إذا ما تمّت المصادقة على تعيينه في مجلس الشيوخ، سيصبح وليام بيرنز أول دبلوماسي يرأس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
من هنا تنبع فرادة المساعد الأسبق لوزير الخارجية، الضليع في القضايا الشرق الأوسطية، ولا سيما الملف النووي الإيراني من جهة، وفي السياسات الروسية من جهة ثانية، لا سيما أن كل أسلافه كانوا إمّا سياسيين أو عسكريين أو رجال استخبارات.
ستكون المهمات الملقاة على عاتق هذا الرجل الستيني كبيرة للغاية، لا سيما ان دوراً محورياً سيقوم به، إلى جانب افريل هاينز، منسقة الاستخبارات الوطنية المعينة حديثاً، في كل ما يتعلق بتركة دونالد ترامب المثقلة بالكثير من التحديات.
السلسلة الأولى من تلك التحديات مرتبطة بأجهزة الاستخبارات الأميركية نفسها، التي يرى خصوم الرئيس المنتهية ولايته أنه همّشها إلى حد كبير، ولا سيما في تعيينه مايك بومبيو رئيساً لوكالة الاستخبارات المركزية، ربما فقط بسبب العداء الذي كان الأخير يكنّه للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون والذي تبدى بشكل خاص داخل اللجنة التي شكلها مجلس النواب الاميركي للتحقيق في الأحداث الدامية التي شهدها مقر البعثة الدبلوماسية الاميركية في بنغازي عام 2012.
السلسلة الثانية من التحديات مرتبطة بالسياسات الخارجية الاميركية، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، خصوصاً أن بيرنز يعتبر أحد مهندسي الحوار مع طهران، وفي ملف العلاقات الروسية-الأميركية، لا سيما أن الدبلوماسي السابق شغل في السابق منصب سفير بلاده لدى موسكو.
ومن الملفت للانتباه أن اختيار بيرنز حظي بتأييد واسع من قبل المشرعين الديموقراطيين والجمهوريين على حد سواء، وهو ما يشي بأن المصادقة على تعيينه في مجلس الشيوخ ستكون سهلة، فالسيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام أشاد علناً بقرار بايدن، وكذلك فعل المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية مايكل موريل، الذي أشار إلى أن بيرنز لطالما كان الخيار المفضل لديه في تولي هذا المنصب.
وبحسب ما قال بايدن، في قرار التعيين، فإنّ “بيل بيرنز دبلوماسي نموذجي يمتلك خبرة تمتد لعقود على الساحة العالمية في الحفاظ على أمن شعبنا وبلدنا… وهو يشاركني قناعتي العميقة بأن الاستخبارات يجب أن تكون غير مسيّسة، وبأن رجال الاستخبارات المكرسين لخدمة أمتنا يستحقون منا الشكر والاحترام”.
من الواضح أن كلمات بايدن الأخيرة كانت بمثابة تلميح إلى العلاقات المتوترة بين دونالد ترامب ومجتمع الاستخبارات طوال السنوات الأربع من ولايته، والتي طفت على السطح خلال قمة هلسنكي التي جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير في تموز/يوليو العام 2018، حين نفى ترامب بشكل قاطع أيّ تدخل روسي في الانتخابات الأميركية، مخالفاً بذلك التحليلات الصادرة عن أجهزة الاستخبارات الاميركية.
في مرحلة لاحقة، تضاعف التوتر حين اختار ترامب جينا هاسبيل رئيسة لوكالة الاستخبارات المركزية خلفاً لمايك بومبيو، برغم تورطها في فضيحة “الموقع الأسود” في تايلاند عام 2002، حيث تم تعذيب السجناء بطرق شنيعة بما في ذلك الاستجواب المترافق مع الإيهام بالغرق.
لكل هذه الأسباب، يبدو أن حيثيات اختيار بايدن لبيرنز في تولي المنصب الجديد تكمن في سعي الرئيس المنتخب لاعادة تطبيع العلاقات بين البيت الأبيض ومجتمع الاستخبارات عبر شخصية تحسن إدارة الملفات بدبلوماسية محترفة، فضلاً عن الخبرات الهائلة التي تمتلكها هذه الشخصية في اثنين من الملفات الأكثر حساسية في السياسة الخارجية الاميركية: الشرق الأوسط وروسيا.
في السجل الأكاديمي، درس بيرنز التاريخ، وحصل على دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أوكسفورد، وهو يجيد اللغتين الروسية والعربية. وأما سجله الدبلوماسي فيبدأ في العام 1982 حين بدأ العمل على الملف الشرق أوسطي، وبالتحديد الملف الإيراني، ثم شغل منصب سفير الولايات المتحدة في الأردن في أواخر التسعينيات، ومن ثم مساعداً لوزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، قبل أن تغير وجهته بوصلتها إلى روسيا، حيث شغل منصب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية بين العامين 2005 و2008.
منذ العام 2015، خرج بيرنز من السلك الدبلوماسي وهو يرأس حالياً مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”.
على مدار أكثر من ثلاثة عقود في وزارة الخارجية، تراكمت خبرات وليام بيرنز بجانب علاقته المباشرة بجو بايدن نفسه، حين ترأس الأخير لجنة الشؤون الخارجية المرموقة في مجلس الشيوخ. وكما يظهر اختيار العديد من مسؤولي الإدارة المستقبلية، فإن هذه الألفة غالباً ما كانت عاملاً محدداً للرئيس المنتخب.
عمل بيرنز مع جيك سوليفان عن كثب في فتح قناة سرية مع ايران في العامين 2011 و2012، ما سهل إبرام الاتفاق النووي
لا تقتصر هذه العلاقات القديمة على جو بايدن، بل تمتد إلى وزير الخارجية طوني بلينكين، وكذلك مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، الذي عمل معه بيرنز عن كثب في فتح قناة سرية مع النظام الايراني في العامين 2011 و2012، ما سهل إبرام الاتفاق النووي في العام 2015. وقد تكون هذه التجربة مثمرة، خصوصاً أن بايدن يريد التفاوض مجدداً على الاتفاق الذي خرجت منه الولايات المتحدة في عام 2018 بمبادرة من دونالد ترامب.
وخلال ندوة حوارية عقدت في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، قال بيرنز إن “استراتيجية الضغوط القصوى التي اعتمدتها إدارة ترامب كانت مجنونة للغاية”، مشيدًا بالموقف “المعقول” للمرشح الرئاسي حينها جو بايدن، لكنه حذر من أن العودة إلى الاتفاقية النووية “قد تكون أسهل بكثير في الكلام منه في التنفيذ”، وذلك بسبب “الضرر الذي حدث في السنوات الأخيرة”.
في جانب آخر، ربما يساعد تعيين وليم بيرنز في تهدئة الهواجس الروسية بشأن توجهات الإدارة الاميركية المقبلة، إن لجهة الصيت الطيب الذي يمتلكه هذا السفير السابق في موسكو، أو لناحية النهج البراغماتي الذي يمكن أن يبرّد بعض الرؤوس الأميركية الساخنة في ما يتصل بالعلاقات الأميركية الروسية.
في هذا السياق، كتب فيودور لوكيانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية في في روسيا، ورئيس تحرير مجلة “روسيا غلوبال أفيرز” أن “بيرنز كان بلا شك أحد أكثر السفراء الأميركيين احترافًا وملاءمةً لدى روسيا، وهو كان معروفاً كشخص متوازن” بالرغم من أنه واجه سنوات صعبة من تدهور العلاقات في عهد جورج بوش الابن.
ثمة نقطة أثارها بيرنز في الندوة المشار إليها سابقاً من شأنها أن تلخص نظرته إلى السياسة الخارجية في عهد جو بايدن. الدبلوماسي السابق حذر من “وهم القوة الذي يدفع البعض إلى الايمان بقدرة العصا السحرية على استعادة أميركا لعلاقاتها ونفوذها”… السبب بسيط للغاية وهو أن “العالم قد تغير”.