتوخّى الكتاب الإدانة أو التقريظ لحسابات إيران العربيّة، فكلا الأمرين يخرج عن سياق البحث العلمي الرصين، بل تسليط الضوء على الديناميّات والعوامل الحاكمة لهذه الحسابات، عبر تحليلها في حقبٍ تاريخيّة مختلفة وسياقاتٍ إقليميّة متباينة، وصولًا إلى فهمٍ أكثر تركيبًا وتعقيدًا لحسابات إيران الجيو-سياسيّة.

من هو الدكتور مصطفى اللبّاد؟

-باحث وكاتب مصري (مواليد القاهرة 1965- توفي في الأول من أيلول/سبتمبر 2019).

-حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط من جامعة هومبولدت في برلين عام 1994، وهو أحد أبرز الباحثين العرب في الشأنَيْن الإيراني والتركي.

-أصدر في القاهرة مجلة «شرق نامه» الفصليّة المتخصّصة في شؤون إيران وتركيا وآسيا الوسطى، لتكون المطبوعة العربية الوحيدة المتخصّصة في هذه المنطقة.

-عمل محاضرًا في الاقتصاد الدولي واقتصادات الشرق الأوسط في عدة جامعات ومعاهد في ألمانيا ومصر.

-بفضل إلمامه باللغة الفارسية وزياراته المتعدّدة لإيران، صار أحد عناوين التخصّص في الشؤون الإيرانية، وشارك في مئات المقابلات التلفزيونية والإذاعية للتعليق على الأحداث الإقليمية وتحليلها. 

-أنشأ مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية ليقدم عشرات الأوراق البحثية في مؤتمراتٍ علمية.

-نشر مصطفى اللباد مئات المقالات التحليليّة في صحف عربية وأجنبية منها «السفير» و«النهار» و«الأهرام ويكلي».

-صدر له كتاب «حدائق الأحزان: إيران وولاية الفقيه» (2006).

-قضى الدكتور مصطفى اللباد عدّة سنوات قبل وفاته في الإعداد لهذا الكتاب (“شجرة الفستق”)، محاولًا تحليل ديناميّات العلاقة الإيرانية العربية، في فترةٍ شهدت الكثير من التغيّرات السياسية في الإقليم، مع انهيار أنظمةٍ وصعود أخرى. يحلّل المؤلّف مئة عامٍ من التاريخ الإيراني الحديث، كاشفًا عن إيقاعٍ دوريٍ من الصعود والانحدار، من التمدّد والانكماش، ومن الضغط الذي أنتج «الابتسامة الإيرانية» التي تُظهر مرونة خارجية، لكنّها تُخفي تخطيطًا استراتيجيًا عميقًا. عمل استشرافيّ لن يراه مؤلِّفه معروضًا في المكتبات، لكنّه يبقى إرثًا فكريًا لفهم بلدٍ هو لاعبٌ أساس في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط، أتقن فنّ المناورة والتخطيط الطويل وتفادي العواصف للبقاء على مرّ العصور. 

 

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الولايات المتحدة وإيران.. مواجهة صفرية أم تسوية كبرى؟