وفق “أجندة” سعد الحريري، “إنتهى زمن المناورات”. تسعة أشهر من عمر التكليف كانت كافية حتى يُعطي فرصة ساعات للديبلوماسية الخفية، وتحديداً المصرية والفرنسية، وأيضاً للمساعي السياسية، وتحديداً تلك التي يمكن أن يبادر إليها حزب الله مع حليفه التيار الوطني الحر، بالتنسيق مع نبيه بري. مسار يُفترض أن يُفضي خلال ساعات قليلة إلى لحظة إعلان القرار النهائي: إما تأليف أو إعتذار.. لكن طالما أن لا شيء في السياسة نهائياً، فكيف بنموذج مشوه ومعقد لا مثيل له على وجه الكرة الأرضية هو النموذج السياسي اللبناني؟
ما يمكن أن يُعدل هذا المسار الحريري هو إرادة خارجية كبرى، لكن مشروطة بضمانات وبسقف زمني، ذلك أن الرجل ليس طليق اليدين، لا بل أصبح أخلاقياً وسياسياً مُلزماً بتنسيق كل خطواته مع الراعيين الفرنسي (دولياً) والمصري (عربياً)، فضلاً عن الراعي المحلي (نبيه بري).
على هذا الأساس، توجه الحريري اليوم (الأربعاء) إلى القاهرة، حيث إستقبله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بحضور وزيري الخارجية سامح شكري والمخابرات العامة عباس كامل، وعرض أمام مستقبليه للمجريات التي رافقت تكليفه منذ تسعة أشهر ولا سيما العراقيل التي حالت دون تأليف الحكومة. وأعلنت الرئاسة المصرية أن السيسي رحب بالحريري، مؤكداً دعم مصر الكامل “للمسار السياسي للحريري الذي يهدف لإستعادة الإستقرار في لبنان والتعامل مع التحديات الراهنة، فضلاً عن جهود تشكيل الحكومة مع أهمية تكاتف مساعي الجميع لتسوية أي خلافات في هذا السياق لإخراج لبنان من الحالة التي يعاني منها حالياً، بإعلاء مصلحة لبنان الوطنية بما يساعد على صون مقدرات الشعب اللبناني الشقيق ووحدة نسيجه الوطني”.
البيان المصري الذي لم يتجاوز المائة كلمة كان واضحاً أنه تمت صياغته بعناية شديدة وبالتنسيق بين بيروت والقاهرة، وحمل في طياته رسائل واضحة ولا سيما لجهة التبني المصري “للمسار السياسي للحريري”، وهو أول كلام مصري يخرج إلى العلن بهذا الوضوح، وقالت مصادر ديبلوماسية في بيروت إن هذا الموقف كان مُنسقاً مع كل من باريس وواشنطن وموسكو، بإبراز التأييد لموقف الحريري، حيث بدا واضحاً أن هذه العواصم كانت متفقة على أولوية أن ينجح الحريري في تأليف الحكومة لا أن يُقدم على الإعتذار.
وأشارت المصادر إلى أن المصريين و”من موقع التفهم، أعطوا الحريري جرعة كبيرة من الدعم السياسي، وهذا الأمر جعل رئيس الحكومة المكلف يُردد أمام من إلتقاهم في بيروت، فور عودته، أن مصر ستلعب دوراً بارزاً لمصلحة لبنان في المرحلة المقبلة، مهما كانت الظروف”.
غير ان السؤال الذي يتبادر إلى الذهن سريعاً: كيف ستترجم مصر دعمها للحريري، قبيل أن يبادر إلى إعلان إعتذاره وهل أن الساعات المقبلة ستكون كافية لردم هوة تعذر ردمها طوال سنة من عمر التكليفين اللذين أفضيا إلى كل من مصطفى أديب أولاً وسعد الحريري ثانياً؟
ليس خافياً أن الديبلوماسيتين الفرنسية والمصرية وضعتا آلية تنسيقية ربطاً بالمبادرة الفرنسية، وخير دليل زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل إلى بيروت، بالتزامن مع زيارة الحريري إلى القاهرة وتقديمه التشكيلة الجديدة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، وهي التشكيلة التي تضم 24 وزيراً، أي أنها تتكىء على الصيغة أو المبادرة التي طرحها الرئيس نبيه بري، كما تضمنت، حسب بيان القصر الجمهوري اللبناني “أسماء جديدة وتوزيعاً جديداً للحقائب والطوائف جاء مختلفاً عما تم الإتفاق عليها سابقاً”، وقال عون للحريري إن التشكيلة المقترحة ستكون “موضع بحث ودراسة وتشاور ليُبنى على الشيء مقتضاه”. بدوره، قال الحريري بعد إنتهاء اللقاء مع عون إنه قدم إليه تشكيلة “تضم 24 وزيرا من الاخصائيين بحسب المبادرة الفرنسية ومبادرة الرئيس نبيه بري”، وأضاف “هذه الحكومة بإمكانها النهوض بالبلد والبدء بالعمل جدياً لوقف الانهيار وتمنيت جواباً من فخامة الرئيس غداً (الخميس) لكي يبنى على الشيء مقتضاه”. وختم بيانه المكتوب “لقد مرت تسعة اشهر على محاولات تشكيل الحكومة، والآن جاء وقت الحقيقة.. وباذن الله غداً سنعرف”.
ما هي أبرز الملاحظات في ضوء ما جرى هذا النهار؟
أولاً، لم يسبق للحريري أن دخل إلى قصر بعبدا أو خرج منه متجهماً وبتعابير واضحة على وجهه، كما فعل اليوم (الأربعاء)، حتى أن أحد الصحافيين قال إنه شعر كأن الحريري يشارك في مأتم وليس في تأليف حكومة. وما يسري على الحريري، يسري على رئيس الجمهورية الذي تعمد البرودة أثناء إلتقاط صور اللقاء.
ثانياً، توحي التعابير التي إستخدمها كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بعدم إطمئنان أحدهما للآخر. لا البيان الصادر عن القصر الجمهوري يعطي إشارة إيجابية وخاصة بقوله إن الحريري قدم أسماء جديدة وتوزيعا جديدا للحقائب والطوائف جاء مختلفا “عما تم الإتفاق عليه سابقاً”… ولا البيان الصادر عن الحريري يعطي أي إشارة مغايرة، بل بالعكس، كانت خاتمة البيان الحريري واضحة للغاية”.
ثالثاً، حضرت ملائكة رئيس التيار الحر جبران باسيل إلى القصر الجمهوري قبل ساعة من وصول الرئيس المكلف، وأمكن رصد موكبه وموكب زميله النائب إلياس بو صعب، أثناء وجود الحريري في قصر بعبدا، وهما شاركا في الإجتماع التقييمي الذي ترأسه عون وشارك فيه أيضاً كل من سليم جريصاتي وأنطوان شقير.
رابعاً، لم تتجاوز مدة اللقاء أكثر من ثلاثين دقيقة وتعمد الحريري أن لا يحمل أي مغلف بيده في طريقه إلى مكتب الرئيس، لكن قبل دخوله طلب من مرافقه عبد عرب تسليمه المغلف الذي تضمن التشكيلة الجديدة.
خامساً، كل الإشارات المتبادلة بين الإثنين أثناء اللقاء كانت سلبية، وتعمدت دوائر القصر الجمهوري تعميم أجواء مفادها أنه ليس من حق رئيس الحكومة المكلف إلزام رئيس الجمهورية بمهلة محددة (24 ساعة لإعطاء جوابه)، وذلك رداً على بيان الحريري. وعندما بادر أحد الصحافيين إلى سؤال عون عما إذا كان سيقدم جوابه للحريري خلال الساعات المقبلة، أجابه “بيأمر (الحريري)”، في إشارة إلى توجه رئاسي بعدم تقديم الجواب ضمن المهلة التي حددها الحريري، وذلك على قاعدة الحاجة إلى التشاور مع باقي المكونات السياسية المشاركة في الحكومة (طُرحت فكرة إصدار بيان رئاسي بهذا المعنى غداً).
ما هي الإحتمالات التي يمكن أن تحملها الساعات المقبلة؟
أولاً، إذا نجحت المساعي الخارجية والداخلية بإقناع رئيس الجمهورية (باسيل ضمناً) بالأخذ والرد، يُمكن إدخال تعديلات طفيفة على التشكيلة التي سلمها الحريري إلى عون، لكن إذا كانت النوايا متناقضة في الإتجاهين، لا الحريري سيفتح الباب أمام الأخذ والرد ولا عون سيعتبر ما تسلمه يشكل قاعدة للتعديل بل سيبلغ الرئيس المكلف رفضه الكامل للتشكيلة.
ثانياً، لا مراوحة في المكان ولا تمديد للوقت، وسواء أجاب عون خلال 24 ساعة أو لم يُعطِ جوابه، فإن الحريري سيُحدد موقفه خلال إطلالته التلفزيونية مساء غد، فإما يتحدث كرئيس حكومة (إذا وافق عون على التشكيلة) أو من موقع الإعتذار، وعندها ستكون أوراقه مفتوحة أمام الرأي العام، وأولها إحتمال الكشف عن أسماء تشكيلة الـ 24 وزيراً التي “لا يُمكن لرئيس جمهورية أن يرفضها”، حسب المقربين من الحريري.
ثالثاً، هذا السيناريو قابل للتعديل في حالتين: إما أن يتدخل حزب الله (إجتمع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد بالموفد الفرنسي باتريك دوريل) لدى حليفه التيار الحر أو يتحرك المصريون والفرنسيون على قاعدة وجود فرصة حقيقية للتأليف، وعندها تصبح المقابلة التلفزيونية لزوم ما لا يلزم أو قابلة للتأجيل، وهو الإحتمال الأضعف حتى الآن.
رابعاً، حتى الآن، يبدو إحتمال الإعتذار هو الأكثر ترجيحاً، وبالتالي يفتح الباب أمام أسئلة من نوع مختلف أبرزها من سيكون بديل الحريري لرئاسة الحكومة؟
خامساً، كل التسريبات التي سبقت زيارة القاهرة وأعقبتها كانت تتمحور حول إسم شخصية واحدة مرشحة لأن تحل محل الحريري، والمقصود هنا نجيب ميقاتي، لكن موقف الأخير بات واضحاً ليس أمام معظم الداخل اللبناني بل حتى أمام العديد من العواصم الدولية والإقليمية: “كل المعطيات والظروف والوقائع من لحظة تكليف مصطفى أديب إلى لحظة تقديم تشكيلة الـ 24 وزيراً لا تشجع على إعادة تكرار المحاولة (التكليف) ولا تسمح بأي مبادرة إنقاذية، وما لم يعطه جبران باسيل لسعد الحريري لن يقدمه هدية لي أو لغيري، وبالتالي، هناك محاولة واضحة للإنقضاض على إتفاق الطائف وصلاحيات مجلس النواب ورئاسة الحكومة وأنا لست مستعداً لأن أكون جزءاً من مؤامرة تستهدف الصيغة والوفاق الوطني والسلم الأهلي”.
سادساً، السيناريو الأكثر واقعية هو أن يعتذر الحريري وأن توكل إلى حكومة حسان دياب مهمة تصريف الأعمال، فيمضي في قرار عدم تحمل المسؤولية بشكل جدي، الأمر الذي يحيل كل الصلاحيات إلى المجلس الأعلى للدفاع من الآن وحتى نهاية العهد الحالي.. وللبحث صلة.