الاستفتاء على تعديل الدستور الروسي.. تصويت رئاسي مبكر

حسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استحقاق التعديلات الدستورية: 77 في المئة من المشاركين في الاستفتاء صوّتوا بـ"نعم" وبنسبة إقبال غير متوقعة. 

بالنسبة إلى روسيا، فإن التعديلات الدستورية تعد أحدث خطوة متقدمة لإصلاح النظام السياسي منذ اقرار دستور العام 1993، خصوصاً في ما يتعلق بتنظيم آليات العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بجانب ما يتصل بالحياة الاجتماعية (الزواج، الأطفال…) والايديولوجية (الله، اللغة…) للدولة الروسية.

مع ذلك، تبقى مسألة الرئاسة – أو بعبارة أخرى الخلافة الرئاسية- هي محور اهتمام الجميع، سواء في روسيا أو خارجها، خصوصاً أن التعديلات الدستورية تأتي لتترك الباب مفتوحاً من الناحية النظرية لاعادة ترشح فلاديمير بوتين في انتخابات العام 2024، أو حتى 2036، وإن كانت بحد ذاتها لا تعني أن الخيار قد حسم بين استمرارية الرئيس ونقل السلطة الرئاسية الى شخص آخر.

لتوضيح الأمر أكثر، فإن منصب الرئاسة، بموجب التعديلات الدستورية المصوّت لصالحها، لا يمكن توليه أكثر من فترتين، والعنصر الأساسي في تعديل النص الدستوري هنا يتمثل في حذف عبارة “على التوالي”. بمعنى آخر، سيكون محظوراً على الرئيس الروسي أن يكرر تجربة العام 2008، حين حدث التناوب على السلطة بين فلاديمير بوتين ودميتري ميدفيديف لتجاوز حظر “الولايتين المتوالتين”. مع ذلك سيكون بإمكان بوتين الترشح بعد الولايات الرئاسية الأربع، لسبب بسيط، وهو “تصفير” الفترات مع دخول التعديلات حيز التنفيذ.

ما سبق لا يسمح بأي شكل من الأشكال بتوقع سيناريوهات انتخابات الرئاسة المقبلة، فالتعديلات تشي في الواقع برغبة في إبقاء مسألة “تقاعد” بوتين الرئاسي محاطاً بغموض هائل، يراد منه توفير مظلة دستورية لما يمكن اعتباره “بوليصة تأمين رئاسية” تبقي مسألة انتقال السلطة رهناً بجملة عوامل خارجية (الصراع الجيوسياسي مع الغرب) وداخلية (تنافس النخبة على موقع الرئاسة) ستحدد وحدها ضرورة بقاء بوتين في الحكم من عدمها.

وبصرف النظر عن الخيار الذي سيُستقر عليه بعد أربع سنوات، تمثل في الواقع ولاية رئاسية كاملة بالمعايير الغربية أو حتى بمعايير الدستور الروسي قبل تعديل العام 2008, يمكن القول ان بوتين نجح في جعل الاستفتاء الذي أُعلنت نتائجه صباح اليوم بمثابة تصويت رئاسي مبكر، سواء له مباشرةً أو لمن يقع عليه الاختيار لخلافته بعد اربع سنوات أو ربما بعد عشر سنوات.

ما يدفع الى اعتبار الاستفتاء انتصاراً لبوتين هو أن النتيجة عاكست كل التوقعات، فلا حلول فصل الصيف الذي انتظره الروس كعادتهم طويلاً، ولا الخروج الصعب من وباء “كوفيد-19″، منعا الناس من الإقبال بكثافة على مراكز  التصويت أو على التطبيقات الهاتفية للتعبير عن رأيهم في التعديلات.

فمع انتهاء عملية التصويت التي استمرت لفترة طويلة لم يسبق لها مثيل (أسبوع) باقفال آخر المراكز في المنطقة الغربية في روسيا عند الساعة الثامنة مساءً بتوقيت كاليننغراد (الساعة التاسعة مساءً بتوقيت موسكو) كانت نسبة المشاركة الأولية في الاستفتاء قد قاربت بالفعل حاجز 65 في المئة، في ما اعتبرته رئيسة لجنة الانتخابات المركزية ايللا بامفيلوفا رقماً “جديراً بالاهتمام”، خصوصاً في الظروف السائدة في روسيا نتيجة لانتشار  الفيروس التاجي.

هكذا شكلت النتيجة النهائية مفاجأة لمعظم المراقبين، وربما للكرملين نفسه، فمع بدء الاستعداد للاستفتاء الدستوري – قبل تأجيل موعده الأول في الربيع بسبب الحالة الوبائية في روسيا – أبلغت الإدارة الرئاسية المسؤولين الإقليميين المكلفين تنظيم عملية التصويت بالمعايير التي يفترض أن تتوافر لاعتبار الاستحقاق ناججاً: 60 في المئة نسبة إقبال, و70 نسبة موافقة على التعديلات. 

في وقت لاحق تم تعديل المعايير بناءً على المزاج العام المتصل بالجائحة الكورونية: 55 المئة إقبال، و60 في المئة موافقة.

النتيجة الفعلية تجاوزت المعيارين الاستباقيين الأكثر والأقل تفاؤلاً، إذ بلغت نسبة الاقبال 64.99 في المئة، ونسبة الموافقة 77.92 في المئة في مقابل معارضة 21.27 في المئة، لتقترب بذلك من نسب التصويت في انتخابات الرئاسة الأخيرة عام 2018 (بلغت حينها نسبة المشاركة 67 في المئة وصوت 77 في المئة لصالح فلاديمير بوتين).

وفقاً لما كتبته المحللة السياسية آنا فيدوروفا في صحفتها على موقع “فايسبوك” فإنه “في زمن مثير للقلق نتيجة لانتشار فيروس كورونا، حيث تنتاب الناس مشاعر الحزن والسلبية والخوف والشوق – وهو ما ينعكس حتماً في شكل تصويت احتجاجي – فإن نسبة 60 في المئة كانت ستعد انتصاراً”.

في الواقع، ثمة أسباب عدة ساهمت في رفع نسبة المشاركة، من بينها اعتماد فترة تصويت طويلة (25 حزيران/يونيو – 1 تموز/يوليو)، بالاضافة الى آلية تصويت غير مسبوقة، ليس فقط في روسيا وإنما في العالم، وتتمثل في الدمج بين التصويت الذي يتطلب الذهاب شخصياً الى المراكز المخصصة لذلك وبين آلية التصويت الإلكتروني.

واذا كان تمديد الاستفتاء لمدة أسبوع قد ادى فعله بالنسبة الى الاقاليم البعيدة، التي كان ينبغي على سكانها الذهاب بأنفسهم إلى المراكز الرسمية، فإن التصويت الإلكتروني حقق نتائج مبهرة (نسبة المشاركة في التصويت عن بعد بلغت 93 في المئة بواقع 1.1 بطاقة تصويت عبر الإنترنت) لا سيما في موسكو ونيجني نوفغورود.

تبين أن الدعوات الى مقاطعة الاستفتاء كان لها مفعول عكسي اذ شكلت دافعاً قوياً للاقبال الكثيف على التصويت من جانب أنصار التعديلات الدستورية.

علاوة على ما سبق، ثمة عامل سياسي ساهم بدوره في رفع نسبة المشاركة، ويتمثل في الاستقطاب الحاد في الآراء حول الاستفتاء خلال الأسبوعين السابقين له، والذي أججته حملات لعدد من زعماء المعارضة الذين دعوا الى المقاطعة، والتي تبين انه كان لديها مفعول عكسي، خصوصاً أنها شكلت دافعاً للاقبال الكثيف من جانب أنصار التعديلات الدستورية.

في نهاية المطاف، مرت التعديلات وفق ما كان مأمولاً في الكرملين، ومن دون تشكيك بشرعيته، وهو ما أكده التقرير الأولي لجمعية المراقبة العامة المستقبلة، التي أشارت الى أن عمليات التصويت لم تشهد انتهاكات خطيرة.

وبحسب ما قال رئيس صندوق تنمية المجتمع المدني كونستانتين كوستين فإنه “بناءً على تقارير المراقبين المعتمدين، بمن فيهم ممثلو المعارضة، يقول الجميع بشكل عام أنه لا توجد انتهاكات خطيرة من شأنها أن تؤثر على التسجيل الموضوعي للنتائج”.

في المحصلة، يتعامل الكرملين وقادة حزب “روسيا الموحدة” مع نتائج الاستفتاء باعتبارها تصويتاً بمنح الثقة مجدداً لفلاديمير بوتين، الذي توجه بدوره الى الروس بالشكر على “الدعم” و”الثقة”، مشيراً الى أن “التعديلات التي أيدها المواطنون تهدف إلى تحسين النظام السياسي وتأمين الضمانات الاجتماعية، وتعزيز سيادة البلاد وسلامة أراضيها، بجانب تعزيز القيم الروحية والتاريخية والأخلاقية التي تجمع بين الأجيال”.

وشدد بوتين في كلمته على أن “روسيا الحديثة بالطبع ما زالت في مرحلة التكوين والتشكيل، وهذا ما ينطبق على جميع جوانب حياتنا: النظام السياسي والاقتصاد”، مؤكداً أن روسيا “في حاجة إلى الاستقرار الداخلي والوقت لتقوية مؤسساتها”. 

رغم ما سبق، فإن بعض النتائج التفصيلية للتصويت قد تشكل مصدر  قلق في الكرملين، وأهم ظواهرها التفاوت في المشاركة والتصويت بـ”نعم” بين منطقة وأخرى، ففي مقابل نسب المشاركة القياسية في الشيشان (98 في المئة) ، وتوفا (97 في المئة) ، وشبه جزيرة القرم (90 في المئة)، جاءت النسب أقل في مناطق أخرى مثل ألتاي وخاكاسيا وكاريليا وبيرم وكامتشاتكا ونوفوسيبيرسك وتومسك ومورمانسك ونوفغورود (بمعدل وسطي 50 في المئة) فيما سجلت منطقة ايركوتسك ادنى معدل مشاركة (44 في المئة).

في مسألة الخلافة الرئاسية يرجح أن تبقى الخطط سراً من أسرار الدولة بانتظار اللحظة المناسبة المضبوطة على ايقاع ساعة برج سباسكايا

يضاف الى ما سبق ان منطقة الحكم الذاتي أوكروغ نينيتس في شمال البلاد كانت الوحيدة التي عارضت التعديل الدستوري (56 في المئة صوتوا بـ”لا”) وهو أمر يعزوه المراقبون الى أن سكانها مارسوا نوعاً من التصويت الاحتجاجي نتيجة لمبادرة قام بها الحكام المحليون للاندماج مع منطقة ارخانغيلسك.

بصرف النظر عن توجهات التصويت، الا ان التعديلات الدستورية باتت حقيقة قائمة، وستدخل معها روسيا في ورشة إصلاحات قانونية تركز بشكل خاص على العلاقات بين مكونات السلطة السياسية الثلاث، وخصوصاً لناحية الاتجاه الى موازنة نسبية للصلاحيات بين الرئيس والبرلمان… لتتجه بعد ذلك الأنظار الى قضية الخلافة الرئاسية التي يرجح أن تبقى الخطط المتصلة بها سراً من أسرار الدولة بانتظار اللحظة المناسبة المضبوطة على ايقاع ساعة برج سباسكايا.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ما الذي ينتظر حكومة الفخفاخ في نهاية النفق التونسي؟
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  روسيا والسعودية: من يرضخ أولاً في حرب النفط؟