لاحت تباشير فتح الأبواب بين القاهرة واسطنبول إنطلاقًا من حاجات ليست بالضرورة متصلة بالجانبين وحدهما. التبدل الذي حصل في الإدارة الأميركية من جهة وما يجري من تطورات غازية في الحوض الشرقي للمتوسط من جهة ثانية، ناهيك عما يتصل بملفات ليبيا وفلسطين.. والأهم الملف السعودي ببعديه اليمني والأميركي. فما هي التقاطعات الواقعية بين الجانبين؟
أول التقاطعات من الحيز المتوسطي. ففي ١٨ شباط/ فبراير الماضي، ومع فتح مصر باب المناقصة الدولية لتلزيم أعمال التنقيب في ٢٤ رقعة في المنطقة الإقتصادية الخالصة، تسع منها في البحر المتوسط، ١٢ في الصحراء و٣ في خليج السويس، أكدت القاهرة إحترامها للجرف القاري التركي، فاتحة المجال أمام تفاهمات أوسع، وقد سارعت تركيا إلى تلقف الإشارة المصرية فأطلقت عملية تقارب مع الدولة العربية الأكبر والتي تجمعها معها أوسع حدود بحرية على المتوسط. هذا المسار التقاربي شكّل عنصر ارتياب وقلق للجانب اليوناني، فكتبت صحيفة “ذا انديكيتور” اليونانية أن أثينا تلقت معلومات حول قرب توصل مصر إلى اتفاق مع تركيا بشأن ترسيم حدودها البحرية، وأن هذا الاتفاق سيلحق ضررا بالمصالح اليونانية مستقبلاً، مضيفة أن “المشكلة تكمن في أن الخطوط الرئيسية لإحدى المناطق البحرية في المتوسط لم يتم التعامل معها كما هو متفق مع اليونان، بل يبدو أنها تم تنظيمها مع تركيا”. وبالفعل، وقّعت مصر في آب/ أغسطس ٢٠٢٠، اتفاقية لترسيم حدودها البحرية مع اليونان، لكنها حذفت منطقة مثيرة للجدل إلى الجنوب من جزيرة كاستيلوريزو، وهي أبعد موقع يوناني تقول تركيا إنه يقع داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة، بحسب وكالة بلومبيرغ.
وتكمن المفاجأة، بحسب محللين، في أن اتفاق تعيين الحدود البحرية الموقع بين مصر واليونان كان يتضمن ثغرات تعمدت مصر خلقها، تمهيدًا لإمكانية تعديل الاتفاق إفساحًا في المجال أمام دخول تركيا طرفًا فيه، وعلى قاعدة أن الاتفاق مع اليونان “جزئي” وأن تعيين الحدود “ليس نهائيًا” وسيتم استكماله لاحقًا بل حتى تعديله “إذا ما دخلت مصر أو اليونان في مفاوضات مع دول أخرى تشترك مع أحد طرفي الاتفاقية في مناطق بحرية”. وفي هذا الإطار، فُهِمَ ان الطرف المقصود مصريًا ليس إلا تركيا.
يعتبر المحللون أن الأمر الوحيد المقبول مصريًا، هو التوصل إلى اتفاق يرضي الجميع ويسهم في تخفيض التوترات وتهدئة الأوضاع في شرق المتوسط
الاسرائيليون بدورهم إرتابوا. وقالت صحيفة “جيروزاليم بوست” إنه لا يوجد دليل حتى الآن على أن أنقرة والقاهرة قد توقعان إتفاقًا بشأن الحدود البحرية، مضيفة أنه سيكون من الغريب أن تتراجع مصر فجأة عن سنوات من السير في مسارها مع اليونان وقبرص والمضاد للتوجهات التركية، لتنخرط بدلًا من ذلك في صفقة تنكر مطالب قبرص الاقتصادية وتضر باليونان.
ويجزم خبراء ومحللون مصريون، أن مصر لن تقدم على خطوة تضر بعلاقاتها مع كل من اليونان وقبرص وإسرائيل خاصة بعد “منتدى فيليا” الذي عقد في ١٢ شباط/ فبراير ٢٠٢١ بحضور وزراء خارجية اليونان والسعودية ومصر والبحرين والإمارات وقبرص وفرنسا، كما بعد إعلان الأول من أذار/ مارس ٢٠٢١ يوم دخول ميثاق “منتدى غاز شرق المتوسط” حيز التطبيق. هذا المنتدى الذي تأسس في كانون الثاني/ يناير ٢٠١٩ والذي يضم اليونان وايطاليا وقبرص ومصر والأردن وفلسطين اضافة إلى اسرائيل. ويعتبر المحللون أن الأمر الوحيد المقبول مصريًا، هو التوصل إلى اتفاق يرضي الجميع ويسهم في تخفيض التوترات وتهدئة الأوضاع في شرق المتوسط، علمًا أن الحكومتين التركية والمصرية تدركان أن “بيت القصيد” هو في واشنطن: “على الأميركيين تعديل قانون البحار وإيجاد وضع خاص لتركيا يتيح لها مدى حيويًا بحريًا، بعدما سلبتها إتفاقية لوزان الكثير من حقوقها البحرية”.
ثاني التقاطعات من الساحة الليبية. جرت مفاوضات متعددة الأطراف في جنيف وكان الطرفان الأكثر نفوذًا فيها هما الجانبان المصري والتركي، وأفضت في الخامس من شباط/ فبراير ٢٠٢١ إلى تكليف عبد الحميد الدبيبة تأليف حكومة الوحدة الوطنية الليبية التي نالت ثقة البرلمان بأغلبية ١٣٢ صوتًا في العاشر من شهر آذار/ مارس الحالي. “إنجاز” ما كان مُمكنا لولا التفاهم المصري التركي، الذي ساهم في حياكة بعض خيوطه رجل الأعمال علي ابراهيم الدبيبة (صهر عبد الحميد الدبيبة) أحد أكبر أثرياء ليبيا الذي يتمتع بعلاقات ممتازة مع الروس والمصريين والأتراك في آن معاً. على الحكومة الليبية الجديدة أن تراعي مصالح مصر وأولها أمنها القومي المهدد من خلال الحدود الغربية بالسلاح والمسلحين، قضية النفط، حماية العمالة المصرية وأن تكون مصر شريكة مستقبلا في أي مشروع لإعادة إعمار ليبيا.
إحتساب المصالح المشتركة بين البلدين يفضي حُكمًا إلى صياغة تفاهمات قد لا تطال كل الجوانب إذ من الطبيعي أن تبقى مسائل خلافية يتصل بعضها بجوانب شخصية لكن المصالح تبقى المحرك الأساسي في العلاقات بين الدول وصيانتها قد تتطلب تنازلات وتضحيات عدة، ولا يبدو أنها قريبة المنال
ثالث التقاطعات من فلسطين. رعاية أنقرة والقاهرة للمصالحة بين حركتي فتح وحماس وباقي الفصائل الفلسطينية. ففي الرابع والعشرين من شهر ايلول/ سبتمبر 2020، أفضت مفاوضات الأيام الثلاثة في إسطنبول إلى اتفاق فتح وحماس على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بعد 15 سنة على آخر انتخابات، وساهم الأتراك في الدفع بإتجاه المصالحة، بالتنسيق مع الجانب المصري.
جاءت تلك المفاوضات بعد جلسة الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية التي عقدت بين بيروت ورام الله مطلع الشهر نفسه، وتبعتها لقاءات بين قادة فتح وحماس والفصائل الأخرى في القاهرة، كان آخرها الشهر الماضي، وأدت إلى تحديد اطار الإنتخابات وتأليف اللجان القضائية كما الإتفاق على كل آليات إجراء الإنتخابات، ومن المفترض عقد جلسة تنسيقية في السياق ذاته في 17 آذار/ مارس الجاري، تجري الانتخابات التشريعية في 22 مايو/ أيار 2021 والرئاسية في 31 يوليو/ تموز 2021.
رابع التقاطعات من سد النهضة. فقد أعلن المبعوث الشخصي للرئيس التركي إلى العراق، فيصل إيروغلو، أن بإمكان بلاده القيام بوساطة في أزمة ملف سد النهضة، استنادًا إلى عمق العلاقات التركية الأثيوبية ووزن وحضور تركيا الاقتصادي في أديس أبابا، علمًا أن عشر سنوات من المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان لم تكن كافية للتوصل إلى تفاهم بين دول المنبع والمصب.
يتقاطع هذا المناخ الجديد بين القاهرة واسطنبول مع إنفتاح سعودي تركي قد يفضي إلى تقارب أكبر، أو ينتكس تبعًا لإعتبارات لا تخص البلدين وحدهما، بل علاقة البلدين بالإدارة الأميركية الجديدة ومصلحة إسرائيل في مثل هذا التوافق برغم حرص تل أبيب على تقديم نفسها في موقع صاحب المصلحة في مثل هذا التقارب، من خلال ما أعلنه وزير طاقتها، عن استعداد بلاده للتعاون مع تركيا وأمله بانضمام أنقرة إلى منتدى غاز شرق المتوسط!
من الواضح أن السعوديين، وفي ضوء القرار الأميركي بوقف دعم حربهم في اليمن، يحتاجون إلى بدائل، أحدها تركيا. ما لا يدركه كثيرون أن إستخدام السلاح التركي وتحديداً المسيرات في حرب اليمن، لن يكون فعلًا تركيًا مُرحبًا به في واشنطن. لذلك، يمكن لهذا المسار أن ينتكس في أية لحظة.
يصح القول إن عودة العلاقات التركية المصرية، لن تكون مسألة سهلة. قضية الأخوان المسلمين قد تُمثل عائقًا في تطور هذه العلاقات، لكن المصالح تتقدم على العقائد. هذه هي حال تركيا التي توسع حضورها ونفوذها في السنوات الأخيرة من ليبيا إلى القرن الأفريقي وصولًا إلى غزة، وكلها صارت مناطق إشتباك بين المصريين والأتراك، كما خطوط النفط والغاز وترسيم شرق المتوسط حيث لا تريد تركيا حصتها فحسب بل تريد تقاسمًا مختلفًا للمواقع وللنفط والغاز، مع ما يعنيه ذلك من دوس على أقدام اليونان وإيطاليا كما إسرائيل وبالنهاية فرنسا أيضًا.
مصر وتركيا هما الدولتان الأكبر على هذا الحوض وتمتلكان الحدود الأطول بينهما وتسعيان لنفوذ أكبر. النوايا تبدو حسنة حتى الآن، لكن أية صياغة جديدة ومستدامة للعلاقة بين البلدين تحتاج إلى وجود مصلحة للطرفين حُكمًا. إحتساب المصالح المشتركة بين البلدين يفضي حُكمًا إلى صياغة تفاهمات قد لا تطال كل الجوانب إذ من الطبيعي أن تبقى مسائل خلافية يتصل بعضها بجوانب شخصية لكن المصالح تبقى المحرك الأساسي في العلاقات بين الدول وصيانتها قد تتطلب تنازلات وتضحيات عدة، ولا يبدو أنها قريبة المنال.