لبنان: مشروع الفجوة المالية.. خطوة نحو الشفافية أم تثبيت الواقع القائم؟

لا يُمكن فصل مشروع قانون الفجوة المالية الجديد عن السياق السياسي والاقتصادي الذي نشأ فيه، ولا عن النقاش الحاد الدائر منذ سنوات حول مسؤوليّات أزمة الودائع في لبنان. فالقانون لا يُطرح بوصفه أداة تقنية محايدة لمعالجة خلل محاسبي فحسب، بل يأتي في لحظة شديدة الحساسية، يسعى فيها النظام الاقتصادي - المالي إلى إعادة ترتيب الخسائر وتحديد الجهات التي ستتحمّلها، وتلك التي سيُصار إلى تحييدها عن كلفتها.

من حيث الشكل، يُسجَّل لمشروع القانون الذي قدّمته حكومة نواف سلام، أنه يكسر، ولو جزئياً، حالة الإنكار التي وسمت إدارة الأزمة منذ بداياتها. فالاعتراف بوجود فجوة مالية وبحجمها وتحديد الأولويات في المسؤوليات، في نص حكومي، شرط ألا يُحال إلى لجنة وزارية، كما حصل في تجارب سابقة، يُفترض أن يشكّل خطوة أولى نحو قدر من الشفافية، وأن يضع حداً لإدارة الخسائر عبر إجراءات استنسابية طالت المودعين من دون أي إطار قانوني واضح طوال ست سنوات من عمر الأزمة. غير أن هذا التقدّم الشكلي لا يكفي وحده لتبديد الأسئلة الجوهرية التي يثيرها مشروع القانون، ولا سيما تلك المتصلة بتوزيع المسؤوليات.

فمصطلح “الفجوة المالية”، على حياده الظاهري، لا يشرح كيف نشأت هذه الفجوة، ولا يحدّد بدقة الأدوار التي أدّت إلى اتساعها. وهو بذلك يختصر مساراً طويلاً من السياسات والقرارات في نتيجة رقمية قابلة للإدارة المحاسبية، من دون تفكيك فعلي للسلوكيات التي راكمت الخسائر. وليس هذا الاختزال تفصيلاً لغوياً، بل خياراً سياسياً بامتياز، إذ إن طريقة توصيف الأزمة غالباً ما ترسم حدود معالجتها.

في هذا السياق، يبرز النقاش حول دور المصارف بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية. فالمصارف التجارية لم تكن مجرّد وسيط بين المودعين والدولة، بل شريكاً كاملاً في نموذج مالي غير مستدام، قام على استقطاب الودائع وتوظيفها في أدوات عالية المخاطر. وتشير بيانات مصرف لبنان إلى أن المصارف وظّفت أكثر من 70 في المئة من ودائع المودعين في سندات الدولة بفوائد مرتفعة، ما جعلها شريكاً مباشراً في دعم نموذج اعتمد على اجتذاب ودائع جديدة لتسديد التزامات سابقة، بدلاً من توجيه هذه الأموال نحو قطاعات منتجة قادرة على تحفيز النمو وخلق فرص عمل.

هذه أول مقاربة حكومية “تتناغم” إلى حد كبير مع معايير صندوق النقد الدولي، لكن لا يُقاس مشروع قانون الفجوة المالية بمدى مقبوليته من جهات دولية أو بدقّته الحسابية فقط، بل بالدور الذي يمكن أن يلعبه في إعادة صياغة مفهوم المسؤولية عن الأزمة. فإما أن يُشكّل مدخلاً لمعالجة عادلة ومتوازنة للخسائر، وإما أن يتحوّل إلى محطة تُدار فيها الخسائر وتُميَّع فيها المسؤوليات. وبين هذين الخيارين، يبقى مصير الودائع مؤشراً أساسياً على طبيعة التسوية التي سيخرج بها لبنان من واحدة من أعمق أزماته المالية

مع ذلك، يبدو مشروع القانون متحفّظاً في ترجمة هذا الدور إلى التزامات واضحة في تحمّل الخسائر. فهو لا يُحدّد بشكل دقيق حجم الخسائر التي ينبغي أن تتحمّلها المصارف، ولا يضع آليات تنفيذية واضحة لتحميل هذه الأعباء، كما لا يربط بين توزيع الخسائر وتقييم مسؤوليّات إدارات المصارف التي اتخذت قرارات ساهمت في تعميق الفجوة. ويشمل هذا التردّد مسألتي إعادة رسملة المصارف واعتماد آليات إعادة هيكلة فعلية.

من هنا، يبرز التخوّف من أن يتحوّل القانون إلى أداة تنظّم نتائج الأزمة من دون أن تمسّ بجوهرها. فالإقرار بوجود فجوة مالية من دون ربطها بمسار واضح للمساءلة أو بتحميل المصارف جزءاً متناسباً من الخسائر، قد يُفهَم على أنه إعادة توزيع غير معلنة للأعباء، يكون المودعون في طليعة من يتحمّل كلفتها، كما جرى فعلياً خلال السنوات الماضية.

ولا يمكن إغفال أن المودعين تكبّدوا بالفعل خسائر فادحة، حتى في غياب أي نص تشريعي. إذ تشير دراسات منظمات معنية بحقوق المودعين إلى أن هذه الخسائر تجاوزت 80 مليار دولار، نتيجة قيود السحب، وتعدّد أسعار الصرف، والتضخّم الحاد الذي تخطّى عتبة 1000 في المئة منذ بداية الأزمة في خريف العام 2019. وتؤكد تقارير البنك الدولي أن جزءاً أساسياً من هذه الخسائر ناتج عن سياسات غير مستدامة انتهجها مصرف لبنان وقطاع المصارف، ما أدى إلى استنزاف الودائع في ظل غياب إطار قانوني يُحدّد الخسائر أو يُوزّعها بوضوح.

في هذا المعنى، لا يُناقَش قانون الفجوة المالية في فراغ، بل فوق أرضية مثقلة بخسائر وقعت فعلياً، ويجري اليوم البحث عن تأطيرها ومنحها غطاءً قانونياً.

من هنا أيضاً، يطرح مشروع القانون سؤالاً سياسياً مركزياً: هل الغاية هي وضع حدّ لهذه المرحلة غير المنظّمة، أم تثبيتها بصيغة تشريعية نهائية؟ فثمّة فارق جوهري بين تشريع يفتح الباب أمام معالجة متوازنة للخسائر، وتشريع يُقفل النقاش عبر تحويلها إلى أمر واقع مُقنّن، من دون ضمانات جدية لعدالة التوزيع.

في المقابل، لا يمكن تجاهل الطرح الذي يرى في مشروع القانون خطوة لا بدّ منها، مهما كانت ناقصة. فغياب إطار قانوني شامل أبقى الأزمة مفتوحة، وسمح بتآكل الودائع بصمت ومن دون أفق واضح للحل. ومن هذا المنطلق، يُقدَّم المشروع الفجوة المالية كأداة انتقالية تضع الخسائر على الطاولة وتفرض التعامل معها بدل استمرار إنكارها. غير أن قيمة هذه الخطوة تبقى رهن ما إذا كانت ستُستكمل بإقرارها في مجلس النواب، أم ستبقى أسيرة التوازنات السياسية المعروفة وقدرة “حزب المصرف” على تعطيلها، كما فعل طوال ست سنوات من عمر الأزمة.

إقرأ على موقع 180  الولايات المتحدة الممزقة بين "وثائق بايدن" و"وثائق ترامب"

سياسياً، يعكس مشروع القانون محاولة دقيقة لإدارة تضارب المصالح بين أطراف متعدّدة: دولة عاجزة عن تحمّل الخسائر وحدها، مصرف مركزي يسعى إلى حماية موقعه وتفادي المساءلة عن سياساته السابقة، قطاع مصرفي منقسم بين مصارف كبرى ارتبطت بالسلطة السياسية واستفادت من النموذج المالي السابق، ومصارف أصغر تضرّرت بصورة أشد، إلى جانب جهات خاصة استفادت من سندات الدولة ذات الفوائد المرتفعة، ومودعين يطالبون باستعادة حقوقهم وبالعدالة في توزيع الخسائر. وفي هذا المشهد، يخشى كثيرون إعادة إنتاج منطق تحميل الفئات الأضعف العبء الأكبر، تحت غطاء تقني وقانوني.

لكي يتحوّل مشروع القانون إلى أداة عدالة لا مجرّد إدارة أزمة، لا بدّ من أن يتضمّن عناصر واضحة، أبرزها: آلية مستقلة لتقييم المسؤوليات في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، وربطها بمسارات مساءلة قضائية، وتحديد مساهمة المصارف في تحمّل الخسائر عبر إعادة تقييم رساميلها، وضمان حماية المودعين ذوي الودائع الصغيرة والدخل المحدود، إضافة إلى وضع مهلة زمنية ملزمة لتنفيذ هذه الالتزامات.

في المحصّلة، هذه أول مقاربة حكومية “تتناغم” إلى حد كبير مع معايير صندوق النقد الدولي، لكن لا يُقاس مشروع قانون الفجوة المالية بمدى مقبوليته من جهات دولية أو بدقّته الحسابية فقط، بل بالدور الذي يمكن أن يلعبه في إعادة صياغة مفهوم المسؤولية عن الأزمة. فإما أن يُشكّل مدخلاً لمعالجة عادلة ومتوازنة للخسائر، وإما أن يتحوّل إلى محطة تُدار فيها الخسائر وتُميَّع فيها المسؤوليات. وبين هذين الخيارين، يبقى مصير الودائع مؤشراً أساسياً على طبيعة التسوية التي سيخرج بها لبنان من واحدة من أعمق أزماته المالية.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "قوة لبنان في ضعفه": أساطير مسيحية مؤسِّسة (1)