نصرالله يحصي حُلفاءه: يا وحدنا!

لا يتردد كثيرون في الداخل والخارج في قول ما يعتبرونها حقيقة قاطعة ولو بلغات متعددة: حزب الله يسيطر على لبنان. هو الأقوى والأقدر. يتحكم بقرار الحرب والسلم. يقرر من يريد رئيساً للجمهورية والحكومة ومجلس النواب. بإختصار، هو الحاكم الفعلي للبلد.

تعالوا ندقّق سوية، وبالوقائع، في فرضية من هو الحاكم الفعلي للبنان: الأميركيون أم حزب الله؟

لنبدأ بالمصارف اللبنانية. تاريخياً، لم يكن مسموحاً لحزب الله ان يدخل إلى هذا القطاع. رسمت معادلة “هانوي لكم وهونغ كونغ لي” حدوداً بين هانوي المقاومة و”هونغ كونغ” رفيق الحريري، وفي قلبها القطاع المصرفي. كان أقصى طموح حزب الله توطين رواتب آلاف العاملين في المؤسسات التابعة له (صحية وتربوية وإجتماعية وتجارية وطبية إلخ..). تدريجياً صار هذا القطاع سلاحاً ضد الحزب وبيئته الحاضنة، ولا سيما لجهة التضييق على العملة الصعبة المتأتية من الإغتراب.

جاءت ذريعة أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، لتضع حزب الله في دائرة الإستهداف، من خلال أفراد أو شركات وكيانات صُنّفَت إما تابعة للحزب أو يدعمها بصورة غير مباشرة. خلال ولاية باراك أوباما (2009 ـ 2017)، واجه حزب الله أقسى فصول الحرب المالية، وشكّل إتهام “البنك اللبناني الكندي” في العام 2011 بغسل الأموال ذروة الإستهداف. تم إقفال مؤسسة مصرفية كانت تحتل المرتبة الخامسة بموجوداتها. تصاعدت وتيرة الإجراءات، برغم إدراك الأميركيين أن حزب الله يدير منظومة مالية خارج النظام المصرفي اللبناني بشكل كلي. تمحور إستهداف البيئة الإغترابية. إقتضى ذلك أيضاً شيطنة الجاليات ووسم بعض رموزها بالإرهاب وتجارة المخدرات وغسل الأموال إلخ…

في السنوات الأربع من ولاية دونالد ترمب، تحولت وزارة الخزانة الأميركية إلى مطبخ شهري لإصدار لوائح إسمية بأفراد وكيانات. المطلوب تجفيف مصادر التمويل وتثوير البيئة الحاضنة وعزل حزب الله نهائيا عن القطاع المصرفي، إلى درجة أنه راح يستجدي أحيانا بعض التسهيلات عبر حاكمية المصرف المركزي لأجل إستثناء بعض مؤسساته المضطرة للتعامل مع مؤسسات الدولة اللبنانية ومع شركات التأمين (مستشفى الرسول الأعظم ورواتب أعضاء كتلة الوفاء للمقاومة نموذجاً).

بإختصار، ما يزال القطاع المصرفي، بما في ذلك مصرف لبنان المركزي، أحد أبرز الأسلحة التي يستخدمها الأميركيون يومياً ضد حزب الله، حتى أن بعض المصارف “الصديقة” لبيئة المقاومة، وعندما كانت تحشر في الزاوية، لم تتردد في إختيار إنحيازها لـ”الشيطان الأكبر”، تحت طائلة أن يكون مصيرها مثل “جمال ترست بنك” أو “اللبناني الكندي”!

ما يسري على المصارف يسري أيضاً على المؤسسات العسكرية والأمنية. من يملك نفوذاً وازناً في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة؟ الأميركيون أم حزب الله؟

قاعدة وسفارة ومحطة تجسس

لا أحد يشكك في العقيدة القتالية للمؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية، لكن معظم تسليحها وتدريبها أميركي أو غربي بإمتياز. ندر أن تجد ضابطاً لبنانياً كبيراً لم ينل تدريباً في الولايات المتحدة. لم يبخل الأميركيون، ومن يدور في فلكهم غربياً، بتقديم خبراتهم وذخائرهم وأسلحتهم (ضمن سقوف لا تهدد أمن إسرائيل طبعاً) لهذه المؤسسات وخاصة الجيش اللبناني. حجم المساعدات العسكرية الأميركية للجيش اللبناني سنوياً يشي بذلك. برامج التسليح وتبادل المعلومات الإستخبارية تصب كلها في الإتجاه نفسه، ناهيك عن العلاقات الدافئة بين قيادتي الجيشين اللبناني والأميركي.

حضورهم المؤثر في معظم الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة. قدرتهم على التحكم في كل عالم التكنولوجيا والإتصالات، حتى أن إعتراض أي إتصال عبر تطبيق الواتساب من قبل الأمن اللبناني يحتاج إلى إذن من جهاز الـ”إف بي آي” الأميركي

لا يجب أن ننسى أن الأميركيين يقيمون قاعدة عسكرية في منطقة حامات برعاية الجيش اللبناني وحراسته. قاعدة تنزل فيها بشكل شبه يومي طائرات نفاثة وأخرى للنقل العسكري بلا رقيب أو حسيب من الجانب الرسمي اللبناني.

لا يجب أن ننسى أن الأميركيين يقيمون سفارة في عوكر تشمل مهبطأً للمروحيات على مساحة تصل إلى حوالي 174 ألف متر مربع وبكلفة تصل إلى ما يزيد عن المليار دولار، لتصبح من أكبر سفارات الولايات المتحدة في العالم، بعد سفارة بغداد التي أقيمت على أكثر من 420 ألف متر مربع، وبلغت كلفة تشييدها 592 مليون دولار، حسب “فورين بوليسي”.

زدْ على ذلك أن الأميركيين يعتبرون محطة بيروت للتجسس محطة أساسية في المنطقة، وهم يديرون من خلالها شبكات لها إمتداداتها في السياسة والأمن والعسكر والإعلام والإقتصاد والثقافة في لبنان. للأميركيين منظومة يتحكمون بها من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) ومئات المنظمات غير الحكومية. لا يجب أن نغفل دور الجامعة الأميركية والمدارس والمراكز الثقافية الأميركية. حضور الأميركيين في المؤسسات الإقتصادية والتجارية الكبرى (طيران ومقاولات وصناعة ووكالات حصرية). في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والرقمية. حضورهم في القضاء، ولا سيما العسكري (نموذج الإفراج عن العميل عامر الفاخوري). حضورهم المؤثر في معظم الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة. قدرتهم على التحكم في كل عالم التكنولوجيا والإتصالات، حتى أن إعتراض أي إتصال عبر تطبيق الواتساب من قبل الأمن اللبناني يحتاج إلى إذن من جهاز الـ”إف بي آي” الأميركي!

هذا بعض حضور الأميركيين في الإقتصاد. لكن يمكن التوغل أكثر.

أمزجة طائفية وحزبية أميركية

إذا إعتمدنا قياس الطوائف، وهنا ليس المقصود إعتماد تصنيف الطوائف (وطنية أم غير وطنية)، على طريقة القيادي الشيوعي الراحل جورج حاوي، بل تبعاً للنفوذ والمزاج، سنجد أن أغلبية المسيحيين والمسلمين السنة والدروز وجزءا من الشيعة، إذا خيّروا بين الولايات المتحدة وحزب الله (ضمناً إيران)، فهم حتماً سيختارون “المعسكر الأميركي” بجاذبيته وإغراءاته وفوائده. في ظل هكذا مفاضلة ـ معادلة، سيجد حزب الله نفسه مقبولاً فقط من الجزء الأكبر من بيئته الشيعية ومن أقليات قليلة جداً وربما نادرة في باقي الطوائف!

بحسابات الأحزاب في لبنان. هناك أحزاب لا تطيق حزب الله صراحة أو أنها تهادنه بأقل تقدير. لذلك، تعتبر نفسها أقرب إلى الولايات المتحدة. الأمثلة كثيرة من تيار المستقبل والقوات اللبنانية والكتائب والحزب التقدمي الإشتراكي وتيار العزم وحزب الكتلة الوطنية والأحرار وحركة الإستقلال وحزب الإنتماء اللبناني (الأسعدي) وحركة التجدد الديموقراطي وحركة اليسار الديموقراطي والحركة اليسارية اللبنانية وغيرهم من أحزاب وشخصيات يجاهرون بحبهم للولايات المتحدة. يكاد يكون موقف هؤلاء جميعاً.. بديهياً (بمعزل عن تجربة الحلف الرباعي لحزب الله مع بعض قوى 14 آذار/مارس في إنتخابات العام 2005 وكيف أعطتهم ما لم يتمكنوا من الحصول عليه منذ ذلك التاريخ)، لكن ماذا عن قوى وشخصيات لبنانية كثيرة تعتبر نفسها حليفة لحزب الله ومعظمها ينضوي في ما يسمى “معسكر 8 آذار/مارس”؟

إقرأ على موقع 180  عن رئيس أميركا.. وفستان رانيا يوسف!

لنبدأ من عند حركة أمل. هذه الحركة هي جزء عضوي من معادلة “الثنائي الشيعي”، لا إلتباس حول موقفها من المقاومة. بل تستطيع أن تزايد على حزب الله بأنها حملت الراية قبله، عندما قال السيد موسى الصدر من بعلبك، في سبعينيات القرن الماضي إن “إسرائيل شر مطلق” و”السلاح زينة الرجال” في قتالها. لكن ماذا عن موقف أمل من الولايات المتحدة؟ الجواب يعبّر عنه الحضور الحركي في الأميركيتين، كما في أستراليا وأوروبا وأفريقيا، من دون إغفال العمق الإغترابي الذي يعتبره رئيس الحركة بأهمية نفط وغاز لبنان. لا يتردد نبيه بري بالوقوف مع السيد حسن نصرالله في مواجهة إسرائيل، لكنه لن يقبل بأن يكون شريكاً له في إدارة الظهر للولايات المتحدة والغرب. لو سألنا الحركيين الذين يتمنون الحصول على تأشيرة أميركية لوجدنا أن النسبة هي 99 % مقابل 1% يفضلون عليها التأشيرة الإيرانية!

لو لم تتحالف حركة أمل مع حزب الله لما أمكن لها أن تحفظ حضورها الطاغي في الإدارات والمؤسسات العامة، فضلا عن نفوذها الوازن في مؤسسات القطاع الخاص. هو التحالف الثنائي نفسه الذي منع حتى سوريا من أن تختار رئيسا ثانياً لمجلس النواب منذ 15 سنة، وربما ما يزال “الموال السوري” ذاته حتى الآن، لا سيما في ضوء واقعة توقيف هنيبعل القذافي التي فتحت جرحاً كبيراً في علاقة حركة أمل بالقيادة السورية.

يكتفي التيار بالمقدار الذي يجعل حزب الله مطمئناً إلى أن ظهره ما زال محمياً مسيحياً تحت سقف حماية سلاح المقاومة، لكن ماذا عندما يصل الأمر إلى الخيارات الداخلية؟ مثلاً، لو قرر حزب الله غداً تبني سليمان فرنجية مرشحاً لرئاسة الجمهورية، هل يقبل باسيل بأن يستمر يوماً واحداً حليفاً لحزب الله؟

ماذا عن التيار الوطني الحر؟

يستطيع جبران باسيل وقبله ميشال عون أن يتباهيا بإلتزامهما بمضمون تفاهم التيار وحزب الله منذ 14 عاماً حتى يومنا هذا، فالبند العاشر حدد مندرجات النظرة المشتركة للخطر الإسرائيلي. إختبر الحليفان تفاهمهما السياسي في حرب تموز/يوليو 2006. كانت النتيجة أن حزب الله تصرف بوفاء سياسي، كما لم يتصرف حزب لبناني من قبل. من توزير جبران باسيل في كل حكومات ما بعد إتفاق الدوحة، إلى إنتخاب عون رئيساً للجمهورية، مروراً بالإنتخابات النيابية، ناهيك عن رهان باسيل على تجديد حلم رئاسة الجمهورية بالشراكة الكاملة مع حزب الله في العام 2022.

هل يمكن للتيار الحر أن يقف مع حزب الله في أي تموضع إقليمي أو دولي (مع أميركا أم ضدها؛ مع السعودية أم ضدها)؟ الجواب حتماً لا. يكتفي التيار بالمقدار الذي يجعل حزب الله مطمئناً إلى أن ظهره ما زال محمياً مسيحياً تحت سقف حماية سلاح المقاومة، لكن ماذا عندما يصل الأمر إلى الخيارات الداخلية؟ مثلاً، لو قرر حزب الله غداً تبني سليمان فرنجية مرشحاً لرئاسة الجمهورية، هل يقبل باسيل بأن يستمر يوماً واحداً حليفاً لحزب الله؟

هل يتحالف طلال إرسلان مع حزب الله لأسباب وطنية وقومية وعقائدية أم لأجل تأمين توازن مع وليد جنبلاط في المعادلة الدرزية في لبنان؟ ولو وجد حليف لحزب الله مثل وجيه البعريني أو فيصل الداود، حزباً لبنانياً بوزن حزب الله وإمكانياته، هل كان ليستمر بتحالفه مع حزب الله (صادر الداوود مال حزب الله الإنتخابي في العام 2018 ولم يصرف منه قرشاً واحداً، وكان من الطبيعي رؤية نجل البعريني الأكبر (وليد) ينقل بارودته من هذا الكتف إلى الكتف الآخر في الإنتخابات نفسها)!

صاغ الكثير من حلفاء حزب الله تحالفات إنتهازية على قياسهم طمعاً بتغيير معادلات محلية وليس لأي سبب آخر.

حتى عندما إضطر حزب الله إلى رفع سقف خطابه السياسي ضد دول الخليج، وتحديداً السعودية والإمارات على خلفية الموقف من حرب اليمن، كاد معظم الحلفاء “يبلعون” لسانهم، لا بل إنبرى البعض منهم للدفاع عن السعودية تحت راية “العروبة”. يمكن أن يسري ذلك على سليمان فرنجية الذي يصنف في خانة “الأوفى” بالسياسة. هل يمكن لزعيم “المردة” أن يعطي حزب الله شيكاً على بياض إذا مسّ منظومة علاقاته الدولية والإقليمية (الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا وغيرهم)، ربطاً بحساباته الرئاسية؟

لو تم تشريح مجلس الـ 128 نائباً، على قاعدة المفاضلة بين حزب الله والأميركيين، هل يستطيع السيد نصرالله أن يجتذب إلى “معسكره” أكثر من 20 نائباً.

لو تم تشريح حكومة الدكتور حسان دياب، هل يملك حزب الله ثلثاً حقيقياً معطلاً فيها أم سيكون ذلك صعب المنال، خاصة إذا ترك لبعض الوزراء “الممانعين” أن يعبروا عن عميق ودفين مواقفهم؟

يسري ذلك على الكثير من التركيبات السياسية التي “يفبركها” حزب الله ويصبح أسيرها ورهينة حساباتها المحلية الضيقة، وما أكثر النماذج!

لكأن الكثيرين من حلفاء وأصدقاء حزب الله قرروا أن يعطونه من كيسه. نعم، صار الموقف من إسرائيل “بيعة”، بينما ينبغي أن يكون بديهية.

نعم حزب الله لم يكن، في يوم من الأيام، قوياً بالمعنى العسكري والأمني والإستراتيجي، كما هو اليوم. يصح القول إنه صار قوة إقليمية. شكّل طوال سنوات الحرب السورية رافعة قتالية. يقدّم الأداء الأكثر إستراتيجية في معركته المفتوحة مع إسرائيل. يراكم خبرات وقدرات. كل ذلك صحيح وربما هناك الكثير مما نجهله عن منظومته العسكرية والأمنية.

لكن كيف لهذا الحزب أن يصرف كل هذه الخبرة والقدرة والنفوذ في بلد مثل لبنان؟

ليس المقصود من هذه السردية الترويج لحزب الله أو للأميركيين. الحقيقة المرة أن الولايات المتحدة هي الحاكم الفعلي للبنان، أما السيد حسن نصرالله، فلسان حاله أن يقول لجمهوره: يا وحدنا!

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  السعودية وآل الحريري.. شتّان ما بين الأب والإبن