تمخض عن تلك الحرب تعديل بنيوي في مرجعية عاصمة الكثلكة السياسية، فأقصي الزعيم الإقطاعي جوزف سكاف، واسندت الأمرة إلى الميليشيات اليمينية المحتضنة من حزبي الكتائب اللبنانية برئاسة بيار الجميل، والوطنيين الأحرار برئاسة كميل شمعون. حينذاك، لم يجد إيلي فرزلي ما يغوي به بشير الجميل، قائد القوات اللبنانية، حتى يحظى الأخير بفرصة الإصغاء لكلامه الذي جاءت الوقائع لتثبت صحته لاحقاً.
تزامنت الحرب مع الدخول السوري إلى لبنان، وتحول دمشق إلى مرجعية تتولى إدارة الشأن اللبناني. تجلى ذلك في انتخاب حاكم مصرف لبنان الياس سركيس رئيساً للجمهورية، وبدور فاعل جرى إسناده لقائد “قوات الردع العربية” المقدم (حينها) سامي الخطيب، إبن البقاع الغربي وضابط الشعبة الثانية الذي مارس نفوذاً استثنائياً في عهدي الرئيسين فؤاد شهاب وشارل حلو، ثم غدا مطارداً في عهد سليمان فرنجية ليذهب إلى دمشق فاراً من الملاحقة القانونية، حيث أمكنه بناء علاقة مميزة مع القيادة السورية حرص على استثمارها في عهد الياس سركيس.
لا يتردد فرزلي في الإعتراف أنه عندما بدت الريح تجري بما لا تشتهيه سفن حليفه (آنذاك) جوزف سكاف، أشار عليه هو باللعب على الوتر المذهبي المسيحي في محاولة للإستفادة من الأغلبية الكاثوليكة، والأرثوذكسية، التي تجسدها زحلة في مواجهة الأقلية المارونية التي تجد سندها في حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار.. وهي تجربة ستتكرر لاحقاً مع مذاهب أخرى من طوائف أخرى عندما تتطلبها المرحلة. يطلق الراوي على تلك التجربة مسمى لا يخلو من طرافة: “تجزئة المشاعر المذهبية”.
دخلت زحلة الحرب اللبنانية منقسمة على نفسها ومشتَّتة بين فريق انغمس في النزاع الذي بدأ في بيروت، منخرطاً في التيَّار المسيحي المتشدِّد، وآخر كان يريد تحييد المدينة وتجنيبها عواقب الحرب، كما مرَّ. وتبعاً لذلك الواقع المأزوم، كانت حربها عبارة عن حربين: نزاعات دمويَّة بينها وبين محيطها الإسلامي من جهة، حيث بلغت أشدَّها بينها وبين “سعدنايل” بوجه خاص، ومن جهة ثانية حرب باردة بين أطراف المجتمع الزحلي داخل المدينة.
لنترك إيلي فرزلي يروي روايته:
“من جهتي، لم أقطع خيوط التواصل بين المدينة وجوارها البقاعي، متسلِّحاً بشبكة العلاقات التي كان نسجها والدي مع العائلات والهيئات البقاعية، وبالرصيد الشعبي الذي جمعه في حياته المهنيَّة والسياسية، فكنت طليق الحركة أتنقّل في داخل المدينة، وبينها وبين محيطها. خلال تلك الفترة من الاحتراب الداخلي، ارتأى جوزيف سكاف أن يغادر المدينة ليتحرَّك بين باريس ودمشق. كان السوريون يعرفون مدى علاقته مع المملكة العربية السعودية، وتحديداً مع الأمير سلطان بن عبد العزيز، وزير الدفاع والطيران، ومع ذلك استقبلوه كصديق، ربما لأن الشراكة السعودية-السورية في لبنان كانت خيوطها قد غُزلت، وعراها قد توثَّقت، تمهيداً لدخول القوات السورية إلى لبنان في وقت قريب. المسيحيُّون المتطرّفون في المدينة، المنضوون في “التجمُّع الزحلي”، الذي كان “حزب الكتائب” عموده الفقري، شنُّوا عليه حملة ضارية، واعتبروه خصماً منحازاً إلى الفريق المدعوم من سوريا في المنطقة. ما زاد من حالة الاستقطاب والاحتقان في المدينة، بفعل التهديدات العسكرية من جوارها الذي تسيطر عليه المنظّمات الفلسطينية والأحزاب اليسارية اللبنانية، هو تعاطف أساقفة المدينة الثلاثة، الكاثوليكي، والماروني، والأرثوذكسي، مع “التجمُّع الزحلي.
خلق جوزيف سكاف، بسفره ومغادرته زحلة، حالة فريدة وغير مسبوقة، كانت لها نتائج ومفاعيل في أكثر من اتجاه، أولاها وأهمها فقدانه قطاعاً كبيراً من قاعدته الشعبية التاريخية التي برَّرت انسحابها منه بأنه تخلَّى عن قيادة المدينة فيما كانت بأمسِّ الحاجة اليه. (…)
عندما دخلت القوات السورية إلى البقاع، على مشارف زحلة، توقَّع كثيرون، ومنهم من تمنَّى، أن يقوم جوزيف سكاف بالتوجه إلى دمشق، على رأس وفد من نواب المنطقة، ليقابل الرئيس حافظ الأسد ويطلب منه فك الحصار عن زحلة
ربما كان من سوء حظ زحلة أن انجرافها في الموجة المسيحية المتشدِّدة، لم يكن كلَّه بفعل غياب القيادة التقليدية، بل تزامن أيضاً مع تطورات بنيوية خطيرة في النظام اللبناني، منها انقسام الجيش، وانتقال أمن المجتمعات القائمة في لبنان إلى ميليشيات مسلَّحة منبثقة منها، وانهيار مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة.
دخول الجيش السوري إلى الأراضي اللبنانية يوم 31 أيار/ مايو 1976، ويوم الأول من حزيران/يونيو، وانتشاره في زحلة كما فعل في المدن والبلدات البقاعية الأخرى، تحت عنوان “فرض الأمن واستعادة السلام”، أدخل لبنان في حقبة جديدة، توقفت معها “حرب السنتين” لتبدأ حروب التمهيد للتسويات السياسية.
في تلك الفترة، عاد جوزيف سكاف إلى زحلة محاولاً استعادة دوره، ولملمة قاعدته التي استمالتها الأحزاب المسيحية بمشروعها السياسي، عازمة أن تقيمه على أنقاض زعامة القيادات التقليدية في المدينة. وعندما دخلت القوات السورية إلى البقاع، على مشارف زحلة، توقَّع كثيرون، ومنهم من تمنَّى، أن يقوم جوزيف سكاف بالتوجه إلى دمشق، على رأس وفد من نواب المنطقة، ليقابل الرئيس حافظ الأسد ويطلب منه فك الحصار عن زحلة ودخول الجنود السوريين إليها.
خلال تلك المرحلة القلقة والحرجة، عَمدتُ إلى تعزيز حضوري إلى جانب جوزيف سكاف، في محاولة لتدعيم ثقته بأنه ما زال قادراً على الإمساك بزمام الأمر إذا بقي متماسكاً. وقد أدركت أن ذلك لم يكن سهلاً عليه، كما أنه لم يكن مأموناً لي. فهو كان يعيش في عزلة قاسية، وقد عزَّ عليه كثيراً أن الزحليين هذه المرة لم يستقبلوه، على جاري عادتهم، زعيماً أوحداً على مدينتهم. قلة قليلة منهم شملت بعض الأصدقاء والشخصيات، التي ارتبطت به تقليدياً أو كانت تتردد عليه، قصدوا زيارته في منزله في المدينة، ما بين حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر 1976، غير عابئين بسطوة الآلة الحزبية المتسلِّطة على المدينة، التي أقامت واقعاً جديداً جعل الغالبية العظمى من الزحليين يبتعدون عن زعيمهم التقليدي، ويلزمون الحذر والترقُّب تفادياً للاصطدام بتلك الأحزاب. (…)
في إحدى تلك الجلسات ناقشنا ثلاث مسائل انتهينا إلى التفاهم عليها:
أولاها، نظرتنا المشتركة إلى أن الوضع القائم في زحلة سيدمِّر دورها في البقاع، ما يعني أنه يتوجَّب علينا إعادة إنتاج ذلك الدور كعاصمة للبقاع، اقتناعاً منَّا بأن الموقع السياسي هو نتيجة موقعها الأكاديمي، والثقافي، والاقتصادي، والمالي، والتجاري، والسياحي. (…)
ثانيها، أدركنا أن هناك بيئة طبيعية حاضنة لتيَّار “الجبهة اللبنانية” وحزب “الكتائب اللبنانية”، تتمركز بشكل خاص في قلب المجتمع الماروني الزحلي، خصوصاً بعد الخلاف الذي دبَّ بين جوزيف سكاف والنائب الياس هراوي، الذي راح يُغذِّي هذا الشعور بغية استثماره في السياسة المحليَّة ضد راعيه السابق. (…)
ثالثها، ليس بمقدور جوزيف سكاف أن يحتفظ بمكانته الاستراتيجية، تجاه سوريا والعالم العربي والغرب عموماً، ناهيك بمكانته في البقاع، في وضع كهذا يُظهره وكأنه لم يعد يمثِّل المدينة، أو لا يمثِّل شيئاً فيها. وقد نتج عن هذه الخلاصة ولادة فكرة “حركة الشباب المستقل” التي جعلت ضجيجنا يصل إلى الأسماع بقوَّة. (…)
عندما نشأت فكرة “حركة الشباب المستقل”، لم يكن في ذهن جوزيف سكاف أن ينخرط في العنف، أو أن تُجاري الحركة غيرها من الميليشيات في سفك الدم. أرادها مجرَّد وسيلة سياسية بملابس ميليشياوية لإثبات وجوده وحضوره في زحلة. (…)
لم يسعف الحظ “حركة الشباب المستقل” لتحقيق التوازن المتوخَّى قبالة الأحزاب المسيحية الأخرى. بدت بالنسبة إليهم أقرب إلى كونها “محراكاً” لهدف “الحركشة” منها إلى تنظيم جدِّي على غرار بقيَّة الأحزاب، فلم تلقَ تعاطفاً واسعاً من الزحليين معها. (…)
قصدني جوزيف سكاف للتشاور وتبادل الآراء، فأفصح عن مخاوفه من الواقع الجديد الزاحف على المدينة، وأنه يحاول إيجاد سبل ممكنة لمواجهته. (..)
بعد مداولات مستفيضة، وجولة أفق واسعة في مجريات الأمور ومحرِّكاتها، طرحت على الزعيم الكاثوليكي فكرة سمَّيتها “تجزئة المشاعر المذهبية”، وشرحت قصدي من هذه الفكرة، وأبديت رأيي في كيفية المعالجة المتأنية لئلا يجري تفسيرها سياسياً في الأوساط الحزبية بأنها من قبيل “الفتنة”، وهي في الحقيقة تعبير عن مساعٍ جدِّية لإنقاذ المدينة والحفاظ على وحدتها، لأن الأحزاب هي التي خلقت الانقسام ووسَّعت نطاقه. (…)
اتفقنا على أن نبدأ التحرك لتجزئة المشاعر المذهبية بالطائفة الأرثوذكسية، لأن ذلك يبعد الشبهات السياسية لدى التنظيمات المسيحية المارونية والكاثوليكية، بل يعمل على تطمينها.(…)
زحلة العقلانية دُفعت دفعاً إلى منحدر التبعيَّة والذيليَّة والجنون. كانت أصلاً فصارت فرعاً، جذرٌ أصيلٌ من الفرادة صار مُلحقاً. أصبحت قيادتها من خارجها، ومآلها متعلِّقٌ بما يجري في بيروت الشرقية وجبل لبنان
لم تتقبَّل الأحزاب هذه الخطوة، فبدأت توجِّه رسائل تهديد هنا وهناك: مرة باتّصالات هاتفيَّة، وأخرى بإشارات تخويف وترهيب لم تخلُ من الجدِّية. لكننا واصلنا السير في خطَّتنا وسط موجة من القنابل الصوتية ورشقات العيارات النارية التي لعلعت في ليل المدينة. (…)
بقيت زحلة، حتى بداية انتشار السلاح وظهور المسلّحين فيها، صوتاً، ولو خافتاً، فصارت بعد ذلك مجرَّد صدى. من استقلالية الرأي والموقف والعقلانية دُفعت دفعاً إلى منحدر التبعيَّة والذيليَّة والجنون. كانت أصلاً فصارت فرعاً، جذرٌ أصيلٌ من الفرادة صار مُلحقاً. أصبحت قيادتها من خارجها، ومآلها متعلِّقٌ بما يجري في بيروت الشرقية وجبل لبنان.
تلك كانت حالنا في “حرب السنتين” عامي 1975 و 1976. وكذلك في الحرب بين الجيش السوري و”الجبهة اللبنانية” في 7 شباط /فبرايرعام 1978، ثم بعدها في “حرب المئة يوم” في الأشرفية ما بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 1978، وصولاً إلى “حرب زحلة” في 2 نيسان/أبريل 1981.
فكيف صار ما صار وحدث ما حدث؟
كان من الطبيعي أن تكتب تحرُّكات بشير الجميِّل ضد “نمور الأحرار”، ميليشيا “حزب الوطنيين الأحرار”، نهاية التنظيم الشمعوني في زحلة، أسوة بما جرى في جبل لبنان، فصارت “القوات اللبنانية”، بقيادة جوزيف الياس آنذاك، هي العنصر المسيطر على المدينة.
بضربة حظٍّ واحدة أطاح الياس هراوي أكبر زعيمين كاثوليكيين في زحلة: جوزيف سكاف وجوزيف أبو خاطر. كان أولئك الثلاثة، هراوي، وسكاف، وأبوخاطر، أعضاء في حكومة شفيق الوزَّان. وكان الياس هراوي أضعف الثلاثة على كل المستويات. لكنَّه تفوَّق عليهما من خلال علاقته الوطيدة مع رئيس “المكتب الثاني” جهاز الاستخبارات في الجيش الرائد جوني عبده، الذي كان في حينه ينام على كتف بشير الجميِّل. فصار الياس هراوي، وزير الأشغال العامَّة والنقل في الحكومة (الوزانية)، أطول باعاً من جوزيف سكاف وزير الدفاع المفترض أن يكون الجيش موالياً له. (…)
تمكَّن الرائد جوني عبدو من تكليف الياس هراوي القيام بدور محوري في المفاوضات مع دمشق، التي جرت عبر محمد غانم، رئيس فرع الأمن والاستطلاع السوري في لبنان، وبشير الجميِّل قائد “القوَّات اللبنانية”. وبذلك ألغى هراوي أي دور لجوزيف سكاف وجوزيف أبو خاطر في ما يجري في زحلة، فأطلق عليه بعض الخبثاء لقب “الياس هراوي ذو القرنين”، قرن جوني عبدو وقرن محمد غانم، فهو من خلالهما صار على صلة مباشرة ويوميَّة مع بشير الجميِّل .
يقضي بي الإنصاف القول بأن جوزيف سكاف عمل كلّ جهد ممكن لتجنيب زحلة المخاطر المحيقة بها. فعلى الرغم من سعيه الحثيث إلى التحاور مع الأحزاب، والانفتاح عليها، فقد بدأ يدرك أن الواقع على الأرض أصبح مغايراً تماماً، وأنه لم يعد يستطيع استيعابها والإمساك بقرارها، حتى وهو وزير الدفاع في الحكومة. أحس لأول مرة بأن المياه تجري من تحته وتتهدَّده سياسياً وتشكِّل خطراً على سلامته.
كان المسعى الأخير الذي قمنا به معاً هو اجتماعنا على انفراد مع بشير الجميِّل. (…)
طوال حديثنا مع بشير الجميِّل، لاحظنا أنه شارد النظر، يتطلع إلى البحر البعيد، وكأنه لا يسمع ما نقول، ولم نكن نعرف ما يدور في ذهنه. ومع ذلك تناولت الكلام وأسهبت في شرح علاقة زحلة بالبقاع، وتداعيات أي صدام مع جوارها، لا سيما لجهة الأوضاع الاقتصادية والأسواق التي راحت تبحث عن بديل منَّا، كما شرحت له علاقة الزحليين بجيرانهم البقاعيين في المجالات الاجتماعية والتربوية، ثم استفضت في الحديث عن خطر تعرُّض الوجود المسيحي في البقاع للزوال. (…)
فما كان من بشير الجميِّل إلا أن انتفض وضرب بيده على طاولة أمامه قائلاً بنبرة حادَّة بالفرنسية: لديَّ الآن force de frappe (قوة ضاربة)
على طول الدرب من بلُّونة إلى بيروت، لم ينبس جوزيف سكاف ببنت شفة، فاستغربت صمت رفيقي طوال الرحلة، لكن ما إن وصلنا العاصمة حتى قطع صمته، وهو يمسح وجهي بعينيه، وسألني:
هل تعرف ماذا تعني عبارة force de frappe (قوَّة ضاربة)؟
أجبت بالنفي، بسبب من عدم إتقاني الفرنسية.
قال: تعني “خبيط. خبيط. خبيط. هذه رسالة تهديد”.
– كتاب “أجمل التاريخ كان غداً”، صادر عن دار سائر المشرق، بطبعته الأولى في مطلع العام 2020.
الحلقة الأولى، أجمل التاريخ كان غداً: شاهد على حقبة https://180post.com/archives/10168
الحلقة الثانية، “مشادة تاريخية” بين الفرزليين أديب وإيلي https://180post.com/archives/10266
الحلقة الثالثة، زحلة تنتظر النجدة منذ 45 سنة https://180post.com/archives/10443