تحدث كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان، في أوائل ديسمبر/كانون الأول (2020) عن المقابلة التي خصه بها جو بايدن، الرئيس المنتخب للولايات المتحدة. تحدث هذا الأخير كثيرًا عن القضايا الداخلية بعد حالة الركود الذي تركها دونالد ترامب كإرث. كما تناول القضايا الدولية وأشار إلى أولويتين في هذا المجال. تتعلق الأولى بعلاقات بلاده مع الصين وهذا باختصار ملف ضخم يريد بايدن أن يمنح نفسه الوقت فيه. لكن الأولوية الثانية في نظره مستعجلة، وهي استئناف الحوار مع إيران (…).
أشار بايدن في بداية حواره مع فريدمان بشكل مبطن إلى فكرة العودة إلى هذه الاتفاقية مع وضع عدد من الشروط المسبقة. وقد صرح خلال الحملة الانتخابية في 16 سبتمبر/أيلول 2020 بأنه على طهران القيام بالخطوة الأولى و“العودة إلى الاحترام الصارم للاتفاق النووي”، كأنها ليست الولايات المتحدة التي ولت ظهرها لهذا الاتفاق. كان بايدن يريد خاصة التفاوض في نفس الوقت على تمديد فترة الحظر المفروض على الإنتاج الإيراني لليورانيوم المخصب، وأيضا على تحديد صارم للصواريخ الباليستية المتوفرة لدى الإيرانيين. لكن بعد ستة أسابيع من هذا التصريح، بدا كلامه أقل حدة. لن يتخلى بايدن عن حمل إيران على التفاوض بشأن قضية الصواريخ، لكن تبقى الأولوية القصوى هي استعادة الثقة، ثقة في الكلمة الأمريكية التي يعرف أنها ضعفت بشكل رهيب في إيران.
برغم أنه لا يقول ذلك صراحة، فهو يعلم أنه حتى وإن كانت هناك مقاربات غير معلنة مع طهران جارية بالفعل، فلن تفتح أي مفاوضات جادة دون أن تظهر الولايات المتحدة أولاً بأن عودتها إلى اتفاق 2015 ليست لفظية فحسب. يجب أن يُتبع ذلك بأفعال، بدءًا من رفع العقوبات بشكل فعلي. وفي جوابه لفريدمان، الذي حثه على أن يكون أكثر صرامة مع طهران، رد بايدن بصراحة: “انظر، يقال الكثير عن الصواريخ الباليستية، وخاصة عن سلسلة كاملة من الأشياء (التي يقوم بها الإيرانيون) التي تزعزع استقرار المنطقة. لكن أفضل طريقة لتحقيق نوع من الاستقرار في هذه المنطقة هو التفاوض حول القضية النووية أولا”. لأنه إذا حصلت إيران على القنبلة الذرية – وهو يعتقد أن ذلك سيحدث إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق – فإن إمكانية الانتشار النووي ستصبح خطيرة بشكل مروع. “وآخر شيء لعين نحتاجه في هذا الجزء من العالم هو توسيع القدرة النووية”.
فضلا عن ذلك، يرى بايدن أنه يجب التصرف بسرعة. لا شيء يضاهي بضعة إجراءات قوية لإقناع طهران بالنوايا الحسنة للإدارة الجديدة. يعقب فريدمان بقلق: أليست هذه مخاطرة؟ يجيبه بايدن بأن العقوبات التي ترفع يمكن أن يعاد فرضها إذا لزم الأمر. بعبارة أخرى، لنبدأ برفعها. إذا سارت المفاوضات بشكل سيئ، فالتراجع ممكن دائما. وهو ينوي المضي قدما رغم أن ذلك “سيكون صعبا”. سيكتشف بايدن قريبًا بالتفصيل الوضع الذي ترك فيه ترامب الملف الإيراني.
قال المسؤول السابق عن منع الانتشار النووي في وزارة الخارجية الأمريكية مارك فيتزباتريك، “لم يكن سبب اغتيال فخري زاده إعاقة القدرة النووية الإيرانية، بل كان إعاقة دبلوماسية الإدارة القادمة”
قبل أسبوع من مقابلة بايدن، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، قام كوماندوس يفترض أنه إسرائيلي بقتل محسن فخري زاده، الذي قُدِّم على أنه المشرف الرئيسي على البحث النووي العسكري الإيراني. لم يتطرق بايدن في حواره لهذا الحدث. لكنه يعلم بأنه قبل خمسة أيام من جريمة القتل، التقى مايك بومبيو – وزير خارجية دونالد ترامب – برجله القوي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في السعودية، إلى جانب بنيامين نتنياهو. وقد تم الكشف على الفور عن هذا اللقاء “السري”.
بتنفيذه هذا الاغتيال يكون نتنياهو إما قد أراد أن يُظهر لبايدن بأنه يظل مصمماً على تقويض أية مفاوضات مع إيران، وإما أن إسرائيل تصرفت بناءً على طلب صريح من ترامب. وفي الحالتين، فالقصد من هذا الفعل ليس فقط إظهار للإيرانيين بأن إسرائيل قادرة على ضرب قادتها الأكثر حماية، بل تتمثل الغاية أكثر في إحداث فوضى بهدف تخريب السياسة الإيرانية التي يرغب الرئيس الأمريكي الجديد في تطويرها. وإذا بقي بايدن صامتًا بشأن جريمة القتل هذه فإن العديد من مقربيه كانوا جد قاسيين بخصوصها، إذ غرد بن رودس، نائب المستشار الأمني السابق لأوباما بأنه يرى في ذلك “عملًا شائنًا يهدف إلى تقويض دبلوماسية الإدارة الأمريكية القادمة تجاه إيران”. ووصفها مدير وكالة المخابرات المركزية السابق، جون برينان، بأنها “عمل من أعمال إرهاب الدولة”.
مناورات دونالد ترامب
هل مازال بإمكان ترامب والمتواطئين معه من الإسرائيليين إحباط طموح بايدن الإيراني قبل تنصيبه في غضون أسبوعين؟ يبدو ذلك غير محتمل. فكما قال مارك فيتزباتريك، المسؤول السابق عن منع الانتشار النووي في وزارة الخارجية الأمريكية، “لم يكن سبب اغتيال فخري زاده إعاقة القدرة النووية الإيرانية، بل كان إعاقة دبلوماسية الإدارة القادمة”. لكن روبرت مالي، رئيس مجموعة الأزمات الدولية، لا يؤمن بفعالية هذه الطريقة ويرى أن ترامب ونتنياهو لن يتمكنا من “قتل الدبلوماسية”. وبالفعل، لم ترد إيران حتى الآن بعدوانية على مقتل عالمها. ومع ذلك، تبقى العودة إلى علاقة أكثر هدوءا بين الولايات المتحدة وإيران غير مؤكدة. لم يتخل الإسرائيليون والسعوديون وأنصار ترامب في الولايات المتحدة عن السعي لإحباط أي انفتاح من واشنطن تجاه طهران. فهم يعلمون أنه حتى في إيران أصبح الرئيس حسن روحاني، الذي دعا خلال أربع سنوات إلى ضبط النفس في مواجهة “مجنون” واشنطن، في حالة ضعف اليوم، وبأن بايدن سيواجه صعوبات مع رأيه العام بخصوص الرهان الإيراني. لكن فوز نائبين عن الحزب الديمقراطي في ولاية جورجيا في 6 يناير/كانون الثاني سيعطي أغلبية لجو بايدن في مجلس الشيوخ، ما سيسهل عمله في عدة ملفات، ما عدا الملف الإيراني، إذ يبقى الكونغرس مناهضا لأي اتفاق نووي مع إيران.
من جهتهم، شرع المسؤولون الإيرانيون في الضغط على بايدن، إذ أعلنوا في 4 يناير/كانون الثاني عودة إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20% والذي فرض عليهم اتفاق 2015 التنازل عنه. وهي طريقة لإبصال الرسالة التالية: إن كانت واشنطن تنوي العودة إلى الاتفاق، فعليها تقديم تعهدات ملموسة. من جهة أخرى، من المقرر إجراء انتخابات رئاسية في إيران في 18 يونيو/حزيران 2021. وإن انتخب صاحب السلطة الرئيسية، مرشد الثورة علي خامنئي، مرشحًا معاديًا للمفاوضات، فإن محاولات جو بايدن لتحقيق اتفاق موسع مع طهران قد تسقط بسرعة. لكن هذا ليس رأي سید حسین موسویان. كان هذا الدبلوماسي الإيراني الكبير سابقا، المقرب من الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني (1989-1997)، متحدثا باسم الوفد الإيراني في المفاوضات الأولى مع الغرب من 2003 إلى 2005، وهو اليوم أستاذ في جامعة برينستون. موسویان مقتنع بعودة المحافظين إلى الرئاسة في إيران في غضون أشهر قليلة، لكن هذا لن يضع حدًا لرغبة خامنئي، مهما كانت مخاوفه، في العودة إلى طاولة المفاوضات.
وفقا للأخذ والعطاء، سيكون من اللياقة أن تقوم واشنطن أيضًا بمبادرة، قد يمثل شطب “الحرس الثوري” من قائمة التنظيمات الإرهابية إحداها. وتوقيف العقوبات الاسمية ضد القادة الإيرانيين أخراها
ويصل موسويان إلى تحديد ملامح محادثات واسعة النطاق قد ترضي جو بايدن… والإيرانيين. وقد كتب في موقع ميدل إيست آي أن طهران سترى ابتداءً من الأشهر الأولى للإدارة الجديدة للبيت الأبيض عودة حقيقية لشروط اتفاقية عام 2015، وبالتالي إلى رفع العقوبات. وبعد تحقيق هذه النقطة يمكن أن تركز بقية المفاوضات على الطلبات الأمريكية لتوسيع نطاق الاتفاقية. وفي هذه الحالة، وفقا للأخذ والعطاء، سيكون من اللياقة أن تقوم واشنطن أيضًا بمبادرة، قد يمثل شطب “الحرس الثوري” من قائمة التنظيمات الإرهابية إحداها. وتوقيف العقوبات الاسمية ضد القادة الإيرانيين أخراها.
ثم ستأتي، عاجلاً أم آجلاً، مسألة الصواريخ الباليستية. يريد الغربيون أن تكف طهران عن تجميعها. ويقول موسويان أنه بالنسبة لإيران، يتعين حل المشكلة من خلال “مقاربة متعددة الأطراف”. ويذكر بأن المملكة العربية السعودية تمتلك العديد من الصواريخ الصينية التي يصل مداها إلى أكثر من 5000 كيلومتر، وبأن إسرائيل تمتلك مئات الرؤوس النووية ولديها 5000 صاروخ أريحا لحملها. وبالتالي ستتم دعوة هذين البلدين وغيرهما إلى مفاوضات متعددة الأطراف. باختصار، نقطة انطلاق الموقف الإيراني بسيطة. إذا تخلت إسرائيل والسعودية والقوى الإقليمية الأخرى أو حدت من عدد صواريخها، فستقوم طهران بعمل مماثل. وإذا رفضت، فلماذا تذعن إيران لذلك؟ مساحة الغربيين للتفاوض ليست منعدمة ولكنها ضعيفة. ولكن الحال كان مماثلا عند بداية المفاوضات النووية (التي استمرت قرابة 15 عامًا).
هل يرضخ بايدن لإسرائيل؟
من المؤكد أن الرد السعودي والإسرائيلي على مثل هذا الطلب سيكون رفضًا غاضبًا. لكن من خلال القيام بذلك، سيحدث الإيرانيون ثغرة إضافية بين إدارة بايدن وحليفيها الإقليميين. وفي هذا الصدد، بدأت فجوة تظهر بمجرد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، وهو فوز استقبله نتنياهو ومحمد بن سلمان بقليل من الحماسة والدفء. منذ ذلك الحين، وكما كتب عاموس هارئيل، المحلل العسكري في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، يتعمد نتنياهو “تسخين الأجواء مع اقتراب دخول بايدن إلى البيت الأبيض”. وقد قامت إسرائيل بموافقة من القاهرة بإرسال غواصة عبر قناة السويس باتجاه الخليج. وأكد نتنياهو أمام طلاب مدرسة الطيران العسكرية أن إسرائيل ستمنع في كل الظروف إيران من امتلاك أسلحة نووية (…).
تريتا بارسي: أمام بايدن خمسة أشهر فقط، إلى غاية الانتخابات في إيران، لتطهير العلاقة الأمريكية الإيرانية من الإرث الذي خلفه ترامب. فإذا تخلى عن ذلك، أو إذا تعثرت المحادثات، فإن هذه العلاقة “ستعرف تدهورا خطيرا مما يزيد بشكل كبير في احتمال نشوب حرب”
إذا كان جو بايدن مصمماً على العودة إلى اتفاق مع طهران، يتعين عليه إذن مواجهة الإسرائيليين. أهو مستعد لذلك؟ ماذا سيقدم لهم، إذا اقتضى الأمر، لجعلهم يرضخون؟
يسجل بايدن نفسه ضمن تقليد كان فيه حزبه الديمقراطي تاريخيًا الأكثر تفضيلًا لإسرائيل في الولايات المتحدة، وذلك قبل تشكيل تحالف شبه انصهاري بين اليمين الجمهوري الأمريكي والراديكالي، سواء أكانوا من الإنجيليين أو القوميين، واليمين الإسرائيلي الاستعماري المتطرف، وكلاهما يعرف نموا قويا في بلديهما (…).
بتعيينه لأنطوني بلينكن في وزارة الخارجية، كان من الصعب على بايدن أن يكون أكثر لطفًا مع الإسرائيليين. وقد صرحت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية السابقة لأرييل شارون، وهي من اليمين الوسط، بأنه الخيار “الأفضل” لإسرائيل. وقال دوري غولد، وهو منظّر من اليمين الاستعماري المقرب جدا من نتنياهو بأنه “مطمئن”. بعد بيل كلينتون الذي رفضه اليمين الإسرائيلي، وباراك أوباما الذي كانوا يكرهونه، ها هو جو بايدن، من خلال تسمية بلينكن، يبدو لهم أكثر تفهمًا. بلينكن لم يثن على نقل ترامب للسفارة الأمريكية إلى القدس فحسب، بل قال أيضًا إنه مؤيد “للحفاظ على اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج […] لدفع هذه الدول ليكونوا فاعلين مثمرين في جهود السلام الإسرائيلية الفلسطينية” (…).
خمسة أشهر لاتخاذ قرار
باختصار، بلينكن الذي لعب دورًا رائدًا في المرحلة النهائية لإعداد الاتفاقية النووية مع إيران في عام 2015، يعتقد أو يريد الإقناع بأن بإمكانه التوفيق بين إعادة الارتباط مع إيران والحفاظ على المصالح الإسرائيلية كما يراها الاسرائيليون ولجم محمد بن سلمان. بعبارة أخرى، فهو ينوي أولاً طمأنة الكونغرس الأمريكي (الداعم بلا شروط لإسرائيل والمعادي جدًا لطهران ولكن أيضًا للرياض). قد يتيح ذلك القيام بسياسة اتِّصال ولكن ليس بدبلوماسية متماسكة.
الصعوبة الرئيسية التي تواجهها إدارة بايدن هي أن التحالف الذي أقامه ترامب في الشرق الأوسط بين كل أولئك الذين يفكرون مثله “بلدي أولاً”، يبدو قائما على مصالح مشتركة قوية نسبيًا. تحالف يجمع دولة، إسرائيل، التي لديها الكثير مما تقدمه لأصدقائها الجدد بدءا من فتح العديد من الأبواب في واشنطن إلى توريد معدات متخصصة للغاية للمراقبة الإلكترونية للمواطنين، وأنظمة أظهر “الربيع العربي” الأخير مدى خشيتها من انتفاضة شعوبها. يبدو هذا التحالف أيضًا أكثر تماسكًا وأسهل للتجسيد من مشروع إعادة توازن القوى بين الأطراف في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، يرى تريتا بارسي، محلل إيراني يعيش في الولايات المتحدة (وهو رئيس سابق للمجلس الوطني الإيراني – الأمريكي)، بأن أمام بايدن خمسة أشهر فقط، إلى غاية الانتخابات في إيران، لتطهير العلاقة الأمريكية الإيرانية من الإرث الذي خلفه ترامب. فإذا تخلى عن ذلك، أو إذا تعثرت المحادثات، كما يقول، فإن هذه العلاقة “ستعرف تدهورا خطيرا مما يزيد بشكل كبير في احتمال نشوب حرب”.
(*) ينشر بالتزامن مع موقع “أوريان 21“