حرب الأسعار بين روسيا والسعودية… من الرابح؟

في وقت تتباين التوقعات بشكل حاد إزاء نتائج الاجتماع المقبل لـ"أوبك بلاس" لتحديد آفاق حرب الأسعار الدائرة بين روسيا والسعودية، يرى فيكتور كاتونا، الخبير الروسي في شؤون الطاقة، أن فيروس "كورونا" قد يدفع أكبر مصدّرين للطاقة في اوراسيا إلى التقارب. في أحدث دراسة قدّمها لـ"نادي فالداي" الحواري، أشار كاتونا إلى أنه إذا انخفض الطلب العالمي على النفط، وهو ما يجري بالفعل في ظل الجائحة الوبائية حالياً، فإنّ حروب الأسعار التي تزيد من المعروض النفطي في السوق ستؤدي إلى نتائج عكسية. وأخذاً في الحسبان المستويات في مرافق التخزين في جميع أنحاء العالم، سيكون من المستحيل إنكار موسكو والرياض رغبتهما في إبرام اتفاقية جديدة.

أدى انهيار اتفاق “أوبك بلاس” في أوائل آذار/مارس الماضي، إلى تبديد التقدم الذي تحقق خلال السنوات الماضية في سوق الطاقة العالمية. بعد فترة طويلة من التعاون الناجح بين الدول المنتجة للنفط، بات كل بلد يتحرك مرّة جديدة وفق مصالحه الخاصة.

خلال العقد الحالي، يبدو أن الحفاظ على حصة السوق، بغض النظر عن اعتبارات السعر، سيكون هو القاعدة. يتحرك مصدرو الغاز الروس بالفعل ضمن هذا الاتجاه، نظراً لظهور الغاز الطبيعي المسال كمنتج قوي في الأسواق.

اما بالنسبة إلى النفط، فيتعزز الاتجاه نفسه بعدم رغبة القوى النفطية الثلاث الكبرى – روسيا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية – في استيعاب مصالح بعضها البعض.

باتت موسكو والرياض وواشنطن حالياً في وضعيات متفاوتة. شركات الطاقة الروسية تجاوزت بالفعل الأضرار التي تسبب بها هبوط أسعار النفط في العامين 2015-2016، وبدأت تدريجياً في تحسين مؤشراتها المالية، بالرغم من كافة الصعوبات المتعلقة بالعقوبات. شركة النفط الوطنية السعودية “أرامكو”، ركيزة الاقتصاد الوطني، تعرضت لضربة قوية ضد مرافق البنية التحتية الرئيسية لديها في أيلول/سبتمبر 2019، ولكنها نجحت بعد ذلك في استعادة ثقة السوق. كذلك، شهدت الولايات المتحدة ، التي ليست لديها شركة وطنية، معدلات نمو تاريخية في إنتاج النفط.

الألم اليوم، المكافأة غداً

بالنسبة إلى روسيا ، يَعِد الانسحاب من اتفاقية “أوبك بلاس” بخسائر  اقتصادية ومزايا سياسية في آنٍ معاً.

 في العام 2019، وبمتوسط ​​سعر “برنت” السنوي البالغ 64.3 دولاراً للبرميل، كانت الميزانية الروسية فائضة، ما جعل من الممكن تعزيز المراكز المالية لكل من الشركات والحكومة الروسية.

على العكس من ذلك، فإن النطاق السعري الحالي الذي يتراوح بين 25-30 دولاراً للبرميل لا يرضي أحداً: انزلقت الميزانية الروسية نحو العجز وبدأت الشركات في خفض التكاليف ومراجعة خطط الاستثمار. يمكننا أن نفترض أن الأسعار ستتعافى، ولكن في الوقت الحاضر، فإنّ المصارف الاستثمارية الرائدة ووكالات التصنيف العالمية لا ترى الامر هكذا: كافة التوقعات بشأن المتوسط السنوي لعقود “برنت” الآجلة في عام 2020 تبقى أقل من نقطة التعادل في الميزانية الروسية –  “اس أند بي غلوبال” (30 دولاراً للبرميل)، “باركليز” (31 دولاراً للبرميل)، “مورغان ستانلي” (35 دولاراً للبرميل)، “غولدمان ساكس” (35.89 دولاراً للبرميل) و”بي إن بي باريبا” (41 دولاراً للبرميل).

في الوقت ذاته، وبالنظر إلى النمو غير المسبوق في إنتاج النفط الأميركي، يبدو الوضع الحالي محفوفاً بالعديد من المخاطر. أولاً، من السهل تتبع كيف تمكن منتجو النفط الأميركيون من زيادة الإنتاج بمقدار أربعة ملايين برميل يومياً (حتى 12.8-12.9 مليون برميل يومياً) منذ تشرين الثاني/نوفمبر  من العام 2016، عندما تم إبرام اتفاقية فيينا بشأن خفض منسق لإنتاج النفط. ثانياً، استمر نمو إنتاج النفط الأميركي بالتوازي مع تصاعد الضغط السياسي على الشركات الروسية (من خلال العقوبات في المقام الأول). بمعنى آخر، حاول “مراوغ الأجرة” إخراج روسيا من السوق بوسائل غير سوقية.

من بين كافة الإجراءات، كانت العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على شركة “روسنفط” القشة الأخيرة التي قيدت بشدة قدرة هذه الشركة الروسية الرائدة على التجارة في نفط طرف ثالث.

كل هذه التطوّرات حدثت في وقت كانت جائحة الفيروس التاجي تجتاح العالم. اقترحت السعودية خفض حصة “أوبك بلاس” من إجمالي الإنتاج  العالمي بما لا يقل عن مليون برميل في اليوم. ولكن بدلاً من ذلك، انهارت الاتفاقية الأساسية تماماً.  ووفقاً لمسؤولين روس رفيعي المستوى، لم تكن روسيا تسعى إلى استعداء المملكة العربية السعودية، لكنها في المقابل لم تكن لتتجنب المواجهة.

بعدما تراجعت أسعار النفط، شنت المملكة العربية السعودية هجوماً متسللاً: بدأت “أرامكو” بهدوء حرب الأسعار ضد روسيا من خلال تخفيض سعر جميع  منتجاتها النفطية بمقدار 5-8 دولارات للبرميل في كافة أنحاء العالم، وهكذا باتت سوق النفط تشهد مرة جديدة حالة “كونتانغو” (الحالة التي يكون فيها سعر العقود الآجلة أعلى من السعر الفوري للعقد الحالي). أدت تصرفات السعوديين إلى تآكل كافة الفروق في أوروبا وآسيا، وقد حدث ذلك عندما انخفض الطلب على المنتجات النفطية بعدما بدأت الأسواق تستجيب بشكل طبيعي لإجراءات احتواء الفيروس التاجي (إغلاق الحدود وإلغاء الرحلات وحالات التسريح من العمل… إلخ).

من سيفوز؟

بعد الصدمة الأولية، أخدت سوق النفط تعتاد تدريجياً على الواقع الجديد: يعتقد عدد من المحللين أن مستوى السعر السابق سيعاد قريباً على الرغم من حالة “كونتانغو” السائدة حالياً.

مع ذلك ، فإنّ انتشار الفيروس التاجي في أوروبا والقارات الأخرى سيؤدي إلى انخفاض إضافي في أسعار النفط.

بالنظر إلى نقاط القوة والضعف في الولايات المتحدة وروسيا والمملكة العربية السعودية، فإن منتجي النفط الأميركيين يبقون الأكثر عرضة للخطر، ذلك أن تكلفة الانتاج لديهم هي الأعلى. يبلغ متوسط ​​تكلفة النفط الصخري الأميركي نحو 46 دولاراً للبرميل، بينما يبلغ هذا الرقم في روسيا حوالي 32-33 دولاراً للبرميل. لذلك، ليس من المستغرب أنه بالرغم من حدوث انخفاض في الأسعار مؤخراً، شهدت صناعة النفط الأميركية بالفعل أول موجة كبيرة من حالات التسريح من العمل.

إقرأ على موقع 180  لبنان: تعويم الحريري بـ"فاول" عوني.. إلى الإنتخابات النيابية دُرْ!

إن الورقة الرابحة الرئيسية لروسيا في الصراع طويل الأجل من أجل الأسواق المستهدفة تكمن في التنويع النسبي لاقتصادها وتعزيز السوق الداخلية الكبيرة التي يمكنها أن تخمد الصدمة في أوقات انخفاض الأسعار.

الفائز في المعركة بين روسيا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة لن يظهر في الأشهر القليلة المقبلة أو حتى السنوات المقبلة.

إن عبارة “التنويع النسبي” تعني جعل حصة النفط والغاز في عائدات الميزانية الفدرالية ضمن  نطاق 40-45 في المئة،  وهو رقم مرتفع بطبيعة الحال، ولكنه يبقى أقل من مما هي الحال في الدول المنتجة الرئيسية في “أوبك” – المملكة العربية السعودية والعراق، على سبيل المثال، يتلقيان حوالي 90 في المئة من إجمالي دخلهما من مبيعات النفط.

ويعني الاعتماد الكبير على عائدات النفط زيادة نقطة التعادل في الميزانية، أي متوسط ​​سعر النفط اللازم لتحقيق التوازن في الميزانية. الميزانية الروسية في العام 2020  تبقى من دون عجز مع سعر 42.4 دولاراً للبرميل مقارنة بأكثر من 83 دولاراً للبرميل بالنسبة إلى الميزانية السعودية.

تجدر الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية لديها احتياطي قوي من العملات الأجنبية – أكثر بقليل من 500 مليار دولار بحسب أرقام كانون الثاني/يناير 2020 – ولكن في حالة حرب الأسعار المطولة سيتم استنفادها أسرع من احتياطي روسيا.

الفائز في المعركة بين روسيا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة لن يظهر في الأشهر القليلة المقبلة أو حتى السنوات المقبلة. ستتكشف النتيجة الأولى  للهدف السياسي لروسيا – زعزعة استقرار قطاع النفط الأميركي – بحلول أوائل عام 2021 ، عندما يبدأ الإنتاج الأميركي، وفي ظل الأسعار الحالية، بالانخفاض، وستبدأ حينها الموجة الأولى من حالات الإفلاس الكاملة.  عندئذٍ سيتباطأ الحفر، ولكن قطاع النفط الصخري الأميركي يمكن أن تتعافى إلى حد ما إذا كانت الأسعار أعلى في المستقبل. ومع ذلك يبدو من المحتم أن عدداً من الأحواض الصخرية – التي هي أكثر تكلفة وأكثر تعقيداً من منظور جيولوجي – سيختفي من خريطة النفط الأميركية.

من جهة ثانية، تبقى المنافسة بين روسيا والمملكة العربية السعودية أشد ضراوة. وخلافا للولايات المتحدة، مع طلبها المحلي الهائل، فإن كلا البلدين يعتمدان بشكل كبير على صادرات النفط. لكن الصدام يمكن تجنبه تماماً: صفقة منفصلة بين موسكو والرياض هي ما يحتاجه البلدان، لكن كل ذلك سيصل إلى عدد من القضايا الحساسة. على سبيل المثال، ستكون مسألة الثقة على رأس جدول الأعمال: بعد فشل روسيا في الوفاء بالتزامات “أوبك بلاس” في سنوات الأزمة في عامي 1998 و 2001، ابتعدت موسكو مرة أخرى عن اتفاقياتها مع المملكة العربية السعودية، ما يجعل السعوديين أقل انفتاحاً على تقديم التنازلات.

في الوقت نفسه، يختلف الوضع الحالي للسوق عن الأزمات السابقة لأن الفروق تراجعت بالإضافة إلى المعايير.

قد يكون وباء الفيروس التاجي موحياً للتقارب بين روسيا والسعودية – إذا انخفض الطلب العالمي على النفط، كما هي الحال الآن، فإن حروب الأسعار التي تزيد من المعروض النفطي في السوق ستؤدي إلى نتائج عكسية. ستجد شركات النفط الروسية أنه من غير المعتاد رؤية برميل الأورال الروسي مقيّماً في “برنت” بأقل من خمسة دولارات. لقد تسببت المملكة العربية السعودية في انخفاض أسعار نيسان/أبريل، ولكن لا يمكن اعتبار ذلك اتجاها مستداماً. في النهاية، قد يتبيّن أن السلوك العدواني في السوق ليس سوى خدعة أو استعراض للعضلات لمرة واحدة، فبالنظر إلى المستويات الحالية في مرافق التخزين في جميع أنحاء العالم، أصبح من المستحيل إنكار الرغبة في إبرام اتفاقية جديدة بين كبار موردي النفط في أوراسيا.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  تحليل إسرائيلي: هدنة غزة.. فرصة رئاسية في لبنان!