بلغ الإستعصاء الداخلي حدوداً غير مسبوقة من قبل. كل محاولات تأليف حكومة في لبنان منذ سنة حتى يومنا هذا باءت بالفشل. كان جبران باسيل هو حائط الصد الأكبر بوجه كل محاولات خفض السقوف. إستشعر أن هناك من يريد هزيمة ميشال عون، أي هزيمته هو فعلياً. تصدى، لا سيما بعد العقوبات الأميركية التي طالته في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لكل من حاول إقناعه بالتي هي أحسن بتقديم تنازلات. كانت جملته المفتاحية تلك التي قالها قبل ساعات من ولادة الحكومة لإحدى الزميلات “لن أسمح ببهدلة ميشال عون في آخر عمره.. وعهده”!
لا يبرىء هذا المدخل غيره من اللاعبين المحليين ولا سيما سعد الحريري وحزب الله. الأول، كان أسير معادلات مركبة محلياً وخارجياً. “الفيتو” الباسيلي ـ السعودي أطاح برئيس تيار المستقبل في نهاية الأمر. كان الحريري يأمل بأن يكون هو آخر رئيس حكومة مكلفاً محلياً ودولياً وإقليمياً ولكن جاءه ميقاتي من حيث يدري أو لا يدري، تماماً كما حصل في العام 2011! أما حزب الله، فلسان حال أغلبية اللبنانيين هو سر “عجزه” أمام جبران باسيل بينما يناطح “الكبار” في الإقليم.
بكل الأحوال، ولدت الحكومة وهذه محاولة لتحليل الظروف التي ساعدت بولادتها أو التي يمكن أن تكون سبباً لتعثرها مستقبلاً:
أولاً، عندما وقّعت شركة “توتال” يوم الأحد الماضي عقدا بقيمة 27 مليار دولار مع الحكومة العراقية في قطاعات الغاز والنفط والطاقة البديلة، وهو أكبر إستثمار أجنبي في العراق، وربما من أكبر الإستثمارات لهذه الشركة الفرنسية، كانت ردة فعل أحد أبرز الوسطاء المتابعين لملف تأليف الحكومة أن العد العكسي لولادة حكومة ميقاتي قد بدأ. لماذا؟
لا يمكن للعراق أن يُبرم هكذا عقد مع الفرنسيين بمعزل عن القوتين اللتين تتحكمان بمصائر العراق والعراقيين وهما الولايات المتحدة وإيران.. ولا تجرؤ فرنسا إيمانويل ماكرون على هكذا خطوة من دون موافقة الأميركيين. وجاء البيان الرئاسي الإيراني الفرنسي عن فحوى إتصال الرئيس الفرنسي بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، وهو الثاني منذ فوز الأخير بالإنتخابات الرئاسية الإيرانية، وتحديداً العبارة السحرية التي تتحدث عن “جهود ودعم فرنسا وإيران وحزب الله لتشكيل حكومة قوية في لبنان”. عبارة غير مألوفة في أي عرف ديبلوماسي، وضعت حزب الله في خانة الدول. ترافقت العبارة مع ضغط حزب اللهي غير مسبوق. وصلت الأمور في بعض الأحيان إلى حدود التوتر بين حزب الله والتيار الوطني الحر، لا بل بين قيادة حزب الله ورئيس الجمهورية. طرح حزب الله صيغاً كأن يكون هو الثلث الضامن، لكن معادلة باسيل كانت واضحة: في أي إشتباك مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ستقولون البيت الشيعي خط أحمر.. كما هي عادتكم منذ 15 سنة (تاريخ تفاهم مار مخايل). في المحصلة، أدى الضغط الدولي أولاً والمحلي ثانياً إلى ولادة حكومة نجيب ميقاتي. حكومة لا تولد بمعزل عما يشهده الإقليم من تطورات كبيرة؛ الإنسحاب الأميركي من أفغانستان. بدء الإستعداد للإنسحاب الأميركي من العراق ثم سوريا. تطورات متسارعة في المشهد الميداني السوري. مؤازرة روسية وأردنية للحكومة السورية في تسوية مدينة درعا البلد. التفاهم الروسي ـ الإسرائيلي على آلية لحل “الخلافات” بين الجانبين على الأراضي السورية، على قاعدة أن روسيا ضامنة لأمن إسرائيل وترفض إستخدام أراضي سوريا منصة لتهديد أمن إسرائيل. إحتدام المشهد اليمني ولا سيما في مأرب. قرار الإدارة الأميركية بنشر وثائق 11 أيلول/سبتمبر 2001. إستثناء السعودية من جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الخليجية وتأجيل زيارة مقررة لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى الرياض. كلها مؤشرات تشي بتفاوض أميركي ـ إيراني يسبق الجولة السابعة من مفاوضات فيينا التي لا يستطيع أحد أن يحسم ما إذا كانت ستفضي إلى نتيجة محددة، لكن الأكيد أن لا حرب وربما لا حروب في المنطقة في المدى القريب، وهذا ما إستنتجه قادة عسكريون وأمنيون لبنانيون إجتمعوا برئيس وكالة الإستخبارات الأميركية (سي آي إيه) مايكل بيرنز خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت.
يقود ذلك إلى الإستنتاج أن الحكومة تولد على إيقاع محاولات إنتاج تسويات كبرى غير مكتملة المعالم في المنطقة، وكل طرف من الأطراف يحاول أن يقدم إشعارات حسن نوايا وبالتالي خلق مساحات إختبار متبادلة لهذه النوايا. هذا المسار إن تعثر أحياناً سيرتد على الحكومة جزئياً وإذا إنفجر تنفجر معه وإن إستمر الستاتيكو تستمر حالة المراوحة وإذا أبرمت تسويات.. يكون نجيب ميقاتي هو الفائز الأكبر بجائزة اللوتو السياسية.. ولو أدى ذلك إلى “إنتحار” الدولار الأميركي لبضع ساعات في الأسواق اللبنانية كما حصل في ساعات بعد ظهر اليوم.
ثانياً، من يُدقق في تركيبة هذه الحكومة يجد أنها تشبه رئيسها. أي أنها مترامية الأطراف. كل طرف فيها يملك الثلث المعطل ولا يملكه. السبب أن العديد من الوزراء لا يمكن أن يندرجوا في خانة هذا أو ذاك ونقطة على السطر. هم من الوزراء الذين يتحركون في مساحات داخلية وخارجية عديدة.. وبالتالي نحن أمام أكثر من وزير ملك. هناك ثلاثة وزراء ملوك بالحد الأدنى (وليد نصار وأمين سلام وجورج كلاس) ويمكن أن ينضم إليهم ناصر ياسين الذي يحظى بمباركة من كل من ميقاتي وسعد الحريري وعبد الرحيم مراد.. يسري ذلك على عبدالله بو حبيب الذي لم يكن ولا مرة عونياً برغم قربه من رئيس الجمهورية (قبل الرئاسة وبعدها) ومن جبران باسيل. ينطبق ذلك أيضاً على يوسف خليل الذي لا يندرج في خانة لا أمل ولا حزب الله. أيضاً وليد فياض الأقرب إلى ميقاتي، حاله كحال سعادة الشامي الذي قاتل ميقاتي لأجل أن تؤول الإقتصاد إليه بسبب ثقته الكبيرة به، فكيف الحال مع نجلاء رياشي عساكر التي كان زوجها (السفير بطرس عساكر) مطروحاً لحقيبة الخارجية في إحدى اللوائح الميقاتية.
الأميركيون موجودون في الحكومة. الفرنسيون أيضاً. ثمة من يحملون جنسيات أخرى إلى حد القول إن الثلث المعطل هو للوزراء حاملي الجنسيتين في هذه الحكومة!
إذا صحت نظرية “البلف” (الخداع)، فهذا ما ستكشفه مجريات العمل الحكومي وهي ستتمحور حول قضايا محددة: ضبط سعر صرف الليرة ضمن سقف يتراوح بين 10 و13 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي، “وهو سقف قابل للإنخفاض إلى حدود 8 آلاف ليرة لبنانية فور إنجاز برنامج صندوق النقد”، حسب مرجع لبناني كبير، لم يتردد في التأكيد أن ثمة تعليمات أميركية أعطيت للمعنيين في صندوق النقد بتسريع المفاوضات مع الحكومة اللبنانية ضمن سقف لا يتعدى نهاية العام الحالي. النقطة الثالثة تتصل بقطاعي الطاقة (خطة مع شركات أميركية وأوروبية لتلزيم معامل الكهرباء) والإتصالات (إحتمالات الخصخصة ربطا ببرنامج صندوق النقد). النقطة الرابعة تتصل برفع الدعم نهائياً بالترافق مع تحسن سعر صرف الليرة ووضع آلية لتوزيع البطاقة التمويلية. أما جدول الأعمال السياسي للحكومة فيكاد يكون محصوراً بنقطة واحدة: إجراء الإنتخابات النيابية والبلدية والإختيارية في موعد أقصاه 20 أيار/مايو المقبل ولا شيء يمنع إنجازها في الأسبوع الأخير من آذار/مارس المقبل.
هل يطمح ميقاتي إلى أكثر من ذلك؟ ربما وتحديداً في موضوع الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ولكنه طموح غير قابل للصرف طالما أن القرار الأميركي يقضي بجعل إسرائيل تستكشف وتنقب وتبيع غازها قبل غيرها من اللاعبين الإقليميين، وهذا الأمر يطرح أسئلة كثيرة حول الغاز المصري الموعود عن طريق الأردن وهويته الحقيقية!
ثالثاً، مع تأليف هذه الحكومة، إنطوى عملياً عهد الرئيس ميشال عون. هذا الإستنتاج يتصل ببعدين أولهما محلي حيث يتصرف الجميع على قاعدة أن الإنتخابات الرئاسية المقبلة هي الأساس وكل ما عداها يقع في خانة التفاصيل وبالتالي من حق جبران باسيل أن يستخدم “شارجير” العهد لكي يصل إلى الإستحقاق الرئاسي بأقل الخسائر السياسية والشعبية التي تتيح له أن يبقى متقدما على خصمه سمير جعجع ولو بنائب واحد!
أما البعد الثاني فيتصل بنظرة الخارج إلى لبنان. صحيح أن رئيس الجمهورية سيتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية هذا الشهر، ولكن التعامل الدولي والإقليمي مع لبنان سيكون ممره الإلزامي نجيب ميقاتي. يسري ذلك على الأميركيين والأوروبيين ومعظم الدول العربية ولا سيما مصر. أما السعودية، فلن يكون لها كلام في الوضع اللبناني رئاسة وحكومة ومجلساً نيابياً جديداً ودعماً مالياً بمعزل عن برنامج الحكومة وتركيبتها.
هل يمكن أن يُحدث التعامل الدولي فرقاً في حياة اللبنانيين؟
سيمنع وقوع البلد في أسر حزب الله كلياً من خلال إنهيار أثبتت وقائعه أن البيئة الأقل تأثراً به هي بيئة حزب الله. النقطة الثانية هي أن المجتمع الدولي سيحاول تقطيع الوقت من الآن وحتى نهاية عهد ميشال عون، فإن إستمرت حكومة ميقاتي ما بعد ذلك التاريخ وهذا هو المرجح، يجري التعامل معها بطريقة مختلفة وربما أفضل مما سيكون التعامل معها خلال ما تبقى من عهد ميشال عون.
ماذا عن إيران؟
من حسن حظ حكومة ميقاتي أن المازوت الإيراني الذي سيصل إلى سوريا خلال أيام قليلة سيخفف ضغط الشارع اللبناني من دون أن يكبدها أية أضرار سياسية، كما أن الفيول العراقي ـ بنسخته الإماراتية ـ سيزيد ساعات التغذية بالتيار الكهربائي الرسمي.. في هذا السياق، لننتظر الإتصال الأول الذي سيجريه ميقاتي بـ”صديقه” وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان.. للبحث صلة.