غازي كنعان لفرزلي: دعهما (عون وجعجع) يكسران الجرة

في الحلقة السادسة من كتابه "أجمل التاريخ كان غداً"، يحكي إيلي فرزلي باسهاب عن تقاطعات الخصوم، وعن الاستعداد المفرط لدى البعض (الجميع ربما) لتدوير الزوايا بما يحيل الثوابت إلى متغيرات. يكشف عن تفاهمات سورية – أميركية تمنح مخايل الضاهر صفة المرشح المتوافق عليه للرئاسة الأولى.. وعن انحناءة سورية مؤقتة أمام رغبة اميركية- خليجية بانتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية، وعن إعجاب يقارب الدهشة يبديه غازي كنعان حيال ميشال عون.. وعن ارتضاء الياس هراوي دور الوسيط بين كنعان وسمير جعجع، وعن استعداد جعجع لتزويد كنعان برؤوس المتعاونين مع الإستخبارات العراقية في "مناطق نفوذه".

ما يمكن الإستدلال اليه بين سطور كتاب مذكرات إيلي فرزلي، جدير بالإهتمام: تفجر الصراع العسكري بين سمير جعجع وميشال عون أتى منسجماً مع الرغبة السورية.. بدا الأمر، لحظة حصوله، أقرب إلى بشرى يزفها غازي كنعان إلى فرزلي على مائدة غداء: “لقد أدخل الإثنان رأسيهما في الجرة وشرعا يتناطحان.. سينتهي الأمر بكسر الجرة”.

في ثنايا السرد أيضاً ما يحاذي الفكاهة: حكاية رئيس الجمهورية الياس هراوي الذي أبدى بعد توليه الرئاسة تمرداً مشهوداً على تقنيات التحليل السلوكي.. هو لم يستجب لتوقعات الراوي (الذي رشحه للمنصب) في أن يكون منضبطاً تحت سقف أداء تفترضه تجربته الحياتية والسياسية.

بالرغم من وفرة البوح التي يتسم بها الكتاب، تبقى بعض القضايا بحاجة إلى مزيد من الضوء في نقاطها المظلمة، قرار الرئيس الأسبق أمين الجميل بتكليف العماد ميشال عون برئاسة الحكومة الإنتقالية في العام 1988، لم يكن في حقيقته ضرورة أملتها الظروف.. أقله هذا ما يجادل به الكاتب الفرنسي آلان مينارغ في الجزء الثاني من كتابه “أسرار حرب لبنان” حيث يكشف عن أن خطوة الجميل جاءت في سياق دفع الأمور المتأزمة بين عون وجعجع إلى الإنفجار.. أيضاً يتحدث الكاتب عن التغير المفاجئ في موقف ميشال عون من الحوار السري مع سوريا إلى إعلانه “حرب التحرير” ضدها.. لكنه لا يشير إلى الدور العراقي المحوري في ذلك التحول، وإلى العرض الذي تلقاه الجنرال عون من الرئيس العراقي صدام حسين والذي كان عاملاً حاسماً في قرار الأول.

ماذا يقول فرزلي؟

“22 أيلول/سبتمبر 1988. منتصف الليل. شخصت عيون اللبنانيين إلى قصر بعبدا، تنتظر قرار الرئيس أمين الجميِّل المنتهية ولايته من غير أن تتوافق الطبقة السياسية اللبنانية المتناحرة على بديل يحلُّ مكانه في سدَّة الرئاسة.

أدرك الجميِّل أنه “أزفَ البينُ واستحقَّ الرحيلُ”، لم يشأ أن يضع نفسه والبلاد أمام هول الفراغ السياسي، فمارس ما خوَّله له الدستور، فاستدعى قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون وأبلغه تشكيل حكومة انتقالية مؤلّفة من المجلس العسكري الذي يضمّ ضباطاً يمثّلون الطوائف اللبنانية الأساسية، لإدارة البلاد.

وقد اتكأ الجميِّل في قراره على سابقة مشهودة، وإن بظروف ومفاعيل مختلفة. ففي سنة 1952 ، قام الشيخ بشارة الخوري، بعد إجباره على الاستقالة من الرئاسة في منتصف ولايته الثانية المجدَّدة بتعديل غير دستوري بتكليف قائد الجيش في حينه، اللواء فؤاد شهاب، تشكيل حكومة موقتة تسدُّ الفراغ ريثما يُصار إلى انتخاب رئيس جديد. (…)

حلم يصير كابوساً

سألني غازي كنعان (رئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان) رأيي في المرشح الملائم لرئاسة الجمهورية وقتذاك، فقدَّمت له مطالعة خطيَّة معلَّلة تعليلاً واقعياً، انطلاقاً من الظروف التي كان يمرُّ بها البلد، شرحت فيها دوافع تأييد ترشيح النائب مخايل الضاهر، الذي لم أكن أعرفه معرفة شخصيَّة، والأسباب الموجبة له. (…)

في 18 أيلول/سبتمبر 1988، قبل أيام قليلة من انتهاء ولاية أمين الجميِّل، حضر الموفد الأميركي الخاص ريتشارد مورفي إلى سوريا للتفاهم مع دمشق على تسريع الانتخابات الرئاسية. يومذاك كنَّا في العاصمة السورية، غازي كنعان، وخليل هراوي، وأنا. في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل بلغنا أنه تمَّ الاتفاق بين ريتشارد مورفي والقيادة السورية على أن يكون مخايل الضاهر مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية. (…)

نمنا على حلم وأفقنا على كابوس.

فقد سقط القرار الأميركي-السوري ولم ينفَّذ لاصطدامه بمعارضة بطريرك الموارنة (نصرالله بطرس صفير)، وقائد الجيش (ميشال عون)، وقائد “القوَّات اللبنانية”(جعجع) و”تجمُّع النوَّاب الموارنة المستقلين”.(…)

راح كنعان يكيل المديح لميشال عون، ويثني على أفكاره وتصوراته، وأسمعني تسجيلاً صوتيَّاً لما قاله العماد أمام الضباط حول الإصلاح، وبناء الدولة، وتوحيد الجيش، وإدانة الطبقة السياسية البالية، مؤكداً لي تأييده ما سمع منه قائلاً: “هكذا يكون الضبَّاط، وبمثل هؤلاء تُبنى الأوطان”

عون نموذجاً

ذات يوم، طلبني غازي كنعان إلى الاجتماع معه، فأبلغني أن عون استدعى القادة العسكريين في المناطق المسيحية والإسلامية إلى قصر بعبدا للإجتماع بهم، والبحث في إمكان توحيد ألوية الجيش المشرذمة، ومن ثمَّ الجيش. وأبلغني أيضاً أنه قرَّ الرأي على فائدة ذهاب الضباط في المناطق الواقعة تحت السيطرة السورية، ومن بينهم قائد اللواء الأول ابراهيم شاهين، قائد المنطقة العسكرية في البقاع، إلى الاجتماع مع عون، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك من دون موافقة سوريَّة.

وفي لقائي التالي مع غازي كنعان في عنجر، وجدته في حالة من الفرح والانشراح، وراح يكيل المديح لميشال عون، ويثني على أفكاره وتصوراته، وأسمعني تسجيلاً صوتيَّاً لما قاله العماد أمام الضباط حول الإصلاح، وبناء الدولة، وتوحيد الجيش، وإدانة الطبقة السياسية البالية، مؤكداً لي تأييده ما سمع منه قائلاً: “هكذا يكون الضبَّاط، وبمثل هؤلاء تُبنى الأوطان”.

وأضاف:  “هل تصدِّق؟ أتاني ضابطان كبيران في الجيش وراحا ينتقدان عون بقسوة ويشوِّهان سمعته، فطردتهما من المكتب”.

وقد كنا على معرفة باتّصالات تجري بين ميشال عون وكلّ من الياس حبيقة، و”الحزب السوري القومي الاجتماعي” من ضمن خطوط مفتوحة للتواصل في أكثر من اتجاه. بل شملت كذلك “القوَّات اللبنانية” التي راحت توجِّه سرَّاً رسائل إلى دمشق طلباً للتقارب قبل فتح قنوات حوار معها تولاها نادر سكر وجورج كساب مع غازي كنعان.

يوم 14 آذار/مارس 1989، وسط تلك الأجواء الواعدة والمشجِّعة، فاجأ ميشال عون المناطق الغربية من بيروت بقصف عنيف، إيذاناً بإعلان ما سمَّاه “حرب التحرير” لإخراج الجيش السوري من لبنان. (…)

البحث عن رئيس

تهافت النوَّاب اللبنانيون في أيلول/سبتمبر 1989 إلى مدينة الطائف السعودية والتأم فيها مجلسهم. كان ذلك في الشكل مفارقة غير مألوفة، أن يعقد نواب دولة ديموقراطية جلسات تشريعية خارج دولتهم، خصوصاً إذا كانت الدولة المضيفة غير برلمانية وغير ديموقراطية. (…)

كنا نتابع دقائق المداولات ونطَّلع عليها أولاً بأول من خلال غازي كنعان، الذي بسبب من دوره المحوري في الوضع اللبناني القائم، كان على إطِّلاع كامل على ما كان يجري هناك، فلزمناه في عنجر، الأمر الذي أتاح لنا الوقوف على الوقائع، وإجراء مناقشة مفتوحة ومستمرة لها، وتقديرها، وتقويم الموقف منها، ناهيك بالاتصالات التي كانت تجري مع غازي كنعان ونأخذ علماً بها منه. وكما لزمناه في عنجر لزمناه في دمشق، التي استدعي اليها ووقفنا على ما دار في لقاءات كان يعقدها مع عبد الحليم خدَّام.

في اجتماعاتنا، إن في بيروت أو عنجر أو دمشق، دار السؤال: مَن يكون رئيس الجمهورية في مرحلة ما بعد الاتّفاق على “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف؟

طُلب رأيي في الأمر، فأعددت مذكرة مستفيضة انطوت على تحديد المواصفات الشخصية والموضوعية، بما يخدم مسارنا العام في إطار “الخيار السوري”، اقترحت فيها نائب زحلة الياس هراوي، وأسهبت في الأسباب والاعتبارات الموجبة لذلك في تقديري، مشفوعة بالحجة تلو الأخرى:

هراوي ماروني جذوره ضاربة في أعماق البقاع، المنطقة المتاخمة لسوريا والمتّجهة دوماً نحوها في التجارة والثقافة والخدمات. ناهيك بأنه نسج  منذ “حرب زحلة” عام 1981 علاقات وطيدة مع السوريين، إضافة إلى ذلك كلِّه، فالرجل “قبضاي” يستطيع أن يتَّخذ قرار إطاحة ميشال عون بالقوَّة، وأن ينتزع منه “الجيب المسيحي” الذي يسيطر عليه وضمَّه إلى الدولة الموحَّدة والشرعية الجديدة المنبثقة من تسوية الطائف.

وقلت في مذكِّرتي: “إن الياس هراوي تاجر سابق من طبعه أنه يبيع ويشتري. ولذلك يسهل ضبط إيقاعه وسلوكه وردود فعله، الأمر الذي يسهِّل الاستفادة من توظيفه في موازين القوى الداخلية لمصلحة خطِّنا السياسي، بصفتنا أقوى اللاعبين في صنع الموازين تلك، فيحافظ الرجل على مصالحه ويضمن مصالحنا، وربما نكون قادرين على جعلها متطابقة”!

لم يكن الياس هراوي يتمتَّع بنفوذ سياسي وشعبي يُذكر، فلو لم يُلحقه جوزيف سكاف بقاطرته الانتخابية عام 1972، لما كان له أن يجلس على مقعد نيابي.

اعتبرنا أنَّ انتخابه رئيساً يجعله يخضع لقاعدة “أن المتمكِّنين من الزعامة والشعبية تخفُّ ألاعيبهم وتعلو مواقفهم المبدئية”، فأنزلناه في هذه الخانة. إلا أنه، مع الأسف، كسر القاعدة تلك، فأكثَرَ من الألاعيب ونسي المواقف المبدئية!  (…)

كنت مع غازي كنعان في “بارك أوتيل” في شتورة، ظهر يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر، فوردته مكالمة هاتفية فقام إلى سمَّاعة الهاتف، ثم عاد بعد دقائق  مضطرباً عابق الوجه، وأعلمني أنَّ رينيه معوَّض قد اغتيل

 معوض: خيار الضرورة

برز الياس هراوي في مرحلة متقدِّمة كأحد الخيارات في دمشق، وكان له معارضون أيضاً. وعندما أجرت القيادة السورية تصويتاً بين المعنيين في الشأن اللبناني، على تبنِّيه أو تبنِّي رينيه معوَّض، انقسمت الأصوات حيال نائب زحلة، فزكّاه الذين كانوا الأكثر تعاطياً معه في السابق مثل عبدالحليم خدَّام، وحكمت الشهابي، وعلي دوبا، وغازي كنعان. إلا أن كفَّة رينيه معوَّض هي التي رجحت في النهاية، لأن الرئيس الأسد حسم الخيار، مجارياً التزكية العربية والدولية لنائب زغرتا، لكنه نصح بإبقاء العلاقة قائمة مع الياس هراوي على سبيل الاحتياط.

إقرأ على موقع 180  جلال الدين السيوطي والتلاعب بتاريخ الإسلام

كان معوَّض خيار دول الخليج في الدرجة الأولى. فقد اعتبره الخليجيون الرجل الأنسب لهم ولمصالحهم، وهو خيار منسجم مع المشورات اللبنانية التي تلقُّوها والقائلة بما يلي:

أولاً، إن نائب زغرتا قويُّ الانتماء إلى البيئة المارونية، ما يجعله الأكثر تمثيلاً لها.

ثانياً، إنه بهذه الصفة الأقدر على انتزاع الرأي العام المسيحي عموماً، والماروني خصوصاً، من ميشال عون الذي حوَّط نفسه بموجة عارمة من الشعبية في مناطق نفوذه.

ثالثاً، إن انتخابه يسهِّل إعادة بناء الوحدة الوطنية اللبنانية، لأنه يعيد الوصال الذي انقطع بين موارنة الشمال وموارنة الجبل، منذ مجزرة إهدن قبل أكثر من عشر سنوات. (…)

زد على ذلك الدعم الأميركي له وهو دعم معطوف على الدعم الخليجي، ويحمل حيثيات إضافية غايتها توسيع دائرة الضغط اللبنانية المستقبلية على سوريا. (…)  وهكذا، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 انتخب رينية معوَّض رئيساً للجمهورية. (…)

لماذا قبلت سوريا بما جرى، على الرغم من وجود وجهة نظر أخرى قويَّة في دمشق؟

هناك، في تقديري، سببان:

السبب الأول، هو اعتياد القيادة السورية على الانحناء أمام العاصفة الوافدة حتى تستنفد قواها وتمرَّ، أو انتظار نشوء معطيات أفضل لتغيير الظروف.

والسبب الثاني، أن رينيه معوَّض أعطى دمشق، خلال المداولات الإقليمية والدولية، وعوداً والتزامات بتمسكه بوحدة لبنان وبالعلاقات اللبنانية-السورية، وربما تطمينات أميركية وخليجية. (…)

كنت مع غازي كنعان في “بارك أوتيل” في شتورة، ظهر يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر، فوردته مكالمة هاتفية فقام إلى سمَّاعة الهاتف، ثم عاد بعد دقائق  مضطرباً عابق الوجه، وأعلمني أنَّ رينيه معوَّض قد اغتيل، فانتابتني رعدة من الحزن والأسف بادية فصرخت قائلاً: “كم حظُّ هذا البلد عاثر”.

هراوي مجدداَ

كان غازي كنعان يعرف رينيه معوَّض، إلاَّ أنني لم ألمس وقتذاك وجود علاقة حميمة بينهما، وكذلك كانت حاله مع زعماء زغرتا الآخرين، بمن فيهم سليمان فرنجيه، الذي كان يقصُرُ علاقته على حافظ الأسد. في المقابل، كان غازي كنعان قد أضحى صاحب قرار في لبنان وجزءاً أساسياً من مؤسسة السلطة الحاكمة في سوريا برئاسة حافظ الأسد.

بعد الغداء في فندق “بارك أوتيل”، انتحى بي غازي كنعان وقال: “ما رأيك؟”

قلت: “ليس هناك سوى الياس هراوي”.

قال: “إذهب وجسَّ نبضه”. (…)

ليل 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، بعد مضي 48 ساعة على اغتيال رينيه معوَّض، انتخب الياس هراوي رئيساً للجمهورية في فندق “بارك أوتيل” شتورة. (…)

استمزجني غازي كنعان في وقت لاحق عمَّن يقتضي تعيينه قائداً للجيش، وسمَّى أمامي بضعة أسماء مقترحة، من بينها العميد فهيم الحاج، والعميد حبيب فارس، والعميد إميل لحُّود.

وسأل: “مَن تزكِّي؟”

قلت: “الثالث. هذا هو”.

لم أكن أعرف إميل لحُّود شخصياً في ذلك الوقت. (…)

دوَّن غازي كنعان ملاحظاتي على ورقة.

بعد يومين أخطرني أن إميل لحود سيُعيَّن قائداً للجيش. (…)

كنعان: “بعث الياس هراوي إلى قائد الجيش إميل لحُّود بحقيبة مصدرها رفيق الحريري تحتوي على نصف مليون دولار تحت عنوان “دعم الجيش”، على أن تكون هذه المساعدة شهرية، فرفضها لحُّود فوراً”

لم تمضِ أيام قليلة على انتخاب هراوي رئيساً، وإميل لحود قائداً للجيش، حتى طلب غازي كنعان مقابلتي. بدا منذهلاً، يريد أن يخبرني شيئاً لم يعد يطيق أن يبقيه مكتوماً في صدره، حرَّك يديه وكأنه يلطمُ رأسه وقال:

“أتدري ماذا حدث اليوم في أبلح؟”

لملم استغرابي متسرّعاً القول بامتعاض:

“بعث الياس هراوي إلى قائد الجيش إميل لحُّود بحقيبة مصدرها رفيق الحريري تحتوي على نصف مليون دولار تحت عنوان “دعم الجيش”، على أن تكون هذه المساعدة شهرية، فرفضها لحُّود فوراً”. ثم أضاف: “هذا الرجل يستحقُّ أن يكون رئيساً للجمهورية”. (…)

 كنَّا، غازي كنعان وأنا وأصدقاء، يوم 31 كانون الثاني/يناير 1990، نتناول الغداء في “بارك أوتيل” في شتورة، حين تلقى كنعان مكالمة هاتفية، فغاب لدقائق ثم عاد ليقول موجِّهاً كلامه لي: “إذا حشر اثنان رأسيهما في جرَّة فخَّار واحدة وراحا يتناطحان فيها، فماذا يحدث؟”

أجبت بشكل تلقائي: “تنكسر الجرَّة”.

هزَّ رأسه علامة الاقتناع بما قلت وأردف :”دعهما يكسران الجرَّة. الجماعة اشتبكوا. الآن بدأت المناطحة ولن يتوقَّفا عند حد. نحن على أعتاب مرحلة جديدة”.

كأنه شعر بأنني لم أنتبه إلى ما كان يرمي إليه من حكاية الرأسين في جرَّة فخَّار واحدة، فأخبرني أنَّ الحرب اندلعت بين ميشال عون وسمير جعجع(حرب الإلغاء).

أخذت تلك الحرب شكل معارك ضارية بين مناطق نفوذهما في الأشرفية والضاحية الشرقية من بيروت، والمتن وكسروان. (…)

عون في القنصلية

عشية يوم 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، وصلني خبر بأن غازي كنعان يتمشَّى في بولفار زحلة من دون مرافقين على جاري عادته للتسوُّق من المدينة، وخصوصاً من متجر ملبوسات إيطالية يملكه فايز الطحطوح. لكنه في ذلك اليوم لم يتبضَّع، بل تعمَّد أن يتمشَّى كما لو أنه شاء أن يبعث رسالة إلى اللبنانيين بأنَّ الهدوء قادمٌ على متن “الحلِّ الزحلي”، فقد كان يستخدم دائماً عبارة سمعتها منه مراراً، هي: “إن ما يجري في شوارع زحلة يرنُّ في بيروت”.  فقلت في نفسي إن الرجل يوجِّه رسالة تُخفي طمأنة ما، بعدما كانت القيادة السورية اتخذت قراراً بإنهاء ظاهرة ميشال عون في المناطق الشرقية.

قطعاً لم أكن أعرف حينذاك بالقرار، ولا بما كان مُنتظراً في الغداة. بيد أنني توقَّعت حدثاً ما وراء تمشِّي غازي كنعان في بولفار زحلة بلا أيِّ هدف مباشر أو محدَّد.

طلع الصباح مع هجوم شنَّه الجيش السوري، وخلفه الجيش اللبناني، على قصر بعبدا ووزارة الدفاع الوطني في اليرزة، أطاح العماد ميشال عون وأخرجه منهما، فلجأ إلى مقرِّ القنصلية الفرنسية في مار تقلا في الحازمية.

التاسعة صباحاً انتهت تقريباً الأعمال العسكرية بعد ساعتين على بدئها. أعلن العماد ميشال عون من مبنى القنصلية الفرنسية، عبر إذاعة محلية تابعة له تبثُّ من الفنار، انتهاء المعارك طالباً من قوَّاته “تلقِّي الأوامر من العماد إميل لحُّود القائد الجديد للجيش”.

أبلغني غازي كنعان تالياً، أنه بعد ساعة من إعلان انتهاء القتال، كان هناك موعد في “محلَّة الدوَّار”، المنطقة الفاصلة ما بين ضهور الشوير وبكفيا، بينه وموفدين من العماد ميشال عون، فمرَّت في ذهني خاطرة عابرة، لم أفاتحه بها، وهي أن ذلك اللقاء ربما كان مع العماد عون نفسه! (…)

جعجع متعهد الرؤوس

أخطرني غازي كنعان، بعد إطاحة ميشال عون، عشيَّة استقالة حكومة سليم الحص في 19 كانون الأول/ديسمبر 1990، أن رئيس الجمهورية خابره، وقال له إن سمير جعجع يريد الاجتماع به لمناقشته في نشر الجيش في الأشرفية، وسأله الرئيس هل يجد قصر بعبدا أو الأشرفية مكاناً ملائماً أو أيِّ مكان آخر للاجتماع؟

ردَّ غازي كنعان: “لا بعبدا ولا الأشرفية، أنا ذاهبٌ إليه في غدراس”.

وبالفعل حصل اللقاء بين الرجلين هناك حيث كان مقرُّ جعجع في ذلك الوقت، في حضور ضابطين لبناني هو العقيد ميشال رحباني وسوري هو اللواء عزَّت زيدان.

لدى عودته من الاجتماع الطويل، روى لي غازي كنعان جانباً رئيسياً من المداولات بقوله:

“أمضيتُ قرابة نصف ساعة أحدِّثه في سبل المساعدة على إعادة إنتاج الدور المسيحي في لبنان وتعزيزه، واستعادة الفسيفساء اللبنانية الجميلة التي يشكِّل المسيحيون عمودها الفقري. وجَّهت انتباهه إلى أهمية تأليف حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع بمَن فيهم هو. قلت له إننا قريبون من تأليفها، وشجَّعته على أن يكون في صلبها وأحد ركائزها. أسهبت في الكلام على أنه قادر على القيام بهذه المهمة وتصدُّرها، ودعوته و”القوات اللبنانية” إلى عدم إهدار فرصة هي في مثل هذا الحجم من المسؤولية الوطنيَّة”.

وأردف غازي كنعان قائلاً:

“ما أن أنهيتُ كلامي حتى فاجأني بالقول رأس مَن تريد ممَّن يتعاملون مع العراق واستخباراته في مناطقنا؟ رددت بأنني أتحدَّث معك في السياسة وليس في الأمن. يدي في الأمن كافية كي تطولَ مَن يقتضي أن تطاوله. لستُ عاجزاً عن جلب هؤلاء. أنا أتكلَّم معك في قضايا استراتيجية تخصُّ البلدين”.

– كتاب “أجمل التاريخ كان غداً”، صادر عن دار سائر المشرق، بطبعته الأولى في مطلع العام 2020.

 الحلقة 1، أجمل التاريخ كان غداً: شاهد على حقبة:

 https://180post.com/archives/10168

 الحلقة 2، “مشادة تاريخية” بين الفرزليين أديب وإيلي:

 https://180post.com/archives/10266

الحلقة 3، زحلة تنتظر النجدة منذ 45 سنة:

https://180post.com/archives/10443

الحلقة 4، الماروني يلغي الثنائي الكاثوليكي ويتقرّب من بشير:

https://180post.com/archives/10552

الحلقة 5، هكذا تعرفت على غازي كنعان:

https://180post.com/archives/10690

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  نصرالله يلبي دعوة باسيل.. هل بدأ العد العكسي لإعتذار الحريري؟