تكاد تكون الحصيلة اليتيمة لغزو أميركي أعقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 هي استكمال تدمير بلد مُدمر بصراع “طالبان” مع “المجاهدين”، وقبل ذلك بتقاتل “المجاهدين” بين بعضهم البعض، في اعقاب حربهم مع السوفيات. هذا الدمارـ التدمير أودى بحياة عشرات الآلاف من الافغان وأوقع خسائر فادحة في صفوف قوات أطلسية تقدم صفوفها الأميركيون الذين سقط لهم 2300 قتيل واكثر من 300 الف جريح، مع انفاق عسكري ناهز في صيف 2019 نحو 778 مليار دولار، إضافة إلى إخفاقات الوكالات الحكومية الأميركية المشرفة على مشاريع إعادة الإعمار وعلى تأمين القاعدة الخلفية بباكستان.
برغم ذلك، عادت “طالبان” لتحكم، وعادت معها لغة التطرف والتزمت الديني، وستعود النساء الافغانيات الى جحيم العزل والفصل والامية، كما ستعود تجارة الافيون التي لم تتوقف اصلاً الى سابق مجدها، والاهم ستجد فصائل متطرفة في أفغانستان موطئاً لبناء معاقلها في أرض لم تعد في متناول أعدائها. واذا كان من غير المرجح عودة “القاعدة” الى سابق عهدها، فمن غير المستبعد ان تلجأ قوى استخباراتية كبرى الى زرع الغام بشرية مناهضة للصين من أقليّة الإيغور على حدود اقليم سيكيانغ (تركستان الشرقية) لإشغال بيجينغ على غرار “ولاية خرسان” او مجموعات اوزبكية او طاجيكية مناهضة لروسيا وحلفائها او حتى مناهضة لإيران.
بما ان “طالبان” حددت سلفاً موقفها المناهض للديموقراطية وتحديداً ما تسميه “النمط الغربي”، فانها، على الارجح، ستعمل لأجل بناء نموذجها ولن يكون أبعد من نظام استبدادي ديني شمولي يعتمد على تطبيق صارم للشريعة، وعليه، هي بحاجة إلى بناء شبكات دعم لنظامها
لقد فشلت واشنطن في أفغانستان، وذروة الفشل ان الجيش الأفغاني الذي عُدّ أكبر الاستثمارات الأميركية في الخارج، وأنفقت عليه واشنطن اكثر من 100 مليار دولار إنهار سريعاً كالكرتون. لقد كان فساد المؤسسات الحكومية وسوء الادارة ومفاعيل الاحتلال الأميركي، بمثابة قطار سريع لحركة “طالبان” لأجل حشد الانصار وتجنيدهم ضد المستعمر وادواته والانتقال من انتصار عسكري لآخر إلى حد أن رموز الحكومة و”المجاهدين” السابقين تساقطوا كنمور من ورق.
لكن مهلاً؛ لا يعني إنهاء الوجود العسكري الأميركي نهاية الوجود الأجنبي.. دول كثيرة في العالم تحررت من الوجود العسكري الأجنبي لكنها ظلت في النهاية أسيرة الخارج اقتصادياً ومالياً. وقد دلت تجارب كثيرة ان الانتصارات العسكرية السريعة والمتتالية ليست دليلاً في ذاتها إلى أن الطريق سيكون مفروشاً بالورود، ذلك ان العمل العسكري التحرري شيء وبناء الدولة والادارة شيء آخر، واذا كانت القوة شرط أساسي للوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، لكنها وحدها ليست كافية. ففي الإقتصاد والإجتماع لا تنفع شجاعة المقاتلين، وتالياً فإن إستمرارية أي نظام مرتبطة سياسياً بقدرته على الاعتماد على بناء قاعدة شعبية حقيقية وفي موازاتها قاعدة إجتماعية ـ إقتصادية. وبما ان “طالبان” حددت سلفاً موقفها المناهض للديموقراطية وتحديداً ما تسميه “النمط الغربي”، فانها، على الارجح، ستعمل لأجل بناء نموذجها ولن يكون أبعد من نظام استبدادي ديني شمولي يعتمد على تطبيق صارم للشريعة، وعليه، هي بحاجة إلى بناء شبكات دعم لنظامها، وإلى الحصول على تأييد شرائح مجتمعية معينة تساعدها في إمساك شرائح أخرى أو ضمان إسكاتها.
وبما ان حركة “طالبان” عمادها البشري إثنية البشتون التي تمثل قرابة 43 في المئة من السكان، فانها ستجد نفسها عاجلاً ام آجلاً في مواجهة الإثنيات الاخرى متل الطاجيك (24 في المئة من السكان) والاوزبك (10 في المئة) والهزارة الشيعة (عشرة في المئة) وغيرها. وعليه اذا لم تتوصل الى صيغة ائتلافية ترضي غالبية المكونات الأفغانية، فإنها مرشحة لأن تصبح نظاماً سلطوياً جديداً يتشكل باسم الدين لخدمة قطاعات إثنية وعرقية، وهو امر سيتسبب باشكالات سياسية وأمنية كبيرة.
ايران تنظر بريبة وحذر كبيرين إلى عودة “طالبان” الى السلطة، ذلك ان البلدين كانا قد اصطدما عبر التاريخ، وتأخذ طهران في الاعتبار احتمال أن تفتح عودة “طالبان” الباب أمام احتمالات التنسيق بين كابول والرياض على حساب طهران وحلفائها في المنطقة
إقليميا، ستجد “طالبان” نفسها أمام تحدٍ جديدٍ طويل الأمد، يتمثل بفرض سيطرتها السياسية والعسكرية على أفغانستان في ظل وجود قوي للروس شمالاً، وتمدد صيني شرقاً، وتطلُّع إيراني حذر غرباً، وتفاؤل باكستاني وتشاؤم هندي، وأخيراً رغبة تركيا في الوجود في أفغانستان الجديدة وتعزيز حضورها في منطقة آسيا الوسطى. هذه كلها من نتائج خروج الولايات المتحدة من الساحة الأفغانية التي تحوّلت ملعباً لقوى أسيوية كبرى طامحة للاضطلاع بادوار عالمية كبرى، لكن هذه القوى لا يمكن ان تصنف نفسها في عداد الرابحين.
بالنسبة إلى روسيا، تكمن أهمية أفغانستان في وقوعها على تخوم الأراضي التي تعتبرها موسكو الحدود التاريخية للمدى السوفياتي الارحب، لا سيما بالنظر إلى خصومتها الطويلة مع واشنطن وحلف الناتو، وسابقة تنسيقها مع إيران. قبل نحو ست سنوات، خاض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محاولة إبرام صداقة مبكِّرة مع حركة “طالبان”، هدفها الرئيس منع تسلُّل المجموعات الاسلامية المتطرفة لا سيما المرتبطة بتنظيمي “القاعدة” وداعش” إلى الدول وثيقة الارتباط بروسيا. لكن وعود حركة معارضة تحتاج الى الدعم الاقليمي شيء، ووجود الحركة في السلطة شيء اخر، ذلك ان اجنحة “طالبانية” فاعلة تنظر الى مسلمي الدول المجاورة لا سيما في اوزبكستان وطاجيكستان كاكثريات مضطهدة.
اما ايران فتنظر بريبة وحذر كبيرين إلى عودة “طالبان” الى السلطة، ذلك ان البلدين كانا قد اصطدما عبر التاريخ، وتأخذ طهران في الاعتبار احتمال أن تفتح عودة “طالبان” الباب أمام احتمالات التنسيق بين كابول والرياض على حساب طهران وحلفائها في المنطقة. أضف إلى ذلك العلاقات الوثيقة بين إيران والهند؛ العلاقات الباردة بين إيران وباكستان التي تميل الكفة لصالحها نتيجة تحالفها المعروف مع “طالبان”، وهو واقع تملك الصين وروسيا مساحة واسعة للتكيف معه، في حين ستجد إيران والهند أكثر من غيرهما صعوبة في التأقلم معه والافادة منه.
وتقع أفغانستان على طريق إستراتيجي مهم للتجارة في آسيا، بالإضافة إلى امتلاكها ثروات طبيعية ضخمة في الشمال، وهو ما يفتح شهية الصين لعقد تحالف براغماتي مع “طالبان”، في سياق سعيها إلى نسج تحالفات ذي بُعد اقتصادي في المقام الأول. وبرغم المنافع الاقتصادية التي قد تتحقق للصين على حساب الولايات المتحدة إلا أن ذلك لا يحجب الأضرار المتوقعة المتمثلة أساسا في تحول البلد إلى نقطة لاستهداف الصين من قبل مقاتلي الإيغور الانفصاليين التابعين للحزب الإسلامي التركستاني. ويصدر هذا الحزب من حين إلى آخر مقاطع فيديو توثق وجوده في أفغانستان، لكنه ظل بعيداً عن الأضواء وامتنع عن مهاجمة أهداف صينية في أفغانستان أو عبر الحدود في سيكيانغ. ولذلك لم تكن تطمينات “طالبان” كافية لمنع بيجينع من أن تقدم إلى مواطنيها نصائح متكررة وآخرها حضهم على مغادرة أفغانستان في أسرع وقت ممكن.
من جهتها، تحاول تركيا أيضاً تحقيق مكاسب إستراتيجية من بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، إذ تستعد أنقرة التي تؤمّن حاليا مطار كابول للاضطلاع بدور أكبر مستقبلاً، وبرغم أن حركة “طالبان” سبق وحذَّرت انقرة بأنها لا تريد وجود أي قوات أجنبية على أراضيها، خاصة في ضوء عضوية تركيا في حلف الناتو، فإن الدبلوماسية التركية نجحت في فتح قنوات اتصال مع قيادة الحركة. الامر الذي تُوّج بتصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه على استعداد لاستقبال زعيم “طالبان” في بيته. وتسعى أنقرة للعب دور حارس المصالح الخارجية في أفغانستان، وفي المقابل، حارسة المصالح الأفغانية في المحافل الدولية، بهدف تعزيز دورها في حلف الناتو، وتأمين وجود فعال لها على تخوم آسيا الوسطى التي تربطها مصالح سياسية واقتصادية وثقافية متشعبة مع تركيا.
أفغانستان ليست فقط عنق آسيا وقلبها الذي تتقاطع على عتباته المناطق المحورية في القارة، وليست مجرد فسيفساء عرقية ـ لغوية تنتهي حدودها عند حدود هذا البلد أو ذاك بل تتجاوز الخرائط لتتداخل مع كل العوالم السوفياتية السابقة والصينية والفارسية والتركية والهندية
اما أولى الدول التي سارعت الى اتخاذ موقف عدائي من صعود حركة “طالبان” فهي الهند، الدولة العدوة لباكستان، والتي يرأس حكومتها القومي الهندوسي نارِندرا مودي الذي تحققت مخاوفه بسقوط أفغانستان في أيدي حركة رفضت تقاسم السلطة مع حليفه المتواري اشرف غاني، لتصبح أفغانستان حليفاً أساسياً لباكستان. كما تسلط سيطرة “طالبان” الضوء على مستقبل استغلال الهند لميناء تشابهار الإيراني الذي يعمل على تسهيل التجارة الهندية مع أفغانستان وآسيا الوسطى والذي ظل معفياً من العقوبات الأميركية بهدف دعم إعادة إعمار أفغانستان وتنميتها. وتعتبر الهند ميناء تشابهار بمثابة ثقل موازٍ لميناء جوادر الباكستاني الذي تدعمه الصين، وهو جوهرة تاج النقل والاتصالات ومبادرة الحزام والطريق التي تعتمد على الطاقة في الصين.
وبرُغم أن سيناريو العلاقة الوطيدة مع باكستان يبدو منطقياً، فإن أهمية الهند، واهتمام “طالبان” بالتواصل مع شتى الأطراف الدولية، وتنامي قوتها في الفترة المقبلة، قد يفتح الباب أمام إتساع هوامش الاستقلالية الأفغانية عن باكستان وهو أمر يفتح الباب أمام إحتمال التعاون الأفغاني – الهندي في ظل حكم “طالبان”.
حتى باكستان، التي شهدت في مدارسها الدينية في بيشاور ولادة “طالبان” وموّلتها بالسلاح والعتاد ووفرت لها المأوى، تخشى أن تؤجج سيطرة الحركة الاسلامية المشاعر الدينية المحافظة والمتطرفة في باكستان التي تنظر إلى عناصر “طالبان” كمجاهدين ابطال يعزز نجاحهم فرص الحكم الديني المتشدد في ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان المسلمين في العالم، وهذا ما دفع مسؤول باكستاني كبير الى القول: “سوف يتشجع جهاديونا؛ سيقولون إذا كان من الممكن هزْمُ أميركا فمن هو الجيش الباكستاني ليقف في طريقنا”؟
أفغانستان ليست فقط عنق آسيا وقلبها الذي تتقاطع على عتباته المناطق المحورية في القارة، وليست مجرد فسيفساء عرقية ـ لغوية تنتهي حدودها عند حدود هذا البلد أو ذاك بل تتجاوز الخرائط لتتداخل مع كل العوالم السوفياتية السابقة والصينية والفارسية والتركية والهندية، وعليه فان التحولات السريعة في هذا البلد، لا شك انها لن تنحصر فيه بل ستؤثر على كل جيرانها وسيتاثرون بها بدرجات متفاوتة. المهم الا تعود مرة اخرى بؤرة نزاع دولي جديد في الشرق.