بعبارات متشابهة بألفاظها ومعانيها ورسائلها، تبارى المتحدث باسم الرئاسة التركية «إبراهيم قالين»، ووزير الدفاع «خلوصى آكار»، ووزير الخارجية «مولود جاويش أوغلو» فى الدعوة إلى فتح صفحة جديدة مع مصر و«عدد من دول الخليج».
كان ذلك تحولاً جوهرياً فى لغة الخطاب السياسى، يعاكس ما تبناه القادة الأتراك فى السنوات التى أعقبت (30) حزيران/ يونيو (2013) وإطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» من الحكم فى مصر.
لا تنشأ تحولات الخطاب السياسى دون مقدمات تدعو إليها وحسابات وتوازنات قوى ومصالح لا يمكن تجاهلها.
هناك عاملان رئيسيان من وراء الغزل التركى بالتودد إلى مصر ودول الخليج:
الأول، داخلى باتساع نطاق حالة عدم الرضا على السياسات الإقليمية التى يتبعها الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» إلى داخل حزبه نفسه، فليست هناك مصلحة تركية فى الدخول بمنازعات استراتيجية مفتوحة مع مصر ولا خسارة المصالح الاقتصادية مع الخليج.
الثانى، دولى باختلاف المعادلات فى عالم يتغير تحت ضربات الجائحة والانتقال من ولاية إلى أخرى فى البيت الأبيض الأمريكى.
لا يوجد ما يطمئن تركيا على ما قد تتبعه إدارة «جو بايدن» فى ملفات الشرق الأوسط ولديها خشية مسبقة من أن تجرى تسويات على حسابها فى حلف «الناتو» عند إعادة ترتيب أوضاعه تعبيرا عن التحالف الغربى، الذى تراجع بفداحة أثناء ولاية «دونالد ترامب»، أو فى الصراع على غاز شرق المتوسط لصالح اليونان وقبرص وفرنسا بالتداخل.
باستثناء أزمة الاتفاق النووى الإيرانى، يصعب الحديث عن أية أولوية أخرى ملحة فى الإقليم على الأجندة الأمريكية الجديدة، وإذا ما استدعت الحوادث أدوارا أمريكية فى أية منازعات تفرض نفسها لا يمكن لأنقرة التعويل على أى دعم من البيت الأبيض.
هذه أجواء قلق استدعت مقاربات جديدة فى الخطاب السياسى.
الملف الأكثر إلحاحا، غاز شرق المتوسط ومناطق تعيين الحدود البحرية، وهو يكتسب أهميته القصوى من حجم حقول الغاز المتنازع عليها لاقتصادين منهكين
ما هو خاف فى الكواليس أكبر مما هو معلن أمام الميكروفونات والملفات المعلقة تطرح نفسها على الاختبار العملى.
هناك فارق بين نبرة الخطاب وجوهره، الأول ــ دعوة إلى صفحة جديدة من دون أن تتجاوز العناوين العامة.. والثانى ــ دخول فى الموضوع بمراجعة السياسات وحدودها وما قد تنطوى عليه من فرص مشتركة ومناطق ملغمة.
الملف الأكثر إلحاحا، غاز شرق المتوسط ومناطق تعيين الحدود البحرية، وهو يكتسب أهميته القصوى من حجم حقول الغاز المتنازع عليها لاقتصادين منهكين.
جرى تبادل رسائل عديدة معلنة وغير معلنة التزمت مصر خلالها بعدم الاقتراب من الجرف القارى التركى عند تعيين حدودها البحرية مع اليونان وقبرص.
كانت تلك رسالة إيجابية التقطتها أنقرة بالإشادة المعلنة وسط خضم الصراعات الجارية، التى كادت أن تفلت إلى مواجهات عسكرية مباشرة فوق الصحراء الليبية.
في الوقت ذاته، ألحت العاصمة التركية مرارا وتكرارا فى خطابها المعلن ورسائلها المتضمنة على أن اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع الحكومة الليبية السابقة احتفظت لمصر بكامل حقوقها الغازية.
وكانت تلك رسالة إيجابية لم تغفلها القاهرة برغم حدة المواجهات الاستراتيجية على غاز شرق المتوسط.
اعتبارات الأمن فرضت أولويتها فى رفض اتفاقيتى ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمنى العسكرى، التى وقعها الرئيس التركى مع رئيس حكومة الوفاق الليبية «فايز السراج» بلا سند شرعى يخوّلها عقد مثل هاتين الاتفاقيتين.
بلغة خرائط الغاز لم يحدث إضرار بالمصالح المصرية في ما توصل إليه «أردوغان» و«السراج».
وبلغة الأمن بدت اتفاقية التعاون الأمنى ضربا مباشرا على العمود الفقرى للأمن القومى تجعل حدود مصر الغربية تحت الانكشاف الكامل لضربات جماعات العنف والإرهاب، كما بدت أقرب إلى مشروع تدخل عسكرى تركى مباشر بالتدريب والتسليح وإرسال المقاتلين من سوريا لتغيير موازين القوى على الأرض فى ليبيا.
لأسباب استراتيجية وجدت مصر نفسها فى معسكر واحد مع قبرص واليونان. كلا البلدين على صراع موروث طويل ومعقد مع تركيا، تداخلت فرنسا فى الصراع لأسبابها ومصالحها وتواجدت إسرائيل وتناقضت مصالح بين الحلفاء المفترضين.
بطبيعة التحالف تبدت شروخ هنا وهناك وتعرض مشروع أن تكون مصر مركزا إقليميا للغاز لمنازعات وضربات من داخل ذلك التحالف، دعت تركيا للتفكير فى إعادة التمركز داخل سيولة المعادلات بخطاب سياسى جديد يتودد لمصر ودول الخليج لإنهاء عزلتها.
الاختبار الأساسى، الذى يطرح نفسه الآن لما يمكن أن يصل إليه الخطاب التركى الجديد، ما قد يحدث فى ليبيا خلال الفترة الانتقالية التى بدأت للتو، ومدى قدرة الحكومة الجديدة على الوفاء بمهامها المتوافق عليها دوليا فى نزع سلاح الميليشيات وتوحيد مؤسسات الدولة
لا يصلح هذا النوع من ألعاب السياسة لبدء أية صفحات جديدة تصحح علاقات الدول على أسس صحيحة وراسخة.
يصعب أن تتخلى مصر عن تحالفاتها مع اليونان وقبرص، برغم ما تنطوى عليه من تساؤلات، للدخول فى علاقة شراكة مع حليف غير موثوق به.
للشراكات أصولها وقواعدها.
باليقين فإن تحسين العلاقة مع تركيا خيار صحيح، بالنظر إلى حجمها ودورها فى الإقليم كأحد مكوناته الرئيسية.
وباليقين فإن القفز فوق الملفات المعلقة لا يساعد على أية تجاوز لأزمات الإقليم، التى تتداخل فيها تركيا، وأهم هذه الملفات نظرة تركيا لطبيعة دولتها، هل هى دولة أيديولوجية تتبنى الإسلام السياسى وتسعى لتأسيس دولة خلافة، أم أنها دولة طبيعية حديثة تعمل وفق القواعد الدولية المتعارف عليها بلا تحريض على عنف، أو تغول على حقوق دول الجوار كسوريا والعراق؟
التحفظ بالتساؤل ضرورى لجدية نجاح المسعى فى إغلاق صفحة من الصراعات الإقليمية وفتح أخرى على أسس صحيحة وفق المصالح المتبادلة.
هناك ما يؤشر بالتسريب إلى حوارات كواليس وتفاهمات أولية سعت إليها تركيا، وتفاعلت معها مصر، وألمت بها أطراف فى الخليج لم تتضح كامل صورتها.
الاختبار الأساسى، الذى يطرح نفسه الآن لما يمكن أن يصل إليه الخطاب التركى الجديد، ما قد يحدث فى ليبيا خلال الفترة الانتقالية التى بدأت للتو، ومدى قدرة الحكومة الجديدة على الوفاء بمهامها المتوافق عليها دوليا فى نزع سلاح الميليشيات وتوحيد مؤسسات الدولة.
الخطاب اختلف وبقى أن تتعدل السياسة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“