في المرة الثالثة وصل نجيب ميقاتي أيضاً على أنقاض عجز سعد الحريري عن تشكيل حكومة على إمتداد تسعة أشهر ونيف. هذه المرة بدا ميقاتي وكأنه يسرق التكليف من فم الحريري، مُراهناً على تثبيت وقائع يُمكن أن تتدحرج مستقبلاً.. ويُصبح معها رقماً لبنانياً وعربياً وتحديداً خليجياً.
في المرتين الأولى والثانية، فرضت وقائع لبنانية ضاغطة ومعها إهتمام عربي ودولي بلبنان، صعود ميقاتي الى رئاسة الوزراء. في الثالثة، سُمي للمنصب في لحظة نأي بالنفس دولياً وعربياً عن لبنان، بإستثناء فرنسا التي دعمت ميقاتي، إستناداً إلى “ضمانات دولية” تحدث عنها الرجل من دون أن يوضح ماهيتها، لكن في مقابل ذلك ما ينبغي أن يبقى حاضراً في الذهن السياسي، ما قاله رئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” محمد رعد ـ بالتزامن مع التكليف ـ “مع ظهور مؤشرات تلمح إلى إمكانية تشكيل الحكومة ما بعرف إذا بتزبط أو ما بتزبط.. جاءت تسميتنا للرئيس ميقاتي”.. والأرجح أن رعد قد حدّد بجملته المفتاحية طبيعة التعقيدات التي تنتظر الرئيس المُكلف.
راهناً، يعتصر لبنان خطر يمثله الإنهيار المالي الكبير، وخطر ثانٍ يُمثله صراع “الحقوق” الذي ترفعه الكتل المسيحية، و”الصلاحيات” عند المسلمين السنة، وإرتباك الكتلة الشيعية بين حقوق مسيحية تعيد إلى الأذهان حقبة المارونية السياسية المرفوضة وصلاحيات سنية تؤبد صيغة الطائف التي لم تعد تناسب “الثنائي الشيعي” ولو لم يُجاهر بذلك علناً. هذه الثلاثية يجمع بينها القلق والحذر وفقدان الثقة أياً كانت النتائج حتى ولو كان في ذلك فناء محتمل للبنان. هذه الثلاثية لم تولد فجأةً، بل تلازم ظهورها مع حدثين: اغتيال رفيق الحريري، وعودة القادة المسيحييين إلى الحياة السياسية من بابي المنافي والسجن.
لم يعد من الصعب التكهن بما سيؤول إليه تكليف ميقاتي، فالإعتذار هو مسألة توقيت ليس إلا، فمعظم مؤشرات السياق السياسي العام تشي بأن الأمور قد تبقى على ما هي عليه، ما لم يكن المجتمع الدولي على إستعداد فعلي لمساعدة لبنان، وهو أمرٌ مستبعد
دع عنك إلى حين ما يرنو إليه الشيعة. فما يطفو على السطح راهناً هو المكاسرة السنية ـ المسيحية. الأولى، تقاتل دفاعاً عما تسميه “صلاحيات” (إتفاق الطائف ضمناً). الثانية، تستبسل في محاولة منها لإسترجاع ما تسميه “حقوقاً” انتزعتها وثيقة الوفاق الوطني. تزداد المشكلة تعقيداً مع كل تصدير لهذه المكاسرة على أنها دفاع عن حقوق طوائف. مشكلة السنة أنهم يدافعون عن إتفاق الطائف بوصفه إمتيازاً أكثر من كونه دستوراً ناظماً لعلاقات الجماعات بعضها مع بعض. أما المسيحيون فيعتبرونه وثيقة غلبة أخذت منهم ما كانوا يسمونه “ضمانات ـ صلاحيات” وأعطت غيرهم ما هو حق لهم في الدولة.. وعليها.
لم يعد من الصعب التكهن بما سيؤول إليه تكليف ميقاتي، فالإعتذار هو مسألة توقيت ليس إلا، فمعظم مؤشرات السياق السياسي العام تشي بأن الأمور قد تبقى على ما هي عليه، ما لم يكن المجتمع الدولي على إستعداد فعلي لمساعدة لبنان، وهو أمرٌ مستبعد في ظل وجود “حزب الله” على خط تناقضات الوضع الإقليمي برمته من غزة إلى اليمن مروراً بلبنان وسوريا والعراق، لكن الأهم من هذا الإعتبار أنه طالما أن ميشال عون رئيس للجمهورية لن يتساهل لا المجتمع العربي ولا الدولي مع لبنان، ولعل محنة العهد العوني منذ بدايته أنه تصرف بروحية أن البلد في مرحلة ما قبل الطائف أو في عهد الجمهورية الأولى.
أحرق ميشال عون معظم فترة حكمه بالمناكفات والصراعات والتعطيل، كأنه يعيش في طقس نفسي عنوانه جملته الشهيرة “يستطيع العالم أن يسحقني، ولكن لن يأخذ توقيعي”، أو كما ينقل عنه أحد قدامى الضباط العونيين “إذا خُيّرتُ بين الإنتصار في معركة صغيرة أو خسارة حرب كبيرة، أختار الخسارة بلا تردد”. بمعنى آخر، يفضل عون سياسة التحكم على سياسة “فن الممكن”، وهذا يرضي جبران باسيل الذي يخوض معركة الرئاسة تحت مسمى الدفاع عن حقوق المسيحيين، وفزاعة “أكلونا المحمودات”، وهو تلقى ضربتين قاسيتين، الأولى في إنتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، إذ بدا من خلال الشتائم المرذولة، كأن كل مصائب البلد أتت من وجوده في السلطة، خصوصاً طريقة إدارته ملف الكهرباء، والثانية تمثلت بالعقوبات الاميركية التي طالته بسبب علاقته بحزب الله بالدرجة الأولى (تفاهم مار مخايل).
لن تكون مهمة ميقاتي أسهل من مهمة أديب أو الحريري، طالما أن المعركة حكومية.. وفي الخلفيات رئاسة جمهورية
أمام هذا المشهد، يسعى جبران باسيل الى ترتيب صورته المتشظية. تارة يريد إرضاء السعودية، وتارة يخطب ود الأميركيين بـ”التجرؤ” على “حزب الله”. ومرات ومرات يحاول ترميم صورته في الشارع المسيحي عبر “شيطنة” القوات اللبنانية وكل الخصوم المسيحيين، وهذا الترميم يأتي من منطلق رفض الآخر، فالباسيليون، على سبيل المثال لا الحصر، شنّوا قبل بدء الاستشارات النيابية هجوماً مُسبقاً على “ميقاتي الفاسد” و”ميقاتي الأميركاني”، وسربوا أنهم سيسمون نواف سلام (كأنه إيراني مثلاً) لكنهم لم يجرؤا. بمعنى آخر أعطوا صورة مبكرة عما سيكون عليه التأليف بعد التكليف.
ما يجب مباشرته صراحةً في السياسة هو أن التعقيد اللبناني بشقه الداخلي يتعلق بنظام سياسي أُنهك ولم يُفلح مرة في هضم عثراته ومشاكله. ويُسجل للعهد العوني أنه كان الأجرأ بتعيين التصدع السياسي وقوامه بأنه توتر أو تفجر دائم بين الرئاستين الأولى والثالثة (لم يوفر الرئاسة الثانية أحياناً وهي لم توفره أيضاً). وما ليس معروفاً هو إذا كان ميقاتي قد تنبه إلى علاقة العونيين مع موقع رئاسة الحكومة. من نبش قبر رفيق الحريري، الى “الابراء المستحيل” ضد فؤاد السنيورة وغيره، ثم وصف تمام سلام بـ”الداعشي”، من دون أن ننسى ما يسميه نادي رؤساء الحكومات “الاعتداء اليومي على صلاحيات رئاسة الحكومة”، بدءاً من حكومة العهد الاولى التي تولاها سعد الحريري، وصولاً إلى حكومة حسان دياب الذي إستحال تعايشه مع ميشال عون وجبران باسيل، بسبب رفضه تصريف الأعمال في هذه المرحلة الإنتقالية المرشحة لأن تطول حتى نهاية العهد.
بهذا المعنى لن تكون مهمة ميقاتي أسهل من مهمة مصطفى أديب أو سعد الحريري، طالما أن المعركة حكومية وفي الخلفيات رئاسة جمهورية. لنتذكر أنه بعد إنفجار 4 آب/أغسطس و”المبادرة” الفرنسية الخلبية، طُرح اسم السفير مصطفى أديب الذي وجد نفسه أسير صراع كبير، فمن جهة هناك نادي رؤساء الحكومات السابقين الذين يتمترسون وراء صلاحيات رئاسة الحكومة وعين أغلبهم على السراي الكبير، وهناك ميشال عون وجبران باسيل.. والبحث الدائم عما بعد الجنرال.
كان مصطفى أديب أذكى من أن يغرق في مستنقع جمهورية الوحل. وحين كُلف سعد الحريري بعد إعتذار أديب، بدا واضحاً، أن الحريري في مهمة شبه مستحيلة. آنذاك كان الهم الأساس الحيلولة دون أي توتر سني ـ شيعي، بينما وضع عون وباسيل التوقيع سيفاً مصلتاً على رقبة سعد الحريري، فصار البلد أمام معادلة أن عون متسلح بالتوقيع والحريري متمسك بالتكليف. ومع أن الحريري في رصيده أكثرية سنية، ولديه علاقات دولية واسعة من فرنسية الى مصرية وروسية وتركية، لكنه إصطدم بجدار توقيع ميشال عون، الذي يريد فرض شروطه التي تعني في السياسة تعرية الحريري وهزيمته.
ليس ميقاتي من الصنف الذي يتقن لعبة عض الأصابع أو من يقول “آخ أولاً”. في لعبة الوقت يربح عون حتماً ومعه موسم رئاسي لم يبقَ منه إلا حوالي أربعمائة يوم
في السياسة كان ميقاتي قبل العام 2005 أقرب الى الخط السوري قبل أن يتبدل مسار الأمور. في علاقته بالسعودية هناك شيء من الإلتباس، فعدا عن أن السعودية أخرجت لبنان من دائرة إهتمامها في المرحلة الراهنة، فهي لم تفتح بابا لميقاتي في المرحلة السابقة. ومجدداً يأتي الرجل تحت مظلة الفرنسيين، فماذا يملك إيمانويل ماكرون حتى يضمن للرئيس المكلف عدم تكرار ما حصل مع كل من أديب والحريري؟
أن تكون الأوضاع المعيشية والاقتصادية والنقدية السبب المباشر في معاناة اللبنانيين وإذلالهم فيما هم يمضون في تغذية ميولهم الفطرية للعصبيات الأهلية، فهذا إنما يرمز إلى تخلف واضح عن العيش في ومع العالم الحديث. ففي لبنان الذي يتضافر التوظيف السياسي مع فساد فلكي وإنعدام لكل ما له صلة بالتنمية مع تعاظم هيولي بالمديونية العامة. وكل هذا كان نتاج قرارات تصدر خبط عشواء فهذا يعني أن محنة لبنان سياسية في الأصل والنتيجة، وليس في شخوص كل من تعاقبوا على الحكم منذ إتفاق الطائف حتى يومنا هذا.. وللحق فإن الأغلب الأعم من سياسيين لبنانيين باشروا السياسة كأصحاب رأي لا رؤى.
ليس نجيب ميقاتي من الصنف الذي يتقن لعبة عض الأصابع أو من يقول “آخ أولاً”. في لعبة الوقت يربح ميشال عون حتماً ومعه موسم رئاسي لم يبقَ منه إلا حوالي أربعمائة يوم. على ميقاتي أن يُنصت إلى أفراد عائلته، حيث يحثه الواحد تلو الآخر، على الإعتذار، ناهيك عن مستشارين لم يجد معظمهم تفسيراً لقبول أصل التكليف. يقول أحدهم: أربعون يوماً تكفي. إلى الإعتذار دُرْ.