يعود التعنّت الأميركي إلى سببين رئيسيين: الأول، عقائدي بمعنى أن النخب الحاكمة في الولايات المتحدة خاضعة لنمط فكري لا يستطيع التكيّف مع الظروف الموضوعية التي تحيط بتراجع مكانة الولايات المتحدة في العالم خاصة في ما يتعلّق بـ”خصوصيتها” و”استثنائيتها” و”قدرها المتجلّي”. فهي فوق الاعتبارات التي تسري على سائر الدول وبالتالي لا يمكن أن تخضع لها، بل على العكس، فالدول في العالم يجب أن تخضع للرأي الأميركي. كما أن الولايات المتحدة لا تكترث للعلل التي تنخر في جسدها والتي تفرز قيادات ونخب تتنافس بشدّة في رداءتها وعدم كفاءتها. المهم هو أن هذه النخب غير قادرة على القبول بأن العالم قد تغيّر وأن هناك دولاً حريصة على سيادتها واستقلالها، وهذا ما لا تستطيع الولايات المتحدة قبوله. فالدول الحريصة على السيادة تواجه سياسات الولايات المتحدة المجحفة بحقها وهذا ما يجعل الصدام حتمياً بينها.
السبب الثاني للتعنّت الأميركي يعود لبنية النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة. فالرئيس الأميركي جوزيف بايدن وصل إلى سدّة الرئاسة بعد تعثّر حملته الانتخابية ضد منافسه الديموقراطي برني ساندرز حيث كاد أن يخرج من الحملة لولا تدخل تحالف قوى داخلية متناقضة في أهدافها ولكنها مجتمعة ومجمعة على الإطاحة بدونالد ترامب. فالمرشح ساندرز يُشكل خطراً مباشراً على مصالح تلك النخب سواء أكانت ديموقراطية أو جمهورية وبالتالي كان القرار بأن جوزيف بايدن هو الأفضل.
وبعيداً عن الملابسات التي رافقت وتلت عملية الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 فإن الصراعات الداخلية ضمن القوى التي دعمت وصول بايدن تنعكس بشكل واضح على السياسة الخارجية الأميركية.
من هذه الزاوية، لا بد من تفكيك تلك المصالح لفهم ما يجري.
هناك المجمع العسكري الصناعي الذي كان مسيطراً لعقود من الزمن على القرار الخارجي الأميركي، وكان قد حذّر من خطورة هذا المجمع الرئيس الأميركي الأسبق دوايت ايزنهاور في خطابه الشهير عند تسليم الرئاسة للمرشح الفائز جون كندي. وهذا المجمع له امتدادات عميقة في الإدارة والجامعات ومراكز الأبحاث والاعلام والسينما والتلفزيون وشركات التكنولوجيا العملاقة، ما يجعل مصالحها ضاغطة بشكل مباشر على القرار الخارجي للولايات المتحدة.
تحالف هذه القوى الذي أوصل جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض هو الحاكم الفعلي للولايات المتحدة. غير أن مكوّنات هذا التحالف ليست متفقة في ما بينها وخاصة في بعض الطروحات والمشاريع التي يحاول بايدن تسويقها لإرضاء القاعدة الشبابية في الحزب الديموقراطي والتي تتماهى مع برامج ساندرز. فالتحالف أقصى ساندرز لصالح بايدن ولكن ليس لكي ينجز مشاريعه. من هنا نرى أن الخلافات بدأت تظهر إلى العلن في العديد من الملفات. ففي الملف الخارجي، يريد الرئيس الأميركي الانكفاء من الساحات الساخنة التي لا تتحمّلها قاعدته الشعبية، بدليل أن قراره بالخروج من أفغانستان يلاقي مقاومة من قبل البنتاغون. كذلك الأمر بالنسبة للوجود الأميركي في العراق. أما في ما يتعلّق بالعودة إلى الاتفاق النووي الذي خرج عنه سلفه دونالد ترامب فهو يلاقي دعماً فاتراً داخل النخب في إدارته.. أما الاستراتيجية التي تتبعها الإدارة الحالية، فهدفها محاولة إرضاء من يريد العودة إلى الاتفاق روحاً ونصاً وبين من لا يريد العودة ولا يريد رفع العقوبات.
هناك رأي قائل إن التصريحات “الإيجابية” حول مسار المفاوضات والصادرة عن الطرفين الروسي والإيراني هي خطوات استباقية لإبعاد تهمة الفشل المحتمل في المفاوضات عنهما وتحميلها إلى الطرف الأميركي
ما لاحظناه هو أن التعليقات الإيجابية على مسار مفاوضات فيينا تأتي في معظمها من مصادر روسية وإيرانية بينما لا نجد تلك الحماسة في الجانب الأميركي. بالعكس، يعكف المسؤولون في الإدارة وخاصة في وزارة الخارجية على الإيحاء بأن الأمور ما زالت معقدة وبعيدة المنال. لا يتكلمون عن فشل أو بلوغ الطريق المسدود إنما عن صعوبات من دون تحديد ماهيتها ومن يقف وراءها.
في هذا السياق، هناك رأي قائل إن التصريحات “الإيجابية” حول مسار المفاوضات والصادرة عن الطرفين الروسي والإيراني هي خطوات استباقية لإبعاد تهمة الفشل المحتمل في المفاوضات عنهما وتحميلها إلى الطرف الأميركي. بالمقابل، هناك رأي آخر يفيد بأن روبرت مالي كبير المفاوضين الأميركيين جاد في الوصول إلى اتفاق. لكن الوفد الأميركي بتركيبته غير منسجم مع رئيس الوفد ما يساهم في بروز العراقيل التي تواجهها المفاوضات. لا يجب أن ننسى أن نائب روبرت مالي هو ريتشارد نفيو الذي يعتبر نفسه مسؤولاً عن ابتكار سياسة العقوبات ضد سوريا، علماً أن تعيين نفيو نائباً لروبرت مالي شكّل محاولة لإحداث “توازن” مع الأخير المتهم بأنه من الحمائم في ما يتعلّق بالمفاوضات مع إيران.
ما يعزز المخاوف حول إمكان تعثّر المفاوضات هو تصريحات جاك سوليفان مستشار الأمن القومي وانطوني بلينكن وزير الخارجية. فالأول إعتبر في مقابلة بثتها محطة “أي بي سي” الأميركية ان “الغموض” يسيطر على المفاوضات وإستبعد التوصل إلى اتفاق في وقت قريب. صحيح أنه لم يعلن الفشل لأن ذلك يشكل هزيمة شخصية للرئيس الأميركي ولكنه لم يبدِ أي حماسة للموضوع. والغريب في ذلك التصريح أنه يتحدّث عن “غموض” وكأنه خارج إطار المفاوضات وهو الرئيس المباشر لروبرت مالي، فإن لم يكن يعرف ما يجري فهذه مشكلة وإن كان يعرف ولا يفصح فهي مشكلة أكبر. أما بلينكن فقد صرّح أن الولايات المتحدة “لن ترفع كل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب” إلى أن يتم التأكد من “تغيير في سلوك” الجمهورية الإسلامية في إيران. كما أضاف أن المباحثات لن تستمر إلى ما لا نهاية ما يدل على أن الوصول إلى اتفاق ما (أو العودة الى الاتفاق) ما زال بعيد المنال. والرد الإيراني جاء بسرعة ومماثلاً على لسان الناطق باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيبزاده بقوله إن إيران لن تفاوض إلى ما لا نهاية. وما يعزّز الشعور بالقلق حول مصير المحادثات هو إقدام الإدارة الأميركية على السيطرة على عدد من المواقع الالكترونية لوسائل إعلامية قريبة من الجمهورية الإسلامية في إيران، وكأنها إشارة “استقبال” للرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي!
السلاح النووي غير قابل للاستعمال من أي طرف عقلاني والجمهورية الإسلامية في إيران نموذج عن العقلانية التي ترعب الغرب والكيان. لكن الخطورة هي في الدور المركزي للجمهورية الإسلامية في المنطقة
عند هذه النقطة نسأل لماذا حرص الجانبان الروسي والإيراني منذ بداية المفاوضات على ترويج أجواء تفاؤلية بينما كان الجانب الأميركي يروّج أجواء متحفظّة إن لم تكن متشائمة؟
نعتقد أن الجانبين الروسي والإيراني على دراية بما يحصل داخل الإدارة الأميركية. هناك من يريد الاتفاق وهناك من لا يريد ذلك الاتفاق. يسري ذلك على إيران. هناك أيضاً من لا يريد الاتفاق. لكن الهدف الروسي والإيراني من ترويج الجوّ الإيجابي لمسار المفاوضات هو نزع الذريعة التي يمكن أن تروجها الإدارة الأميركية في تحميل مسؤولية الفشل إلى الجانب الإيراني. كلام بايدن يوحي بذلك وكذلك الأمر بالنسبة لسوليفان، لكن الرئيس الأميركي جعل من العودة الى الاتفاق ركيزة باكورة “إنجازات” ادارته في السياسة الخارجية. وقد نجح في تحييد موقف الكيان المحتل عبر إقصاء بنيامين نتنياهو عن موقع رئاسة الوزراء كما أن اعتراض بلاد الحرمين تم تحييده عبر رفع سقف قضايا حقوق الانسان وقضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي. لكن هل هذا يكفي للتغلّب على الدولة العميقة؟
البعض يسأل ماذا يستفيد المعارضون للاتفاق داخل الإدارة الأميركية؟ الإجابة بسيطة. هم يحافظون على مواقع لهم داخل الدولة العميقة عندما يخرجون من الحكم، فمراكز الأبحاث المموّلة من شركات التصنيع للسلاح تشكل فضاء مغرياً للعيش في مرحلة ما بعد الحكم، وشركات التصنيع للسلاح الحربي تستفيد من ترويج توترات لبيع الأسلحة للبنتاغون. أما تقديرات البنتاغون فهي تنطلق من إدارك مسبق لمخاطر المواجهة الشاملة التي قد تخسرها بعد تبيان الجدارة والكفاءة عند خصوم الولايات المتحدة الإقليميين والدوليين، وبالتالي يحرص البنتاغون على ألا تنزلق الأمور إلى حرب مفتوحة لا يستطيع تحديد مسارها ونتائجها. من هنا نفهم على سبيل المثال دور العدوان الأميركي الأخير في منطقة البوكمال: عمل عسكري محدود يرضي المجمع العسكري الصناعي الذي أوصل بايدن إلى سدّة الرئاسة.
المخاوف الأميركية من امتلاك إيران السلاح النووي امر مبالغ بها. هذه الاتفاقات في عهد باراك أوباما كان من بين أهدافها تشجيع وتمكين “الإصلاحيين” في الجمهورية الإسلامية في إيران وإيجاد مناخ وبيئة مناسبة للتحدّث في الملفّ الأساسي الذي يقلق الولايات المتحدة وهو أمن الكيان الصهيوني المحتل.
هناك دراسات عديدة في مراكز الأبحاث والبنتاغون تفيد بأن الولايات المتحدة تستطيع أن تتعايش مع “إيران نووية” وحتى الكيان الصهيوني المحتل. فالسلاح النووي غير قابل للاستعمال من أي طرف عقلاني والجمهورية الإسلامية في إيران نموذج عن العقلانية التي ترعب الغرب والكيان. لكن الخطورة هي في الدور المركزي للجمهورية الإسلامية في المنطقة وخاصة في محور المقاومة وبالتالي استمرار فرض الخناق عليها “مبرّر” من وجهة نظر أميركية وحتى صهيونية. لذلك لا نعتقد أن العودة إلى الاتفاق كما كان له جدوى من المنظور الأميركي وإن كان الرئيس الأميركي يريد ذلك ومعه جزء من القوى السياسية التي دعمته كالرئيس السابق باراك أوباما ورئيسة مجلس النوّاب نانسي بيلوسي. بالمقابل فإن أي اتفاق آخر خارج الإطار النووي من منظور إيراني غير قابل للنقاش خاصة في ظل العقوبات. فأمام هذا التناقض الجوهري لا ندري ما هي “العراقيل” التي يتحدّث عنها الأميركيون إلا الرغبة في عدم الوصول الى اتفاق وتحميل المسؤولية لإيران. الأسابيع المقبلة قد تظهر حقائق جديدة وتحدّد مسار ومصير المفاوضات في فيينّا أو في أي مدينة أخرى.