غاز وعثمانيون وإغريق: صداقات.. وعداوات!

تتميز تركيا، بحسب دراسة أعدتها وزارة الخارجية التركية في كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٨، بوجودها في منطقة تمتلك ٧٠٪ من إحتياطات الغاز و٧٢٪ من إحتياطات النفط.

منذ ذلك التاريخ، شرعت تركيا بتثبيت نفسها من ممر طبيعي، إلى ممر إلزامي بين الدول المصدرة وتلك المستهلكة للغاز بشكل خاص وتحديدًا في أوروبا. كما عملت أيضاً على تطوير قدراتها التنافسية في حقول الطاقة المتجددة من مائية وهوائية وشمسية وصولاً إلى الطاقة النووية.

تعبر تركيا خطوط غازية عديدة:

– خط “تاب” الذي ينقل الغاز الأذري إلى أوروبا ويتصل بخط “تناب” العابر من أذربيجان إلى جورجيا فتركيا عبر ٢٠ مدينة ليصل الحدود اليونانية.

– خط نقل شرق الأناضول من ايران إلى تركيا (تعرض للتفجير في آذار/ مارس ٢٠٢٠ وأعيد الضخ فيه في شهر تموز/ يوليو من العام نفسه).

– السيل الأزرق وهو خط غاز بحري أنشئ عام ١٩٩٧ وتوقف عام ٢٠٢٠ مع بدء العمل بخط “السيل التركي” العملاق (“Turk Stream”) الذي قام نتيجة خطأ قاتل إرتكبته بلغاريا، برفضها مد الخط الجنوبي للغاز الروسي عبر أراضيها بطلب أوروبي، حين إندلع النزاع الروسي مع أوكرانيا، فخطفت تركيا المشروع بالإتفاق مع روسيا ليسد نصف إحتياجات تركيا من الغاز الطبيعي وكافة إحتياجات دول شرق وجنوب أوروبا.

يبدو واضحًا السعي المصري الإماراتي اليوناني بدعم وإسناد سعودي فرنسي إسرائيلي لمد أنابيب غازية لا تعبر تركيا ولا تضع غاز شرق المتوسط تحت رحمة الأتراك

ضمن هذا السياق، يبدو واضحًا السعي المصري الإماراتي اليوناني بدعم وإسناد سعودي فرنسي إسرائيلي لمد أنابيب غازية لا تعبر تركيا ولا تضع غاز شرق المتوسط تحت رحمة الأتراك، خاصة مع إندلاع النزاع مع اسرائيل عام ٢٠٠٨ مروراً بسفينة مرمرة فالإفتراق والتنافس السياسي بين مصر والإمارات بعد سقوط حكم محمد مرسي في مصر في ٣ تموز/ يوليو ٢٠١٣ ومحاولة الإنقلاب الفاشلة في ١٥ تموز/ يوليو ٢٠١٦ في تركيا، ثم مع تصاعد التوتر بشكل عنيف مع فرنسا إيمانويل ماكرون في عام ٢٠١٩ بعد توقيع إتفاق ترسيم الحدود البحرية الليبية التركية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام (سجلت لدى الأمم المتحدة في ايلول/ سبتمبر ٢٠٢٠)، والذي تبعه إتفاق ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية في آب/ أغسطس ٢٠٢٠، وصولًا إلى إستحواذ تركيا على منظومة “إس ٤٠٠” التي باتت مصدر نزاع حقيقي مع الولايات المتحدة، ما إستدعى التقاط الفرصة والعمل على إنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط” والذي أعلن عنه رسميًا في أيلول/ سبتمبر ٢٠١٩ في القاهرة ويضم مصر والأردن وإسرائيل وفلسطين وقبرص اليونانية واليونان وإيطاليا برعاية أميركية.

وضمن هذا السياق أيضًا يجب فهم اللقاء أو منتدى الصداقة الذي عقد في أثينا يوم الخميس ١١ شباط/ فبراير ٢٠٢١ بحضور مصر والسعودية (الذي حتَّم حضورها غياب إسرائيل) والإمارات والبحرين (ومرور العراق من دون المشاركة) إضافة إلى اليونان وقبرص اليونانية وفرنسا، وغياب الأردن لأسباب مبهمة، إذ تسعى دولة اليونان إلى خلق خط غازي مواز لتركيا بالسياسة والإقتصاد وجر النفط والغاز إلى دول البلقان وسائر أوروبا.

وفي الوقت الذي تشعر فيه تركيا بالراحة في علاقاتها مع دول البحر الأسود، تتعقد الأمور بالنسبة إليها في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وذراعه بحر إيجه.

وبين العامين ٢٠٠٢ و٢٠١٦ أجرت تركيا واليونان ٦٠ جولة مفاوضات تعثرت نتيجة رغبة اليونان بزيادة مساحة منطقتها البحرية من عمق ٦ أميال إلى ١٢ ميلاً ما دفع تركيا إلى إرسال سفينة المسح “عروش ريس” إلى المنطقة المتنازع عليها في بحري إيجة والمتوسط، ما أدى إلى بعض المناوشات العسكرية.

سارعت اليونان إلى تعزيز علاقاتها الأمنية والعسكرية بفرنسا وإنضمت إيطاليا وقبرص إلى التدريبات العسكرية المشتركة في آب/ أغسطس ٢٠٢٠ والتحقت الإمارات بتلك التدريبات في شهر كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٠ كما عززت دولة اليونان تحالفها مع الولايات المتحدة من خلال إبرام اتفاقية لتوسعة الأنشطة في القواعد الأميركية في اليونان.

لم يكد يمضي حوالي الأسبوعين على اللقاء التركي اليوناني، حتى إستضافت أثينا لقاء منتدى الصداقة من دون دعوة تركيا إليه

تم إستئناف المفاوضات التركية اليونانية في مدينة إسطنبول في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير للعام ٢٠٢١، واعتبرت مصادر يونانية وقتها أن المرونة التركية ناتجة عن وباء كورونا وتأثيراته الإقتصادية الكارثية على تركيا، فضلاً عن التخوف التركي من فرض عقوبات أوروبية قاسية والسعي إلى إحتواء موقف الرئيس الأميركي جو بايدن المتصلب إزاء رجب طيب أردوغان.

منذ تولي كرياكوس ميتسوتاكس رئاسة الحكومة في اليونان، يعمل الرجل بلا ملل، لإستنهاض اقتصاد اليونان وبناء جسور تواصل إنقطعت مع دول غير أوروبية لتلمس فرص التعاون في مجالات الزراعة، الصناعة، الطاقة التقليدية والطاقة المتجددة.

ولم يكد يمضي حوالي الأسبوعين على اللقاء التركي اليوناني، حتى إستضافت أثينا لقاء منتدى الصداقة من دون دعوة تركيا إليه ويمكن تسجيل عدد من النقاط الملفتة للإنتباه:

  • هي المرة الأولى التي تشارك فيها دول من الخليج العربي (السعودية، الإمارات والبحرين) إلى جانب مصر (البلد الأكثر عدداً للسكان في المنطقة والصاعد نموًا اقتصاديا) وفرنسا إضافة إلى الدولة المضيفة، ما يعتبر خطوة أولى وكبيرة جدًا لإقامة تعاون بين شرق المتوسط والخليج العربي يطال جوانب إقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية.
  • كل الدول العربية المشاركة في هذا الإطار تقيم علاقات مع إسرائيل باستثناء السعودية، حتى أن اليونان بات من اقرب أصدقاء إسرائيل في منطقة حوض المتوسط.
  • كل المشاركين في منتدى الصداقة وقعوا على قانون البحار ودعموا حق اليونان في تمديد حدود مياهها الإقليمية من ٦ أميال الى ١٢ ميلًا بحريًا.
  • حضور فرنسا ومشاركتها كدولة فاعلة في الإتحاد الأوروبي والناتو يعطي بعدًا مختلفاً لإنشاء هكذا هياكل اقتصادية وعسكرية جديدة.
إقرأ على موقع 180  ما بعد دياب: الحريري يعود بتغطية دولية وعربية

في ختام إجتماعات “منتدى فيليا” (منتدى الصداقة) في العاصمة اليونانية، في 11 شباط/ فبراير 2021، قال وزير الخارجية اليونانية نيكوس ديندياس بأن منتدى الصداقة الذي ترعاه أثينا “يبتغي إحداث تغيير جوهري في السياسات الخارجية لبلاده”، وأشار إلى أن اليونان، عدا عن كونها دولة متوسطية وجزءاً من الفضاء الأوروبي، تريد أن تصبح جسراً بين شرق البحر المتوسط والخليج والبلقان وأوروبا.

إدارة بايدن تقليدية مؤسساتية أميركية تتطلع للتعاون مع أقوياء العالم لتحقيق أهداف استراتيجية اميركية أبرزها تحجيم الصين وإلى حد ما إضعاف روسيا، العدو التقليدي لأميركا

لم يتأخر رد فعل تركيا على لقاء أثينا، خاصة بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير خارجية اليونان في ختام اللقاء حيث شدّدت الخارجية التركية على أنه “لا يمكن لأي منتدى لا تشارك فيه أنقرة ولا القبارصة الأتراك أن يؤسس لآلية للصداقة أو التعاون بشكل ناجح وفعال لحل مشاكل المنطقة”.

ويأتي المنتدى، حسب الخارجية التركية، في فترة “تسعى فيها أنقرة إلى إقامة تعاون صادق وشامل في منطقة شرق المتوسط”.

سياسيًّا، تلتقي الدول المنضوية تحت راية “منتدى الصداقة” على أمور عدة:

١- كل هذه الدول وبنسب متفاوتة، متأذية من محاولات التدخل التركية في شؤونها من فرنسا إلى مصر والسعودية وحتماً اليونان.

٢- إلتقاء هذه الدول على رفض التنظيمات المتطرفة ووضع الإخوان المسلمين على رأس قائمة تلك الجماعات يضعها على سكة توافق سياسي ـ أيديولوجي إلى حد كبير.

٣- أزمة الغاز والتنقيب خلال السنتين السابقتين في شرق المتوسط، فرضت تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” في القاهرة لبناء خط غازي بحري يتجاوز تركيا.

٤- التلاقي و”التصادق” للتوازن مع التهديدات التركية والتي بلغت حد المناوشات العسكرية في المنطقة.

٥- كسر إحتكار نقل الغاز والنفط من الجنوب إلى الشمال.

٦- إعادة إحياء مفاهيم تاريخية حول علاقة اليونان من الإغريق إلى الأرثوذكس بالعالم العربي والإسلامي للتوازن مع محاولات إحياء العثمانية التركية.

من خلال ما سبق، تبدو كل عناصر المواجهة المتقابلة متوافرة من ثقافية وإقتصادية وسياسية ويبدو مقنعًا التوجس التركي حيث تؤشر مجريات التحركات في المنطقة إلى أن الجميع يعد العدة لإستقبال إدارة بايدن بتعزيزات تمنح كل طرف شروطًا افضل. فإدارة بايدن تقليدية مؤسساتية أميركية تتطلع للتعاون مع أقوياء العالم لتحقيق أهداف استراتيجية أميركية أبرزها تحجيم الصين وإلى حد ما إضعاف روسيا، العدو التقليدي لأميركا.

منتدى الصداقة “فيليا” خطوة نحو لفت نظر بايدن الذي لم يتواصل حتى الآن، لا مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ولا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقطعًا ليس مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.. حتى الآن.

Print Friendly, PDF & Email
خلدون الشريف

كاتب سياسي لبناني

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  سنة المهدي بن بركة.. الميلاد، الجريمة والأدوار