تنطلق المفارقة الكبرى من معرفة أن تنظيم “القاعدة” يبايع حركة “طالبان” بيعة إمامة عظمى، وهو ما يفرض عليه الالتزام بتوجهاتها العامّة وعدم مخالفة اتفاقاتها أو التسبب بما يضر بعلاقاتها المستجدة مع بعض الدول. وبمقتضى المسار التفاوضي الأفغاني فإن الولايات المتحدة أصبحت تُعتبر وسيط سلام ولم يعد ينظر إليها – من قبل “طالبان” – كعدو ينبغي قتاله والجهاد ضده.
وفي حال اقتضت محادثاتُ السلام وما يمكن أن يواجهها من عقبات استخدامَ القوّة لتعزيز أوراق التفاوض، فإن موقف حركة “طالبان” المعلن هو أنها حركة محلية لا شأن لها بالدول الأخرى، وبالتالي فإن أية مواجهة مع القوات الأميركية لا ينبغي أن تتعدى الحدود الأفغانية.
ويفترض بحسب مقتضيات البيعة العظمى التي تدين بها “القاعدة” لحركة “طالبان”، أن ينسحب الموقف المستجد من الولايات المتحدة على تنظيم “القاعدة” لأنه مجرد تابع لحركة “طالبان” ولا يملك الحق في الخروج عن إرادتها السياسية أو العسكرية. غير أن زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري كان شديد الوضوح في جوابه على سؤال “من هم أعداؤنا” إذ قال: “لا شك أن من أعدائنا أكابر المجرمين في الدنيا الغربيين وعلى رأسهم أميركا، وأتباعها من الحكّام، وروسيا والصين والهند وإيران”. كلام الظواهري الذي جاء في تسجيله المرئي المعنون بـ”صفقة القرن أم حملات القرون”، الأسبوع الماضي، ينطوي على تناقض صارخ مع سياسة “طالبان” وميلها إلى اتباع المسار السلمي في حل القضية الأفغانية.
ومن المرجّح أن يكون الظواهري قد استند إلى ثغرة أحدثها سلفه اسامة بن لادن في الجدار الصلب للبيعة العظمى، مكّنته من إيجاد هامش للمناورة من أجل التمايز عن “السياسة الطالبانيّة” التي تضع استراتيجية تنظيم “القاعدة” في قتال “العدو البعيد” – الذي يعني في أدبيات التنظيم أميركا وحلفاءها – أمام مأزق وجودي، لأنّها، اي “السياسة الطالبانية”، لم تعد تتبنى استراتيجية العداء للولايات المتحدة.
وتتمثل هذه الثغرة في أن أسامة بن لادن عندما أعطى البيعة العظمى سرّاً لزعيم حركة “طالبان” الراحل الملا عمر، لم يُلزم بها إلا كوادر وعناصر التنظيم المتواجدين فوق الأراضي الأفغانية، بينما تكون بيعة الفروع والكوادر والعناصر المتواجدة في دول أخرى لحركة طلبان فقط “بيعة قتال”، وهو مصطلح يراد به حصر العلاقة ضمن نطاق الحرب والأعمال العسكرية من دون أن يتعداها إلى الحكم والسياسة والإدارة. وبالتالي يمكن فهم كلام الظواهري على أنه رسالة إلى فروع “القاعدة” خارج أفغانستان مفادها أن عداء التنظيم للولايات المتحدة ما يزال مستمراً برغم سياسة “طالبان” التصالحيّة، وأن استراتيجية “قتال العدو البعيد” ما تزال سارية وصالحة للعمل بها.
من المرجّح أن يكون الظواهري قد استند إلى ثغرة أحدثها سلفه اسامة بن لادن في الجدار الصلب للبيعة العظمى، مكّنته من إيجاد هامش للمناورة من أجل التمايز عن “السياسة الطالبانيّة”
وسرعان ما استغلّ تنظيم “داعش” التقدم الحاصل في مفاوضات السلام الأفغانية من أجل تعزيز دعايته الإعلامية وإظهار حركة “طالبان” وتنظيم “القاعدة”، اللذين يكنّ لهما العداء، بمظهر من يخلق شعارات جوفاء لأغراض مؤقتة ثم يتخلى عنها بسرعة. واعتبر التنظيم في مقالة منشورة في العدد 252 من صحيفة النبأ التي تصدر أسبوعيّاً عن ديوان إعلامه المركزي، أن تصرفات “طالبان”، ومعها صحوات الشام ومن قبلها صحوات العراق، نسفت شعار “قتال العدو البعيد” ووضعته في ملفات النسيان، واشارت المقالة إلى أن الهدف من هذه السياسات التصالحية التي تقودها واشنطن ما هو سوى العمل على تقريب “فصائل الردّة”، في إشارة إلى “طالبان” و”القاعدة”، من “العدو القريب” الذي يمثل الحكام والجيوش في الدول الإسلامية، وذلك من أجل تحقيق هدف واحد هو قتال “الدولة الإسلامية” (داعش) الذي أشارت إليه المقالة باسم “العدو المشترك” الذي يهدد مصالح جميع الأطراف.
وإذا كان موقف “داعش” متوقّعاً بسبب الصراع الدائر بينه وبين حركة “طالبان” وتنظيم “القاعدة” في مناطق عدة من أفغانستان، فإن انعكاس مفاوضات السلام الأفغانية على المشهد الجهادي السوريّ بدا مستغرباً وغير قابل للتأطير ضمن أطر معقولة، إذ للمفارقة تلقّت حركة “طالبان” أول “مباركة” على إنجاز المفاوضات من قبل “هيئة تحرير الشام” التي باتت، اليوم، تقف موقف العداء من تنظيم “القاعدة” وتعمل على تقويض نفوذه في الشمال السوري، وهي بطبيعة الحال تعتقل العشرات من كوادر وقيادات “حراس الدين” المبايع لتنظيم “القاعدة”. واعتبر أبو عبدالله الشامي الشرعيّ العام للهيئة، أن المفاوضات هي “نصر كبير” يسجل لحركة “طالبان”. ولم يكن الشامي ليفوت هذه الفرصة من دون توظيفها بما يخدم نهج جماعته في أحداث الشمال السوري، حيث شدد على “حلاوة العواقب” نتيجة “الوحدة والاعتصام”، في إشارة إلى سعي “هيئة تحرير الشام” على توحيد جميع المقاتلين في إدلب ضمن “غرفة عمليات الفتح المبين” ومنع تشكيل اي فصيل أو غرفة منافسة كما حاول “حراس الدين” “القاعديّ” أن يفعل من خلال تشكيل غرفة عمليات “فاثبتوا” التي أجهضتها الهيئة ولاحقت قياداتها. ويقال نفس الأمر بالنسبة لإشارة الشامي إلى ضرورة أن يكون كل من “المسار السياسي” و”المسار العسكري” في خدمة الآخر، وأنه لا بد من “توظيف النجاح العسكري في صورة مكتسبات سياسية”.
تلقّت حركة “طالبان” أول “مباركة” على إنجاز المفاوضات من قبل “هيئة تحرير الشام” التي باتت، اليوم، تقف موقف العداء من تنظيم “القاعدة” وتعمل على تقويض نفوذه في الشمال السوري
في مقابل هذا الموقف المهنّئ من قيادة جماعة تعتبر خصمة لتنظيم “القاعدة” الذي تربطه بـ”طالبان” علاقة “بيعة عظمى”، كان من المفاجئ أن يتولّى أبو قتادة الفلسطيني المعروف بقربه من “هيئة تحرير الشام” مهمة انتقاد مسار مفاوضات السلام الأفغانية، معتبراً أن هذه المفاوضات – على عكس رأي الشرعي للهيئة – هي إنجاز لأميركا وليس لحركة “طالبان”، واصفاً إيّاها بأنها “مفاوضات الذل”. ولم يكن أبو محمد المقدسي الذي يعتبر المرشد الروحي لجماعة “حراس الدين” بمثل قسوة أبي قتادة الفلسطيني إذ اكتفى بتوجيه نصائح إلى حركة “طالبان”، محذراً إياها من مغبة مسار المفاوضات الذي تكتنفه الكثير من المخاطر والمؤامرات على الجماعة الإسلامية.
ويبدو أن جماعات “القاعدة” في سوريا وجدت نفسها في موقف حرج منعها من الإعلان عن موقفها الحقيقي من أداء حركة “طالبان”، فلم تصدر أي بيان حول الموضوع باستثناء بعض التعليقات من مقربين منها. وينطلق الحرج “القاعديّ” في سوريا من أن جماعات “القاعدة” تتبنّى حالياً العمل المسلح لتقويض مسار المفاوضات السياسية وأهمها مسار آستانا بين روسيا وتركيا وإيران، وهذا يتناقض مع المسار السلمي الذي انتهجته حركة “طالبان”. كما أن ثمة إحساساً لدى قيادات القاعدة في سوريا بأن نهج “طالبان” من شأنه تعزيز نهج “هيئة تحرير الشام” وتبرير تصرفاتها الأخيرة التي تنطوي على مهادنة واضحة للاتفاقات الروسية – التركية والتي ترجمت مؤخراً من خلال تسهيل مرور الدوريات المشتركة على طريق إم فور، لذلك فإن قيادات “القاعدة” في سوريا تشعر بغصّة جراء انخراط “طالبان” في مفاوضات سلام برعاية أميركية، وما يزيد من هذه الغصة أن طائرات الدرونز الأميركية لم تتوقف عن اصطياد قادة “القاعدة” في الشمال السوري.
قد تفسّر هذه الغصة سبب غياب أي بيان من قبل “حراس الدين” يعبر عن موقف الجماعة من مفاوضات السلام الأفغانية، لكن ذلك لم يمنع هذه قيادات الجماعة من السخرية من “المباركة” التي أرسلتها “هيئة تحرير الشام”، معتبرة أن “من ينكث عن البيعة العظمى لحركة “طالبان” لا يحق التمسح بها” في إشارة إلى تخلي الهيئة عن بيعة الظواهري وبالتالي تخليها عن البيعة لحركة “طالبان”.