رياض سلامة على حافة تيتانيك سعر صرف الليرة اللبنانية  

في مقابلته مع قناة "فرانس 24"، لم يقل حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة جديداً بحديثه عن إنتهاء عصر تثبيت سعر صرف الليرة. أما إستدراكه التوضيحي، عبر "رويترز"، بالقول "إن ذلك مرتبط باتفاق مع صندوق النقد الدولي"، فهو لزوم ما لا يلزم. لماذا؟

لأن اللبنانيين دفعوا القسط الأول، من فاتورة فك ربط عملتهم بعملة العم سام، تضخماً وإنهياراً تجاوز الخمسين في المائة من قيمة رواتبهم ومدخراتهم واستثماراتهم وجنى عمرهم ومستوى معيشتهم (وربما من كرامتهم)، ويعرفون ضمناً أن القسط الثاني يستحق في 2021.

بهذا المعنى، شكّل تصريح رياض سلامة، برغم التوضيح، بداية مقاربة رسمية جريئة لحقيقة تنفجر معها هواجس لبنانيين لا يلوون حالياً على شيء سوى التندر بفقاعات التصريحات هرباً من الإعتراف بالواقع المرير الذي بدأوا التعايش معه صاغرين خوفاً من الأسوأ منه أو في انتظاره.

وللتذكير، لم يكن سلامة إلا خادماً مطيعاً ثم شريكاً مضارباً لنظام سياسي استقر رأيه المسطح في العام 1997 على ضرورة تثبيت سعر صرف الليرة في ما يشبه رشوة اللبنانيين من صغار الكسبة بكسرة خبز، وكبار حيتان المال والمصارف بهبرة دسمة، وما بينهما من شرائح طبقة وسطى ومهن حرة فضلاً عن المغتربين بما تيسر من مغانم آنية، جعلتهم ينعمون بنمط حياة هذا النظام المالي.. حتى وجدوا أنفسهم فجأة في العراء!

أرادوا آنذاك، بالقوة التواطؤية لشراء الوقت، وبعدما تبخرت اضغاث أحلام الرهان على السلام في المنطقة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، جعل الليرة وعاءً ادخارياً واستثمارياً آمناً متجاهلين أو طامسين حقيقة الأمواج المتلاطمة، سياسياً وأمنياً، وغافلين عن الاقتصاد الهش المفتقد لأدنى مقومات الانتاج الحقيقية.

سريعاً وصل الخيار الى استحقاق الحائط المسدود في العام 2000، أي بعد 3 سنوات فقط على قرار التثبيت الخاطئ. فالاقتصاد راكد وعجز الميزانية فالت، والدين العام متضخم والميزان التجاري مختل والاستثمار منكمش. واذا كان لا بد من رقم أو مؤشر واحد معبّر، فهو نسبة الدين إلى الناتج التي بلغت 151 في المائة مع نهاية العام 2000، والتهمت خدمة الدين سنتذاك 90 في المائة من الايرادات العامة، بفعل مغامرة الفوائد العالية لتثبيت سعر الصرف، فبدأت الحلقة الجهنمية بصرف ما لا نملكه.

في كل مرة يتعثر فيها الاصلاح، كان رياض سلامة ينبري لضخ مصل مالي في شرايين اقتصادية يابسة وسياسية مثقوبة، مستخدماً سياسات نقدية وهندسات مالية تحولت تدريجياً الى مخطط “بونزي”، او ما يعرف باللبناني بـ”تركيب طرابيش”

علت صرخات ضرورات الاصلاح، فابتدع  الرئيس الشهيد رفيق الحريري بمساعدة صديقه الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك فكرة عقد مؤتمر لدعم لبنان عرف بإسم “باريس 1” في مطلع 2001. وكان الغرض جرعة اوكسجين مالية تحول دون اختناق النظام آنذاك. ثم كرت سبحة المؤتمرات الانقاذية المماثلة في “باريس 2″ و”باريس 3” وصولاً الى “سيدر” في العام 2018.

وفي كل مرة يتعثر فيها الاصلاح، كان رياض سلامة ينبري لضخ مصل مالي في شرايين اقتصادية يابسة وسياسية مثقوبة، مستخدماً سياسات نقدية وهندسات مالية تحولت تدريجياً الى مخطط “بونزي”، او ما يعرف باللبناني بـ”تركيب طرابيش”، يعطي المغفلين الداخلين الجدد الى المخطط الاحتيالي من مال المشاركين القدامى المنجذبين بالفوائد العالية على الليرة. وعند الاستحقاقات تتحول الليرات الى دولارات وهلم جرا.

وما كان الحديث في 2019 عن 170 مليار دولار ودائع بالعملة الاميركية الا كذبة هائلة لأن أصل الأموال أقل بكثير، وما التراكم الدفتري الا فقاعة نشهد انفجارها الآن مع تبخر 35 في المائة منها في سنة واحدة، والحبل على الجرار.

استمرأ سلامة، في مدى ربع قرن، لعبة بوكر يضع قواعدها ويوزع أوراقها على السياسيين الكارهين للاصلاح والمصرفيين الجشعين فضلاً عن اللبنانيين الراضين بما قسمت لهم الدولة الريعية والزبائنية من رواتب ومداخيل قيمتها الشرائية متماسكة فبنوا البيوت وضاربوا بالعقارات واشتروا السيارات، ومنهم من سافر للسياحة والاستجمام وبالغ في الاستهلاك المفرط الى آخر الأنماط البذخية و”التشبيحية” المبنية على سراب قوة الليرة اللبنانية.

أما وقد سقط مخطط بونزي (الاحتيالي) فعاد كل الى حساباته على طريقة “اللهم نفسي”. فالسياسيون لاهون بمصيرهم وكيفية الحفاظ على بعض مكتسباتهم لا سيما الطائفية والزعاماتية منها، والمصرفيون يهربون الأموال  وينفضون يدهم من المسؤولية ليلقون بها على الدولة ومصرف لبنان وعموم اللبنانيين الذين يندبون حظهم العاثر من أفعال هذا وذاك.

سنشهد في الأشهر المقبلة محاولات نظرية جديدة لترشيد الدعم تفتقد جرأة الاقدام عليها خوفاً من هبوب ثورة اجتماعية لا تبقي ولا تذر، وخير دليل رمي كرة رفع الدعم بين حكومة تصرف الأعمال وحكومة لا يبدو أنها ستولد في المدى القريب

عملياً، لم يبق في الميدان إلا “حديدان”، أي رياض سلامة، بعدما تهشمت صورته على صخرة بعض الاعلام اللاذع عن حق، ولم ينفعه إعلام حاول الدفاع عنه، فسقط الاثنان في لجة لهب الصدقية المحترقة. وما قبوله خلال الأشهر القليلة الماضية بمقابلات مع عدد من وسائل الاعلام العربية والغربية إلا لتبييض صفحته، بعدما أصبحت الفضيحة المالية اللبنانية مضرب مثل سيء جداً حول العالم. وفحوى الرسائل التي يريد من خلالها سلامة حفظ ماء وجهه هي أن الكرة، كانت وما زالت، في ملعب سياسيين اخلوا بتعهدات الاصلاحات المطلوبة منهم منذ 20 سنة، وان اللبنانيين (واقتصادهم!) استفادوا كثيراً من مرحلة تثبيت الصرف، وان على المصرفيين هيكلة مصارفهم، وانه هو الملاك الحارس للهيكل المتداعي.

إقرأ على موقع 180  أميركا و"نورد ستريم - 2"... خيارات محدودة

ما نحن فيه اليوم هو نصف تحرير لسعر صرف ليرتنا على الطريقة اللبنانية الغريبة بانصاف الحلول، ما يضع مصرف لبنان أمام معضلة أيضاً في 2021 التي يحتاج فيها من 6 الى 7 مليارات دولار لدعم استيراد المحروقات والأدوية والقمح وبعض السلع الغذائية ودعم كهرباء لبنان وبعض القطاعات الانتاجية. انها المرحلة ما قبل الأخيرة من عمر سعر الـ 1500 ليرة للدولار الواحد لسببين: الأول، الإبقاء الى حين على دعم أسعار سلع وخدمات أساسية بانتظار حكومة جديدة تفتح تفاوضاً مع صندوق النقد قد يمتد الى 2022، والثاني، تأجيل أي قرار صعب الى حين التفاهم السياسي المطلق عليه. ما يعني حكماً المساس بالاحتياطي الالزامي، وسنشهد في الأشهر المقبلة محاولات نظرية جديدة لترشيد الدعم تفتقد جرأة الاقدام عليها خوفاً من هبوب ثورة اجتماعية لا تبقي ولا تذر، وخير دليل رمي كرة رفع الدعم بين حكومة تصرف الأعمال وحكومة لا يبدو أنها ستولد في المدى القريب.

إذاً، المشهد خلال السنة الثانية من عمر الأزمة الطاحنة يبدو كالآتي: التيتانيك، وبعد اصطدامها في 2020 بجبل الجليد، تتداعى أركانها وتتهالك جنباتها رويداً رويداً بانتظار بداية الغرق في 2021 (لكن من دون أوركسترا كما قال وزير خارجية فرنسا)، على أمل نجاة من يستطيع النجاة من ركابها. سلامة مع سياسيين ومصرفيين وتجار وكبار نافذين في مراكب نجاة صغيرة يريدون القفز بها من التيتانيك، لكنها لا تتسع لهم جميعاً، وقد نشهد تصفيات في ما بينهم. بقية اللبنانيين المساكين في مراكب أقل عدداً تضيق متونها لحملهم جميعاً بطبيعة الحال وسيدفعون ما تبقى من ثمن تثبيت سعر الصرف ليتحولوا اعتباراً من 2022، تحت عنوان شبكة الحماية الاجتماعية المزمع توفيرها، من الاستهلاك الى الكفاف بانتظار انتهاء السنوات العجاف.

في الأثناء، الجميع بانتظار غوث التيتانيك اللبنانية من الخارج، بيد أن البوارج القادرة على انقاذ ما يجب انقاذه تختار بانتقائية شديدة هذه المرة. خلاف ذلك علينا القبول بشطب 20 سنة من حياتنا والقبول بما كنا عليه في العام 2000 لنبني على الشيء مقتضاه بطريقة مختلفة تماماً كي لا يعيد التاريخ نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة، كما قال الرفيق كارل ماركس.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الشعبوية الترامبية تُقاتل حتى آخر نفس!