أراد جو بايدن أن يعلن في الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، أنه وفى بوعده الإنتخابي وأنهى أطول حرب أميركية في الخارج، عبر وضع حد للتورط العسكري في أفغانستان، من دون أن يضع في الحسبان أن يؤول الإنسحاب الأميركي إلى أسوأ أيام يواجهها منذ دخوله إلى البيت الأبيض قبل ثمانية أشهر.
وقد لا يغير تفجيرا كابول اللذان تبناهما الفرع الأفغاني لـ”داعش” المعروف بـ”ولاية خراسان” في خطة بايدن للإنسحاب وإجلاء ما استطاع من رعايا أميركيين و”متعاونين” أفغان. لكن هل في امكان الرئيس الأميركي بعد “خميس كابول الدامي”، أن يدير ظهره لأفغانستان ويسقطها من الحسابات الإستراتيجية للولايات المتحدة، كما كان عاقداً العزم على فعل ذلك؟
أول تعليق لبايدن على مقتل الجنود الأميركيين في مطار كابول، كان قوله لمرتكبي التفجيرين “اميركا ستطاردكم”، في عبارة تُذكّر بقول جورج دبليو بوش من فوق أنقاض مبنى مركزي التجارة العالمي عبر مكبر للصوت وهو يستند إلى كتف أحد رجال الإطفاء “قريباً سيسمع منا منفذو” الهجمات ما ستفعله أميركا. فكانت حرب العشرين عاماً، التي جاء بايدن ليضع حداً لها، فلم يوفق.
لم يكن مضى على وجود بوش الابن في البيت الأبيض تسعة أشهر عندما وقعت هجمات 11 ايلول/سبتمبر. وصاغت الهجمات بعد ذلك كل القرارات التي اتخذها في الداخل والخارج وأسوأها حرب العراق، التي لم تنتهِ هي الأخرى بعد. اليوم، يتجرع بايدن، الذي لم يمض على رئاسته سوى ثمانية أشهر، من الكأس الأفغاني الذي كان يود أن يبعده عنه، الإنسحاب.
كان هم بايدن منصباً على دحض اتهامات سلفه ترامب ومعه غالبية من الجمهوريين، بأن انتخابات 2020 كانت “مزورة”، فضلاً عن إيجاد وسائل للحد من تصاعد المتحور “دلتا”، ومناقشة أفضل الوسائل للتصدي للصعود الصيني. فإذا بأفغانستان تنفجر بين يديه وتعود لتفرض نفسها ضيفاً ثقيلاً يطارد رئاسته
من المؤكد أن بوش لم يبحث عن أفغانستان. هي التي بحثت عنه. كان لا يزال مشغولاً بكيفية إثبات شرعية رئاسته بعد جدل أثارته أصوات ولاية فلوريدا مع منافسه آل غور. وبايدن هو الآخر، كان همه منصباً على دحض اتهامات سلفه دونالد ترامب ومعه غالبية من الجمهوريين، بأن انتخابات 2020 كانت “مزورة”، فضلاً عن إيجاد وسائل للحد من تصاعد المتحور “دلتا” من فيروس كورونا، ومناقشة أفضل الوسائل للتصدي للصعود الصيني. فإذا بأفغانستان تنفجر بين يديه وتعود لتفرض نفسها ضيفاً ثقيلاً يطارد رئاسته، كما حصل مع ثلاثة من أسلافه.
جرّب بايدن أن يتجنب حصول ما حصل في مطار كابول، ولو من طريق التنسيق المباشر مع حركة طالبان، فأوفد عشية تفجيري كابول، مدير وكالة الإستخبارات المركزية وليم بيرنز إلى الدوحة للقاء الرجل الثاني في الحركة الملا عبد الغني برادر، وفي كابول كان ثمة تنسيقاً أمنياً على الأرض بين الضباط الأميركيين ومقاتلي طالبان حول المطار والمناطق المحيطة به لتوفير لإنجاز عمليات الإجلاء التي تقوم بها أميركا والقوى الحليفة لعشرات الآلاف من الرعايا ومن الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأجنبية ويخشون على حياتهم مع عودة طالبان إلى السلطة.
كانت إدارة بايدن في مسار الإنسحاب تفترض أن التعامل مع طالبان سيبقى رهن انفتاح الحركة على ثلاثة أمور: أولاً؛ عدم السماح مجدداً لتنظيمات جهادية مثل “القاعدة” بالعودة إلى استخدام الأراضي الأفغانية مكاناً للتدرب على شن هجمات ضد أهداف داخل الولايات المتحدة والدول الحليفة، ثانياً؛ عدم إضطهاد الأقليات العرقية، وثالثاً؛ احترام حقوق المرأة في التعليم والعمل وعدم العودة عموماً إلى الممارسات المتشددة التي شابت التجربة السابقة لحكم طالبان في التسعينيات الماضية.
وفعلاً، كان الكثير من المسؤولين في إدارة بايدن يعلقون الآمال على أن حاجة طالبان إلى العالم الخارجي، سيجبرها على تغيير سلوكها ونبذ الممارسات السابقة.
كان يمكن لمثل هذا الإعتقاد أن يصمد ويكتسب شيئاً من الصحة، لو أن طالبان كانت حركة واحدة وليست عبارة عن تحالف جماعات تتراوح في منطلقاتها الفكرية بين أقصى التشدد على غرار “شبكة حقاني” وبين جماعات تتوسل التطبيع مع العالم الخارجي، كي تتمكن من الإمساك بالداخل، على غرار الملا برادر ومسؤولين آخرين في الحركة احتكوا في الأعوام الأخيرة مع مسؤولين أميركيين بالدرجة الأولى ومن ثم حلّوا ضيوفاً على روسيا وإيران والصين.
البداية لم تكن في 11 ايلول وإنما كانت منذ قررت الولايات المتحدة دعم الفكر الجهادي لإسقاط الإتحاد السوفياتي، إنطلاقاً من أفغانستان. وقتذاك، لم يدُر في خلد المسؤولين الأميركيين، أنهم بعد عقدٍ ونيف سيجدون أنفسهم في مواجهة الجهاديين أنفسهم
ولا حاجة للتذكير بالعلاقات الوطيدة التي تربط باكستان واستخباراتها العسكرية بطالبان منذ نشأة الحركة وحتى في ذروة النزاع مع الولايات المتحدة بعد الغزو عام 2001.
إنما السؤال يتمحور الآن: هل فعلاً طالبان بنسختها “المنفتحة” قادرة على الإمساك بالزمام في كامل أفغانستان، أم أن الجماعات الأخرى المتحالفة معها، هي التي ستسود في نهاية المطاف مثل “شبكة حقاني”، التي تشكل صلة الوصل بين طالبان و”القاعدة”؟ كما أن هذه الشبكة تجد نفسها أقرب إلى “ولاية خراسان” منها إلى طالبان.
ولن يقتصر الأمر على أفغانستان، فهزيمة أميركا في افغانستان ستشد من عزم الفصائل الجهادية في مناطق أخرى من العالم. من سوريا إلى العراق واليمن والصومال ودول الساحل في افريقيا ونيجيريا وموزمبيق واندونيسيا وتايلاند وجنوب الفيليبين.
ومن يستطع أن يقنع التنظيمات الجهادية في هذه الدول على أنها غير قادرة على إلحاق الهزيمة بالأنظمة التي تقاتلها، طالما تمكن جهاديو أفغانستان من إذلال الإمبراطورية الأميركية ومن قبلها السوفياتية.
وحتى في أوروبا، هناك من يخشى أن يشكل الإنهيار الأفغاني عامل تشجيع لـ”الذئاب المنفردة” أو لخلايا جهادية نائمة كي تُصعّد هجماتها من الآن فصاعداً.
وللسبب ذاته، يسود حذر في إيران وروسيا والصين، على رغم الإنتقادات التي توجه للولايات المتحدة.
زبدة القول، إن أفغانستان لا تؤثر في أميركا فقط وإنما هي تحدٍ عالمي.. والبداية لم تكن في 11 ايلول/سبتمبر 2001، وإنما كانت منذ قررت الولايات المتحدة دعم الفكر الجهادي لإسقاط الإتحاد السوفياتي، إنطلاقاً من أفغانستان. وقتذاك، لم يدُر في خلد المسؤولين الأميركيين، أنهم بعد عقدٍ ونيف سيجدون أنفسهم في مواجهة الجهاديين أنفسهم.