منذ أن أصبح سلمان بن عبد العزيز ملكاً للسعودية في مطلع العام 2015، قرر ولي عهد الإمارات محمد بن زايد أن يتقرب من نجله الأمير الشاب محمد وأن يحاول بناء جسور من الصداقة والثقة المتبادلة.
في الفترة الممتدة من كانون الثاني/يناير 2015 وحتى حزيران/يناير 2017، نجح بن زايد في هدم كل الرصيد الذي بناه محمد بن نايف في واشنطن. تعددت وسائل الهدم و”الإقناع”، وتداخل فيها الشخصي بالسياسي والمالي، وكانت خلاصتها الآتي: تعاملوا مع محمد بن سلمان بصفته الملك السعودي لخمسين سنة مقبلة. صرف الإماراتيون أموالا طائلة لمصلحة مجموعات الضغط الأميركية في واشنطن. أبرزوا صورة بن سلمان. شوّهوا صورة بن نايف. قالوا إن الأخير يتعاطى العقاقير المخدرة بشراهة. حاول الأميركيون في زيارات متتالية إلى الرياض التواصل مع محمد بن نايف لأجل مطابقة بعض المعلومات والتقارير التي كانت تصلهم تباعاً، فكانت النتيجة “محمد بن نايف يعتذر عن إستقبالكم بسبب إنشغالاته”، وهو الجواب الذي أعطته وزراة الخارجية السعودية لأكثر من مسؤول أميركي زار الرياض كما ورد في كتاب “الدم والنفط” للكاتبين برادلي هوب وجستن شيك (صحافيان في وول ستريت جورنال).
لم يكتف بن زايد بتمهيد الطريق أمام بن سلمان لإمساك عرش المملكة، بل تحوّل إلى وصي سياسي عليه. معظم التقارير الأميركية التي نُشرت في السنوات الأخيرة، أظهرت أن بن نايف كان معارضاً لخوض حرب اليمن، وأن بن زايد لعب دوراً مركزياً في تغليب وجهة نظر الحرب. كان الرجل مهجوساً من الإسلام السياسي ممثلاً بالإخوان المسلمين. يروي الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في كتاب مذكراته “الأرض الموعودة” أن بن زايد إتصل به في العام 2011 وحذّره من سقوط حسني مبارك، وقال أوباما عن ولي عهد الإمارات “إنه شاب وقريب من السعوديين وربما أذكى زعيم في الخليج العربي”، ونقل عن بن زايد قوله له “إذا سقطت مصر بيد الإخوان المسلمين هناك ثمانية قادة عرب آخرين في طريقهم للسقوط”!
بلغ الأمر بمحمد بن زايد في مرحلة “الربيع العربي” حد إعتقاده بأنه الزعيم العربي القادر على رسم صورة المنطقة لعقود مقبلة، من الخليج إلى المحيط.
عندما أفضت الإنتخابات الأميركية في العام 2016 إلى هزيمة هيلاري كلينتون أمام دونالد ترامب، قرر بن زايد نقل البارودة بسرعة. ألغى موعداً مع أوباما في البيت الأبيض لمصلحة التعرف على ترامب وفريقه ولا سيما صهره جاريد كوشنير، ونصح الرئيس المنتخب بأن يراهن على “محميته” محمد بن سلمان ملكا قادما للسعودية لخمسين سنة. هذا التنافس الخليجي على الساحة الأميركية ما زال مستمراً حتى يومنا هذا. فأمير قطر يعتبر نفسه أقرب إلى الإدارة الديموقراطية الجديدة، فيما يتباهى الإماراتيون بسرعة تشبيكهم مع مفاصل أساسية في إدارة جو بايدن، مالياً وسياسياً!
هذا الإستعراض هدفه القول إن الحاكم الفعلي للإمارات، كان يتصرف منذ عقد من الزمن بصفته “السائق (الحاكم) العاقل” بين “سائقين (حكام) مجانين” في الخليج العربي، وهو الوصف الذي إستخدمه هو شخصياً في حوار أجرته معه دورية “ذي أتلانتيك” في العام 2016. لكن المفارقة أن محمد بن سلمان اليوم ليس كما كان قبل أربع سنوات. لقد تمكن الرجل وصارت له حساباته ورؤيته لبلده، ولذلك، كان لا بد من تنفيس “البالون الإماراتي”، كما يقول أحد الديبلوماسيين العرب في بيروت. كان لا بد من جردة سياسية لمآلات العلاقة بين المحمدين. مثلاً، هل هناك من دفع المملكة العربية السعودية، عن سابق تصور وتصميم، إلى “خطوات إنتحارية” في كل من اليمن وقطر وسوريا ولبنان والعديد من عواصم المنطقة؟
لنأخذ لبنان مثالاً. بعد خمسة أشهر من إزاحة محمد بن نايف من ولاية العهد، قرر محمد بن سلمان إعتقال رئيس حكومة لبنان سعد الحريري. جرى إستدراجه إلى المملكة وتوقيفه في خريف 2017. بقية القصة معروفة. من كان يقف وراء تحريض بن سلمان؟
ثمة رواية تقليدية قابلة للتصديق تقول إن محمد بن زايد وصف قرار إعتقال الحريري بأنه “قرارٌ غبيٌ”، وتقابلها رواية أخرى مفادها أن ولي عهد الإمارات مارس، بشكل غير مباشر، تأثيره السلبي على صديقه ولي العهد السعودي عندما قرر لسنوات إقفال أبواب أبو ظبي بوجه زعيم تيار المستقبل في لبنان وإتهامه بالكذب وعدم المصداقية على خلفية تسلمه منه شيكاً مستحقاً بلا رصيد بقيمة 300 مليون دولار!
بكل الأحوال، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، دخلت العلاقة بين الحريري والسعودية في مرحلة جديدة. إنتهت فترة سماح إمتدت لسنتين أعقبت الإفراج عنه في خريف العام 2017. كل محاولات الحريري بوصفه رئيساً سابقا للحكومة لسنة كاملة ثم رئيساً مكلفاً للحكومة لثمانية أشهر لفتح أبواب المملكة باءت بالفشل.
كان لا بد من بدل عن ضائع. إقتضى الأمر زيارات حريرية ماراتونية إلى الإمارات. دخل كثيرون على “الخط”، أبرزهم علاء الخواجة والنائب اللبناني السابق عقاب صقر (بعلم وخبر من محمد دحلان). حاول بن زايد ترتيب علاقة الحريري بالقيادة السعودية، لكنه أخفق أكثر من مرة، حتى أن الرياض حدّدت في إحدى المرات موعدا للحريري مع وزير الخارجية فيصل بن فرحان لكن الأول أصر على لقاء محمد بن سلمان، فطارت الزيارة!
في الآونة الأخيرة، تيقن الحريري من إقفال محكم للأبواب السعودية بوجهه.. قال له الإماراتيون أهلاً وسهلاً بك ضيفاً شخصياً وليس سياسياً. تريد لعائلتك أن تنتقل إلى الإمارات، أبوابنا مشرعة أمامها. تريد خوض غمار الأعمال، لا مانع لدينا.
وجد الحريري أن فرصة التقرب من محمد بن زايد قد تؤسس لإعادة فتح أبواب المملكة مستقبلاً، وعلى هذا الأساس، صارت أبو ظبي (بدل الرياض) وجهته الثانية بعد بيروت، حتى أن الإماراتيين كانوا ممراً إلزامياً عندما قرر الحريري تجديد تواصله مع الأتراك في العام الفائت.
ما كان مفاجئاً للحريري هو الإنتكاسة التي أصابت العلاقات بين أبو ظبي والرياض في الأسابيع الأخيرة. قرار السعودية بعدم السماح باعطاء مشاريع وعقود للشركات الاجنبية التي لا مكاتب اقليمية لها في المملكة، كان بمثابة الشرارة التي فجّرت الموقف بين البلدين. هذه رسالة سعودية قاسية للإمارات التي إعتادت أن تكون مركزاً لكل الراغبين بالإستثمار فيها وفي السعودية. ما جرى في إجتماعات دول “أوبيك+” كان إنعكاساً للتوتر السعودي ـ الإماراتي المتصاعد. في الساعات الأخيرة، جرى تسريب خبر نقلاً عن “مصدر سعودي” عن قرار سعودي بسحب مكاتب قنوات “إم بي سي” (MBC) من دبي إلى الرياض. على الأرجح، سيليه قرار مماثل بسحب مكاتب باقي الإعلام السعودي ولا سيما “بلومبرغ ـ الشرق”.
هذا المسار يشي بأن سعد الحريري سيكون مُحرجاً للغاية في المرحلة المقبلة. صار مقيماً دائماً في الإمارات حيث لا يشتهي له السعوديون أن يكون. إذاً، كيف سيتصرف الرجل في المرحلة المقبلة؟ هل سيدير ظهره للإماراتيين وهل كان يراهن على أن يساهموا بتمويل الحد الأدنى من حملته الإنتخابية في ربيع العام 2022؟ ماذا إذا أحرجه حاكم أبو ظبي بإلتزامات سياسية أو مالية معينة؟
لم يكن سعد الحريري يتمنى أبداً هذه اللحظة من التوتر في العلاقة السعودية ـ الإماراتية وفي هذا التوقيت بالذات. وما يسري على الحريري يسري على آخرين لبنانياً.
في المرحلة الماضية، حاولت شخصيات لبنانية عديدة اللعب على الحبلين السعودي والإماراتي طمعاً بدور أو تمويل، فمن فاز بدعم إماراتي، وقلبه عند السعودية، بات محرجاً وعليه أن يراجع حساباته ومن كان عند الإمارات بلا أوهام سعودية سيكون رابحاً، ومن كان يجد أن مصلحته بأن يكون مقبولاً هنا وهناك، سيجد نفسه مُلزماً بالإبتعاد عن هنا وهناك. سمير جعجع نموذجاً للفئة المحرجة، ولكنه لن يضيع البوصلة: السعودية أولاً. وليد جنبلاط ثاني المحرجين، برغم عتبه الشديد على الإمارات بسبب التمويل الذي ترصده لبعض الشخصيات الدرزية المعارضة له ولا سيما في منطقة الشوف!
بالمقابل، يضحك جبران باسيل في “عبه”. عينه على الحريري المحرج عربياً. يقول رئيس التيار الوطني الحر إن رئيس الحكومة المكلف “إنتهى عربياً وخليجياً”!
لم يكن ينقص لبنان إلا ولادة عنصر جديد يزيد علاقاته الداخلية والخارجية تفسخاً وإحراجاً.
إذا كانت وجهة السعودية إزاحة البارودة جانباً في التعامل مع اليمن ولبنان وسوريا وقطر وإيران، فإن لبنان قد يستفيد من الدور السعودي إيجاباً ولو ضمن شروط سعودية محددة. إذا كانت وجهة السعوديين المضي في الإشتباك الإقليمي، خاصة إذا تعثر التفاهم النووي، فإن لبنان قد يدفع أثمان هكذا توتر إقليمي.
لنراقب المشهد أكثر في الأسابيع المقبلة. إذا كان الإشتباك السعودي ـ الإماراتي عابراً، فكل ما تضمنه هذا التحليل كأنه لم يكن أما إذا كان عكس ذلك، فللبحث صلات أكثر.