أعوام عجاف عاشتها المنطقة الشرقية من سوريا بين عامي 2005 و2010، شهدت خلالها حالة جفاف شديدة تسببت بأضرار بالغة في المحاصيل الزراعية وأضرت بنسبة كبيرة من الثروة الحيوانية، الأمر الذي أفقد مئات الآلاف مصادر رزقهم، ما شكل بمجمله “كارثة بشرية” دفعت قسماً كبيراً من سكان تلك المنطقة إلى النزوح نحو مناطق أخرى في الداخل السوري، الأمر الذي أدى بمجمله إلى خلل ديموغرافي واقتصادي يعتبره كثيرون أحد أبرز مسببات الأزمة التي ما زالت تعيشها سوريا حتى الآن.
كابوس الجفاف الذي ما زالت آثاره ظاهرة على المنطقة الشرقية في سوريا، برغم مرور بعض الأعوام الماطرة (مثل العامين الماضيين 2019 و2020)، عاد مرة أخرى هذا العام، بعدما انخفضت كميات الأمطار التي هطلت على المنطقة، ما أدى إلى نقصان شديد في المياه الجوفية وبعض السدود إضافة إلى خروج معظم المناطق البعلية (التي تعتمد في زراعتها على الأمطار) عن خريطة الإنتاج الزراعي، بالتوازي مع انخفاض منسوب نهر الفرات جراء حبس تركيا مياه النهر وتخفيض الكميات الموردة إلى سوريا إلى مستويات متدنية ألحقت بدورها أضراراً بالمناطق المروية، وبالثروة السمكية والحيوانية في المناطق التي تعتمد على مياه النهر.
وبحسب تقديرات وزارة الموارد المائية، انخفضت كمية الأمطار في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية بشكل كبير، ووصلت في بعض المناطق إلى نحو 70%، حيث لم تتجاوز الهطولات المطرية في دير الزور 35% من المعدل العام، وفي الرقة والحسكة 60% فقط، كما بلغت نسبة تخزين السدود نحو 55%.
شبح الماضي القريب
بعد التحسن الملحوظ في إنتاج القمح السوري خلال العامين الماضيين، وضمن خطط الحكومة السورية لزيادة الاعتماد على الذات على اعتبار هذا الأمر يمثّل الضمانة الوحيدة لمواجهة العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سوريا، أولت الحكومة السلع الاستراتيجية اهتماماً كبيراً حيث تصدر القمح قائمة هذه السلع، الأمر الذي دفع وزارة الزراعة السورية العام الماضي إلى الإعلان عن خطة واسعة لزيادة الاستثمار في القمح، وتسمية العام 2021 “عاماً للقمح”.
وبحسب وزارة الزراعة السورية، بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح هذا العام حوالي مليون و500 ألف هكتار، بموازاة مليون و400 ألف هكتار زرعت بالشعير، إلا أنها منيت بخسائر كبيرة نتيجة الجفاف والتغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة، حيث خرجت جميع الأراضي البعلية بموسم صفري تقريباً، كما أن المساحات الباقية المروية سيكون إنتاجها “أدنى” من الإنتاج المخطط، وفق وزارة الزراعة، لأسباب عدة، أبرزها الظروف الجوية ودرجات الحرارة و الصعوبات التي تواجهها وبينها أزمة الوقود التي تعيشها سوريا بسبب الحصار.
الضرر الكبير الذي لحق بالأراضي الزراعية دفع أصحابها إلى بيع محاصيلهم التالفة علفاً للحيوانات بمبالغ زهيدة، في حين ينتظر أصحاب الأراضي المروية محصولهم، أو ما يمكن أن ينتج منه، في وقت أعلنت فيه وزارة الزراعة أن النقص الحاصل سيتم تعويضه عن طريق الاستيراد.
وتستورد سوريا نحو200 ألف طن من القمح شهرياً بتكلفة 400 مليون دولار أميركي، وفق ما أعلن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية محمد سامر الخليل، العام الماضي.
وتشير تقديرات حكومية إلى أن سوريا تحتاج إلى أكثر من ثلاثة ملايين طن من القمح سنوياً بينها نحو مليوني طن لتأمين الخبز، بحسب عدد السكان الحالي، ونحو 360 ألف طن من البذار، و800 ألف طن للاستخدامات الأخرى من صناعة البرغل، والمعكرونة، والفريكة، والسميد، وغيرها، في حين تشير بعض التقديرات إلى أن حاجة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة (مناطق قسد، ومناطق سيطرة الفصائل في الشمال السوري) تصل إلى نحو مليون و200 ألف طن.
وقال وزير الزراعة السوري حسان قطنا، وفي تصريحات صادمة، إن سوريا “تواجه أخطر عام من ناحية انخفاض معدلات الهطولات المطرية والجفاف والتغيرات المناخية منذ عام 1953، لأنه جاء على كافة المحافظات في حين واجهت البلاد جفافاً مشابهاً في أعوام 1999 و2008 و2018 ولكنه أتى على محافظات محدودة فقط”.
تشير التقديرات الحكومية السورية إلى أن انتاج القمح هذا العام لن يتجاوز ربع إنتاج العام الماضي
بالإضافة إلى أزمة الجفاف التي تعيشها سوريا والأضرار البالغة التي ألحقتها بالزراعة، ثمة أزمة أخرى بدأ شبحها يطل برأسه مع اقتراب موسم الحصاد، حيث اندلعت حرائق واسعة في المحاصيل الزراعية في منطقة خان شيخون شمالي سوريا، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان الحرائق التي عانت منها سوريا خلال العامين الماضيين، والتي بلغ عددها العام الماضي وحده 2480 حريقاً، ألحقت أضراراً كبيرة بالإنتاج الزراعي وطالت نحو 252 قرية بينما بلغ عدد الأشجار المثمرة المتضررة مليونين و100 ألف شجرة.
“قسد” تستثمر في القمح
تشير التقديرات الحكومية السورية إلى أن انتاج القمح هذا العام لن يتجاوز ربع إنتاج العام الماضي، وبرغم ذلك بدأت “قسد” وبدعم أميركي استعداداتها لشراء القمح في مناطق سيطرتها بأسعار تفوق الأسعار التي حددتها الحكومة بنحو 250 ليرة سورية عن كل كيلو، في سيناريو مطابق للعامين الماضيين.
وكان مجلس الوزراء السوري أصدر قراراً في شهر آذار/مارس الماضي برفع سعر محصول القمح من 550 ليرة العام الماضي إلى 900 ليرة سورية هذا العام، قبل أن تقرر “قسد” تحديد سعر القمح ب 1150 ليرة في قرار صدر الشهر الماضي.
وتستثمر “قسد” ملف القمح وفق مسارين متوازيين، الأول سياسي ضاغط على دمشق التي تعاني حصاراً خانقاً، وآخر اقتصادي عن طريق جمع القمح وشحن كميات كبيرة منه إلى العراق لبيعه بأسعار مرتفعة، خصوصاً أن العراق يعاني بدوره ازمة غذائية كبيرة جراء العوامل الجوية والجفاف بسبب حبس تركيا مياه نهري دجلة والفرات.
كذلك، شهدت المناطق التي تسيطر عليها فصائل موالية لتركيا في الشمال السوري عمليات تهريب دورية لشحنات من القمح المزروع في تلك المناطق خلال العام الماضي، وهو ما يتوقع ان يتكرر هذا العام ايضاً.
وكانت سوريا حتى العام 2010 تحقق الاكتفاء الذاتي من القمح، بإنتاج يصل إلى نحو أربعة ملايين طن سنوياً، مع إمكانية تصدير 1.5 مليون طن إلى الخارج، إضافة إلى تحقيق أرباح عن طريق مبادلة القمح السوري الطري بالقمح القاسي الأقل سعراً، الأمر الذي كان يجعل الحكومة تحقق هدفين في وقت واحد: تحقيق الأرباح من جهة، وتأمين القمح اللازم لصناعة الخبز من جهة أخرى، (يستعمل القمح القاسي في صناعة الخبز).
تركيا مرة أخرى
تحبس تركيا منذ نحو أربعة أشهر مياه نهر الفرات، حيث يصل إلى سوريا أقل من 200 متر مكعب في الثانية من أصل 500 متر مكعب مفترضة، الأمر الذي ألحق أضراراً كبيراً بالقطاع الزراعي في سوريا، وتسبب بأضرار كبيرة في حوض النهر، بالإضافة إلى أضرار أخرى تتعلق بإنتاج الطاقة، وأضرار بعيدة المدى تتعلق بالأمن المائي.
وتعتبر سوريا من الدول الجافة وشبه الجافة، حيث بلغ متوسط العجز المائي بين عامي 2002 و2012 حوالي 1.5 مليار متر مكعب، وفق وزارة الموارد المائية السورية.
موجة الجفاف الحالية التي تعيشها سوريا، ما هي إلا بداية لسنوات أشد قساوة ما لم يتم التحرك بشكل فعلي لإيجاد حلول فعلية وعملية لأزمة المياه التي يتحكم بها الطقس والمزاج التركي
وتعتبر قضية نهري الفرات ودجلة إحدى القضايا الإشكالية بين كل من سوريا والعراق من جهة، وتركيا التي تتحكم بمياه النهرين من جهة أخرى، حيث ترفض تركيا الاعتراف بهما نهرين دوليين، وتقوم بشكل دوري بحبس مياههما على الرغم من وجود اتفاق سوري تركي تم توقيعه العام 1987 يقضي بأن تسمح تركيا بمرور ما لا يقل عن 500 متر مكعب في الثانية في نهر الفرات، على أن تمرر سوريا للعراق ما لا يقل عن 58 في المئة من هذه الكمية بموجب اتفاق لاحق تم توقيعه.
وتستثمر تركيا الحالة الأمنية التي تعيشها كل من الدولتان السورية والعراقية لأجل التحكم بكمية المياه، وزيادة حصتها لتحصين أمنها المائي عن طريق إقامة السدود (مشروع “GBA” المتضمن إقامة 22 سدا و19 محطة كهرومائية لاستصلاح 1.9 مليون هكتار على نهري دجلة والفرات)، في ظل الارتفاع المتواصل لدرجات الحرارة وموجات الجفاف التي تمر بها المنطقة، الأمر الذي أدى بمجمله إلى “كوارث بيئية وإنسانية” ظهرت بشكل جلي في العراق، المتضرر الأكبر، وألحق ضرراً بالغاً بسوريا، وسيكون تأثيره كبيراً على البلدين مع مرور الوقت.
ولعل موجة الجفاف الحالية التي تعيشها سوريا، وموجات الجفاف القاسية التي عاشتها قبل بضعة أعوام، ما هي إلا بداية لسنوات أشد قساوة ما لم يتم التحرك بشكل فعلي لإيجاد حلول فعلية لأزمة المياه المستمرة التي يتحكم بها مناخ تركيا ومزاجها!.