المغرب يُطبّع.. أين الشعب؟

يدّعي المغرب الحياد أو النأي بالنفس إزاء الصراعات، ويُفاخر بذلك علناً، كما عبّر عن ذلك صراحةً وزير خارجيّته ناصر بوريطة لنظيره الأميركي مايك بومبيو أثناء زيارة الأخير للمغرب في تشرين الثاني/نوفمير2019. هل كان المغرب محايداً حقاً حيال ما يراهُ دون اهتمامه ولا يدخل ضمن انشغاله أمّ أنّه يوسّع دائرة الإدّعاء من أجل صنع مناوراتٍ مع جيرانه وحلفائه في الخليج؟

لطالما أثبتت الوقائع الجارية بأنّ المغرب ليس محايداً بالشكل الذي يرومه على الأقل؛ بدءاً بحرب اليمن وصولاً إلى اتفاق التطبيع الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب أخيراً (موافقة المغرب وإسرائيل على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما، واعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية). هذا الإعلان الذي يستبق فيه ساكن البيت الأبيض ساعة الرمل المسرعة من أجل تحقيق مكاسب أخيرة، وجني النقاط في ما تبقّى من وقتٍ شارف على النفاد، قبل خروجهِ من سدة الرئاسة في العشرين من كانون الثاني/يناير القادم، فبدا كأنّه خصمُ سابقٍ من غنيمة لاحق.

المغرب وأميركا
صحيح أنّ العلاقات المغربيّة الإسرائيليّة قديمة، تكاد بهذا القدم أن تكون وثيقة بحكميّ التاريخ المديد والغرام السري، لكن الجديد هو ترسيم هذه العلاقات الثنائيّة وبشكل رسمي وقانوني وعلني في إطار التطبيع الذي أعلن عنهُ الرئيس ترمب.
لقد اعتبرت الولايات المتحدة المغرب حليفاً غير مهمٍّ بالنظر إلى هامشيّة المغرب العربي في الأجندة الأميركيّة خاصةً لدى الجمهوريين، لكنّ ذلك لم يمنع من اعتبار المغرب؛ المعتدل الوحيد في دول المنطقة. ومن أجل توطيد ذلك، اعتبرتهُ الولايات المتحدة مجالاً حيوياً يستحقّ الدعم منذ أوائل ستينيات القرن الماضي. ففي عام 1960 زوّدت الإدارة الأميركيّة المغربَ بالسلاح، ردّاً على الاهتمام السوفياتي به عسكرياً. ومن أجل قطع الطريق بينهما، تمّ فتح مكتب اتصال أميركي/ مغربي، يشتغل فيه ثلاثون ضابطاً أميركياً تمّ إيفادهم إلى الرباط سنة 1962، بدعوى تحقيق الاكتفاء الأمني المغربي في ذلك الوقت. وحين قام الصراع الحدودي بين المغرب والجزائر والذي عُرف بـ “حرب الرمال” 1963، تحوّل الدعم العسكري الأميركي إلى دعمٍ رسمي ومُعلن عنهُ ومبرّر بـ“دفاع المغرب عن حدوده”. جاءت هذه المساعدات بهدف تقوية سلاح الجو وخلق نوعٍ من التوازن الأمني في المنطقة. وفي الحادي عشر من أيّار/ مايو 1965 جرى اتفاق ثنائي جمع بين المغرب والولايات المتحدة، تمّ بموجبه تسليم المغرب اثنتيّ عشرة طائرة حربيّة، مع لوازمها من مساعدات تقنية سعت من خلالها الولايات المتحدة إلى تدريب الطيارين المغاربة (للاستزادة والتحقّق. (راجع كتاب:jean-françois daguzan, Les États-Unis et la Méditerranée, (sous la dir.) Publisud, Paris, 2002, page 38,39).
وبالعودة إلى الحاضر، يحتضن المغرب كل سنة مناورات “الأسد الأفريقي” التي تجمع بين الظهيرين الأميركي والمغربي في موعدٍ عسكري سنوي بإشراف مباشر من “أفريكوم“، وقد تعذّر إجراؤها هذه السنة بسبب احتياطات السلامة من فيروس كورونا المستجد.

ربما ولأوّل مرة في تاريخ المغرب، يجد الشعب نفسهُ في حالة رفض لموقف رسمي يقف وراءه الملك محمد السادس نفسه، وبناءً على ذلك كل اعتراضٍ شعبي في المستقبل على اتفاق التطبيع هو محاكمة صوريّة تتفوّق عن كونها رمزية فحسب، لمواقف الملك المهادنة لإسرائيل

انعكست هذه الأجواء والمناخات على العلاقات الإسرائيليّة المغربيّة، فقد وطّدت الولايات المتحدة لهذا النوع من “التصالح” التاريخي والفكاك من أيّ التزام مُكلّف للمغرب تجاه القضية الفلسطينيّة، ما خلا الالتزام الأدبي والرمزي، دون التأكيد على ذلك من خلال البحث في طبيعة العلاقة مع المتسبّب في خلق حالة استعماريّة في الشرق الأوسط.

المغرب وإسرائيل
لقد سمح محمد الخامس للمغاربة اليهود بالهجرة إلى فلسطين التاريخيّة، وما إنْ تولّى الملك الحسن الثاني، الذي حكم مملكته بالحديد والنار، سُدّة الحكم؛ “رسّم” هذه العلاقات عرفياً، بعد لقائه بـرئيس جهاز “الموساد” الإسرائيلي ماثير آميث في مراكش في أيّار/ مايو 1964.
وكان “الموساد” يزوّد الملك الحسن الثاني بتقارير ومعلومات دوريّة تتضمّن “النوايا” المضمرة التي تصنّف في إطار العدائيّة للرئيس المصري جمال عبد الناصر، وعمل “الموساد” على إمداد المغرب بمئة دبابة لتقوية موقف الحسن الثاني إزاء الجزائر أثناء التوتر الذي حدث بينهما والمعروف بـ “حرب الرمال” 1963، (محمد حسنين هيكل، كلام في السياسة – قضايا ورجال، دار الشروق، القاهرة، 2004، ص: 330)، بلّ إنّ “الموساد” تابع تحرّكات المعارض المغربي المهدي بن بركة وبلّغ عنه تمهيداً لخطفه وقتله من قبل رجال الملك، لكن ليس هنالك من دليل كافٍ وموثّق يشير إلى اشتراك “الموساد” في عملية القتل بشكل مباشر (هيكل، المرجع نفسه، ص: 331. وذكر ما يشير إلى ذلك عبد العظيم مناف، دفاع عن العروبة، دار الموقف العربي، القاهرة، 1989، ص، 15).

الشعب وفلسطين
تكتسب القضية الفلسطينيّة زخماً عاطفياً ودينياً وسياسياً أيضاً في عموم المغرب. فالحال أنّ الشعب المغربي لم يفوّت المواعيد السياسيّة التي تُستأنف عادةً بعد الاشتباكات التي تكون فلسطين أو لبنان أو سوريّا مسرحاً لها، فبُعيد أيّ اعتداء إسرائيلي تشنّه سلطات الاحتلال في فلسطين أو لبنان أو سوريّا، يشهد المزاج المغربي العام نوعاً من التفاعل الحاد والغاضب والمنتقد لمواقف الأنظمة العربيّة المتخاذلة، ممّا يعني أنّ اتفاق التطبيع الذي بشّر به رئيس أميركي منتهية ولايته على موقعٍ تواصل اجتماعي، من شأنهِ أن يشكّل نوعاً من الامتحان العسير، الذي يرقى لأنّ يكون أخلاقياً ووجودياً بامتياز، يُمكّن لغير المغاربة قياس مدى حرارة القضية الفلسطينيّة في الشارع المغربي، ذلك أنّ الثقل الذي يمثله زخم هذه القضية في المخيال المغربي، سياسياً كان أم اجتماعياً أم دينياً، من شأنه أن يدفع المغاربة إلى تحويل هذا الزخم العاطفي إلى أدوات سياسيّة تتّسم بالخشونة حيال تصرّفات المخزن الذي استخدمَ قضية الصحراء من أجل تسويق مواقفه الممالئة لأميركا وإسرائيل بدلالة التاريخ والحاضر.
قوس الاحتمالات هنا، يبدو مفتوحاً عن آخره، فليس ثمة ما يمكن أنّ يحدّد شكل المستقبل المغربي في ظل الخطوة التي قامَ بها المخزن سوى الموقف منه، لا سيما أنّ مقايضة الحاضر المغاربي بالتاريخ المغربي والمتاجرة بما يسمّى محلياً بـ”الوحدة الترابيّة” بالتطبيع مع من يُصنّفه الشعب عدوّاً، وينتهز الفرص للتعبير عن تثبيتهِ في مركز العدوّ الأصلي، يجعلُ كل التكهنات واردة. لكن هل يُترجم هذا الرفض المحتمل في انتفاضة تستهدف رأس الملك بوصفهِ المسؤول الأول عن التطبيع؟
ربما ولأوّل مرة في تاريخ المغرب، يجد الشعب نفسهُ في حالة رفض لموقف رسمي يقف وراءه الملك محمد السادس نفسه، وبناءً على ذلك كل اعتراضٍ شعبي في المستقبل على اتفاق التطبيع هو محاكمة صوريّة تتفوّق عن كونها رمزية فحسب، لمواقف الملك المهادنة لإسرائيل، والقابلة لأنّ تكون مطواعةً تماماً للبيت الأبيض في واشنطن.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  تجديد النظام العربي.. من أين يبدأ؟
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إيران في لبنان.. البعد الجيوسياسي!