بايدن يغرق في أوروبا.. ويضل طريقه إلى آسيا!  

لا هدنة مع روسيا. هكذا يمكن تلخيص قمتي مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في لحف جبال الألب الألمانية وحلف شمال الأطلسي في مدريد. هذا يفترض أن الحرب في أوكرانيا طويلة، وأن على الغرب بناء حساباته على هذا الأساس وأن يستعد لأسوأ السيناريوات، كي لا تخرج روسيا منتصرة.   
نصّت العقيدة العسكرية الجديدة لحلف شمال الأطلسي التي صاغتها قمة مدريد على أن روسيا هي التهديد الأكبر للحلف، بينما إكتفى بالإشارة إلى أن الصين تمثل “تحدياً ممنهجاً”، من دون إغفال الرمزية التي مثّلها حضور رؤساء وزراء اليابان وأوستراليا ونيوزلندا للقمة الأطلسية. ومع ذلك، يبدو الغرب متردداً في خوض حربٍ على جبهتين.
بدا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكأنه الخروف الأسود في القمتين. وكانت الكلمات غنية بالتلميحات إلى ما قاله قبل أسبوع من قمة السبع، من أن على الأوروبيين أن يدركوا بأن “الجغرافيا عنيدة وأن روسيا في نهاية الأمر ستبقى هناك (في أوروبا)”. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عاجله بالقول، طبعاً وبتنسيق مع واشنطن، أمام قمة ألمانيا، بأن “الوقت ليس مناسباً” للديبلوماسية، وبأن كل ما تريده كييف من الغرب هو تزويدها بالأسلحة ولا شيء غير الأسلحة، كي تتمكن من قلب المعادلة في الميدان، لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يريد إخضاع أوكرانيا فحسب وإنما أوروبا بكاملها.
بطبيعة الحال، ساند رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كلام زيلينسكي بتحذير مبطن إلى ماكرون بقوله إن أي “حل تفاوضي الآن” مع روسيا سيؤدي إلى إطالة حالة “عدم الإستقرار العالمي”. وفي إشارة إسترضاء إلى ماكرون، قال جونسون إنه يؤيد فكرة الرئيس الفرنسي إنشاء “مجموعة سياسية أوروبية” تضم بريطانيا، التي خرجت من الإتحاد الأوروبي.
وبما أن الأجواء “حربية”، إستتبع ذلك من الرئيس الأميركي جو بايدن الإعلان عن تعزيز الوجود العسكري للولايات المتحدة في أوروبا، كماً ونوعاً، وإنشاء قاعدة عسكرية أميركية دائمة في بولندا للمرة الأولى منذ إنضمام هذه الدولة إلى حلف شمال الأطلسي عام 1997. ومن المتوقع أن تزيد الولايات المتحدة عديد جنودها في أوروبا إلى مئة ألف في المرحلة المقبلة، مقارنة مع 40 ألفاً قبل الدخول الروسي إلى أوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي. وهذا ما يتيح للحلف الأطلسي وضع 300 ألف جندي في حال تأهب قصوى.
لولا الإنفتاح الأميركي على الصين في سبعينيات القرن المنصرم، لما أمكن كسب الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات. أما الكلام عن “الورطة الأفغانية” بوصفها أحد أبرز أسباب تدمير الإتحاد السوفياتي، فلا يُبدل من حقيقة أنها كانت تفصيلاً أمام خطوة إستراتيجية تمثلت في التطبيع الأميركي-الصيني، وهنري كيسنجر لا يزال حياً يرزق!
بايدن، الذي إلتزم قراءة نصوص مكتوبة في كلماته، حتى لا تجرفه الحماسة بعيداً للتفوه بعبارات خارجة عن المألوف على غرار ما حصل في جولة أوروبية سابقة، كثّف جهوده الديبلوماسية خلف الكواليس لإقناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بإزالة إعتراضه على ضم فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي. وبحسب المعلن، فإن أردوغان حصل على ما يريد من فنلندا والسويد بالنسبة إلى ملاحقة ناشطي “حزب العمال الكردستاني” وأتباع الداعية فتح الله غولن. إنما المقايضة ربما تتعدى ذلك، إلى إعطاء ضوء أخضر أميركي لعملية عسكرية تركية جديدة في تل رفعت ومنبج في الشمال السوري، فضلاً عن تكثيف إدارة بايدن ضغوطها لإقناع الكونغرس بالمصادقة على صفقة مقاتلات “إف-16” لتركيا. بعد لقاء بايدن قال أردوغان إن بلاده تعمل على بناء جيش “من أقوى جيوش العالم”.
وبالنسبة إلى بايدن في اللحظة الحالية، فإن ضم فنلندا والسويد إلى الأطلسي، يُعتبر نصراً إستراتيجياً في مواجهة روسيا، تصغر عنده مسألة تسليم السويد 33 مطلوباً من كوادر “حزب العمال الكردستاني” لتركيا، أو ربما توسيع النفوذ التركي في شمال سوريا على حساب “حلفائه” في قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، أو حتى نسيان وصفه لأردوغان بأنه “مستبد”. في سبيل كسب الصراع الإستراتيجي ضد روسيا، تنحى المبادىء جانباً. وأصلاً هذا ليس بالأمر الجديد على أي رئيس أميركي، وليس حكراً على بايدن.
كان الأسبوع الأوروبي عاصفاً إلى درجة أنه لولا حضور قادة اليابان وأوستراليا ونيوزلندا للقمة الأطلسية، لكان في الإمكان الإستنتاج، بأن بايدن قد نسي “منافسته الشرسة” مع الصين، وأنه تفرغ بالكامل لأوروبا، وهذا في جانب منه صحيح. على الأقل، يسعى بايدن، في ذروة المواجهة مع روسيا، إلى عدم التصعيد أو مهادنة بكين. وعلى سبيل المثال، فإن الصين هي من الدول التي سيتصل بها الرئيس الأميركي في إطار مساعيه لوضع سقف لأسعار الطاقة الروسية، كوسيلة للحد من الموارد المالية للكرملين.
فهل وصلت الإدارة الأميركية إلى إقتناع بأن هزيمة روسيا ستكون مستحيلة من دون تحييد الصين؟
يتذكر صانعو القرار في الولايات المتحدة جيداً أنه لولا الإنفتاح الأميركي على الصين في سبعينيات القرن المنصرم، لما أمكن كسب الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات. أما الكلام عن “الورطة الأفغانية” بوصفها أحد أبرز أسباب تدمير الإتحاد السوفياتي، فلا يُبدل من حقيقة أنها كانت تفصيلاً أمام خطوة إستراتيجية تمثلت في التطبيع الأميركي-الصيني، وهنري كيسنجر لا يزال حياً يرزق!
وبينما كان بايدن يحشد الأوروبيين ويفاخر بوحدة غير مسبوقة عبر الأطلسي في مواجهة روسيا ودعماً لكييف، حتى لو تجمدت أوروبا من البرد في الشتاء المقبل، كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يحتفل في هونغ كونغ نفسها بذكرى مرور ربع قرن على إستعادة “التنين” الصيني الجزيرة من “الأسد” البريطاني، ويشيد بصيغة “دولة واحدة ونظامان”. وفي هذه الإشادة تلميح ضمني إلى مبدأ “صين واحدة” عندما تتحدث بكين عن جزيرة أخرى، هي تايوان.
وقبل أيام، دشّنت الصين حاملة الطائرات “فوجيان” بمواصفات تفوق حاملة الطائرات البريطانية “أليزابيث الثانية” ولا تباريها إلا حاملة الطائرات الأميركية “جيرالد فورد” التي لم توضع في الخدمة بعد. ذلك، بمثابة تذكير إلى مواصلة مسيرة الصعود الصيني، الذي يُهدّد الولايات المتحدة بخسارة آسيا التي تفوق أسواقها الأسواق الأوروبية أضعافاً مضاعفة. فهل ضلّ بايدن الطريق إلى آسيا وغرق في أوروبا؟
لعل بوتين عندما يتحدث عن أن حربه في أوكرانيا قد أنهت عهد القطب الواحد، إنما يشير إلى تحولات تقع الصين في صميمها، ولن يغير تكديس السلاح الغربي في أوكرانيا، أو ضم فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي، أو إسترضاء تركيا، وحتى عسكرة أوروبا كلها، من المعادلة الجديدة.. إلا إذا كانت أميركا قادرة على شن حرب على جبهتين.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  بيّون لـ 180: تركيا تبسط نفوذها القومي لا الديني
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  إلاّ الفلسطيني.. لا وطن له