تكمن حقيقة أمر إنقاذ لبنان من الفخ الإقتصادي والمالي المُطبق على أنفاسه في السياسة أولاً وأخيراً، وليس في ألف باء هذه الخطة أو تلك من الإصلاحات المُكرّر ذكر معظمها منذ 20 سنة على الأقل.
فالعلاجات المطروحة، للمديين القصير والطويل وما بينهما المتوسط، بحاجة إلى توافقات دونها عقبات سياسية وطائفية تجعلها صعبة حيناً وشبه مستحيلة أحياناً أخرى.
في التفاصيل، هناك 10 ممرات إلزامية للإصلاح والإنقاذ، ثم سلوك طريق النمو، يشكل كل واحد منها عنق إختناق سياسي، وهي كالآتي:
أولاً؛ تحديد حجم الخسائر التي كان وصل حجم الفروقات فيها إلى 40 مليار دولار بين عدة أفرقاء أيام حكومة حسان دياب. ذلك التباين الهائل ظهر تبعاً لمصالح هذا الفريق أو ذاك من أطراف المنظومة المالية والسياسية ومدى نفاذ كلمته في السلطة وكواليس إتخاذ القرار فيها. فمقابل بدهية تحميل المصارف ومصرف لبنان مسؤوليات إرتكاب خطايا إئتمانية جسيمة، إنبرى أشاوس في النظام لرعاية مصالح البنوك قبل المصلحة العامة، وما تبرئة أو تخفيف العبء عن المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلا لأسباب الارتباط المصلحي العضوي بين معظم السياسيين والمصرفيين والرأسماليين.
ومن الطرائف المعبرة عن مكنونات المصالح ما قيل عن “عمل صهيوني ما” في ضرب القطاع المصرفي، كما ورد على لسان أحد النواب المخضرمين المدافعين عن المنظومة. وورد على لسان آخر أن “ضرب القطاع تحجيم للمسيحيين ودورهم في لبنان”(!).
إلى ذلك، كان فاقعاً الصراع السياسي حول التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وتأخير بدء التدقيق نحو سنة، ثم تقييده بشروط مثل منع نشره على الملأ وحظر إستخدامه قضائياً، وربطه بتدقيق جنائي موازٍ يشمل جميع الوزارات والمؤسسات والإدارات العامة.
ثانياً؛ تأخر أيضاً اقرار قانون ضبط التحويلات (الكابيتال كونترول) تحت عناوين مختلفة تبين أنها مخادعة. وما المماطلة حتى تاريخة إلا فرصة متاحة لمن يستطيع من النافذين سياسياً ومصرفياً إخراج ما تيسر من دولارات بعد تقديرات عن خروج 6 الى 7 مليارات في سنتين إضافة إلى 13 مليار دولار صرفت على دعم سلع ومواد أساسية. ذلك الدعم سمح، بالمواربة، بخروج مليارات تدثرت بغطاء التجارة والإستيراد. وبالتالي هبط احتياطي مصرف لبنان 20 مليار دولار منذ عشية الأزمة حتى الشهر الحالي. هذا المبلغ، لو أحسن لبنان استخدامه، كان كافياً نسبياً لانقاذ ما يمكن انقاذه بالتي هي أحسن من دون الرضوخ لكامل شروط صندوق النقد، لكن السياسات المصلحية الضيقة والشعبوية الديماغوجية شاءت خلاف ذلك.
وما دخول سلامة “مظفراً سياسياً” إلى لجنة التفاوض مع صندوق النقد الا محاولة من حماته لتثبيت معادلاته المصرفية والنقدية المفيدة لفئات دون أخرى.. ولكن!
ثالثاً؛ يحتاج الصندوق إلى توحيد أسعار الصرف التي ابتدع مصرف لبنان بعضها لإطفاء خسائر مصرفية على حساب المودعين وبعضها الآخر خدمة لمصالح إستنسابية قطاعية دون أخرى، وترك السوق السوداء على عواهنها على حساب معظم المواطنين والمستهلكين. وما كان ممكناً إصدار تعاميم تقنن السحوبات وتفعل فعلها في الاقتطاعات القسرية غير القانونية من الودائع، وطبع الليرات بإغداق هستيري، وإتخاذ إجراءات نقدية ومصرفية أضرت بمعظم السكان أيما ضرر، لكأنهم قالوا لرياض سلامة: افعل بهم ما شئت، هولاء رعايانا، لا تخف منهم ولا تعبأ بصراخهم، انهم من قطعان ناخبينا وطوائفنا ومذاهبنا، نعرف كيف نضبطهم او نقمعهم عند اللزوم. سر أيها الحاكم وعين السياسة ترعاك! وما دخول سلامة “مظفراً سياسياً” إلى لجنة التفاوض مع صندوق النقد الا محاولة من حماته لتثبيت معادلاته المصرفية والنقدية المفيدة لفئات دون أخرى.. ولكن!
رابعاً؛ الكهرباء وما أدراك ما الكهرباء، مغارة علي بابا المفتوحة منذ أوائل التسعينيات إلى اليوم. وقع هذا القطاع ضحية صراعات مريرة وعشوائيات مريبة كبّدت الخزينة العامة في 3 عقود 40 مليار دولار معظمها تبخر في هدر شعبوي إنتخابي دعماً للتعرفة، وخدمة غير مباشرة لزيادة أرباح “كارتيلات” إستيراد المحروقات وأصحاب المولدات، وكلاهما محمي سياسياً.
وفي السياسة أيضاً تندرج اتهامات هذا الطرف لذاك بأن الجباية في مناطقه وبيئته مستحيلة، وأن السرقات في مناطق دون أخرى، علماً بأن الكهرباء منهوبة بأشكال مختلفة. فما لم ينهب بالسرقات وإستحالة الجباية نُهب بالصفقات والسمسرات على قاعدة 6 و6 مكرر الطائفية.
خامساً؛ إعادة هيكلة القطاع العام وصرف الفائض فيه معضلة سياسية كأداء. تلك الهيكلة مستحيلة بالمعطيات الحالية للرواتب الزهيدة القيمة والبطالة المستفحلة والفقر الضاربة أطنابه والإقتصاد المنكمش حتى الإضمحلال. واذا حصل اتفاق على صرف فائض الموظفين لاحقاً سنجد من يرفع لواء المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ولا عزاء لمعادلة صرف الفائض وغير المنتج أو الفاسد. أما دمج قطاعات والغاء مجالس وهيئات لتخفيف هدر هنا وسد مزراب فساد هناك، فدونها إستحقاقات مبادلات للنفوذ بإعادة توزيع للمواقع على النافذين زعماء إئتلاف الطوائف كي لا يختل ميزان القوى وينهار لبنان (!).
سادساً؛ أُقر قانون الشراء العام ولم ينفذ بعد. يطلب الفرنسيون انشاء موقع الكتروني يعرض بشفافية تفاصيل المناقصات والعطاءات، وآليات الترسيات على الفائزين بها من الشركات المتقدمة. فهل نصدق بسذاجة هبوط وحي النزاهة فجأة على نافذين كان ديدنهم الإستفادة من مقاولات البلاد على مدى 30 سنة؟ وهل سيتخلى السياسيون عن المقاولين المحتمين بالعباءات الحزبية والطائفية ويتقاسمون مع “الزعيم” الحلوة والمرة؟ واذا طبق ما يريده الفرنسيون بحذافيره قد نجد مقاولين مسيحيين فقط أو مسلمين فقط، أو مقاولين محسوبين على هذا الطرف السياسي أكثر من آخرين محسوبين على خصمه. وقد نجد مقاولين مستقلين فعلاً.. كلها معضلات تهدد توازنات المنظومة العاملة بقاعدة “فساد في السوية.. عدل في الرعية”.
سابعاً؛ في جانب زيادة الإيرادات العامة، لسد فجوات عجز الميزانية، فان الاستعصاء سيأخذ أبعاداً دراماتيكية. فمن سيُقنع هذا الحزب أو ذاك التيار أو تلك الحركة بالتخلي عن قطاعات طوبت لهم على مدى عقود بالتحاصص وتقاسم النفوذ والمصالح؟ ومن سيلجم تغول الساسة في مفاصل الإدارات والوزارات والمجالس والهيئات لزوم المحسوبيات والواسطة والحشو الوظيفي والمناقصات ومد اليد الى الصناديق؟ والأنكى كيف ستقنع الاحزاب ناخبيها بزيادات الرسوم والضرائب في فترة هي من اشد فترات الفقر والتقشف في تاريخ البلاد؟ وهل سنرى طبقة سياسية متحررة من مصالح “رأس المال” لتزيد الضرائب على الشركات والأرباح والريوع والثروات العقارية وغير العقارية. وكيف لوزارة المال التي تأقلمت مع التهرب الضريبي المقدر بنحو 40 في المائة أن تجبي كامل المتوجبات من أكبر رأسمالي حتى أصغر دكان، اضافة الى تحدي محاربة التهرب الجمركي المتوافق عليه حالياً بين أولي الأمر الواقع في المنافذ البرية والبحرية والجوية، مع التذكير بأن للتهريب ونقص سيطرة الدولة المركزية على الموانئ والمطار والحدود تداعيات سياسية خطيرة داخلية وخارجية.
أي كلام سياسي عن ملكية الدولة لمخزون الذهب سيفتح شهية الدائنين الخارجيين حملة سندات “اليوروبوندز” المقدرة قيمتها الإسمية مع فوائدها بأكثر من ضعفي قيمة الذهب. وأي تسليم نهائي بملكية مصرف لبنان للذهب يعزز الموقع التفاوضي للحاكم رياض سلامة على حساب مناوئيه السياسيين
ثامناً؛ الخصخصة تفتح الشهيات ويسيل لها اللعاب في لبنان كما حصل مع بداية إنطلاق شركتين للخليوي ثم خصخصة البريد وتلزيم سوكلين النفايات. الخصخصة او منح القطاع الخاص أدواراً في الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والنقل والنفط توسع كثيراً بعد إتفاق الطائف. فضعفت المدرسة الرسمية وفرخت الجامعات الخاصة على حساب الجامعة اللبنانية، وتضاعف عدد المستشفيات الخاصة لا سيما المحسوبة على اطراف طائفية، وتقهقر النقل العام والمشترك لتوزع على انقاضه لوحات حمراء عمومية بزبائنية سوقية. أما في النفط فقد فشلت كل مساعي تأهيل مصفاتي طرابلس والزهراني ومنحت الكارتيلات حقوق وامتيازات تجارة البترول ومشتقاته. وفي الكهرباء استفادت مافيات من تقهقر مؤسسة كهرباء لبنان لتستثمر في قطاع مولدات الأحياء المحمية من قوى الأمر الواقع حسب المناطق.
ماذا بقي للخصخصة؟ شركة طيران الشرق الاوسط (ميدل ايست) وكازينو لبنان والمرافئ البحرية والمطارات، وشركات أوجيرو والخلوي (الإتصالات)، ومؤسسة كهرباء لبنان ومؤسسات المياه بالاضافة الى عدد هائل من العقارات والأراضي. فهل سيشذ مصير اي عملية خصخصة في هذه القطاعات عن الحالات السابقة طالما يستمر النزاع السياسي والطوائفي والمصلحي والنفوذي على ما هو عليه حالياً؟
تاسعاً؛ لن يكون إحتياطي الذهب المقدر حالياً بنحو 17 مليار دولار خارج الحسابات التي ستقدم لصندوق النقد الدولي لا سيما تلك المتعلقة بمصرف لبنان وموجوداته الصافية السلبية. لن ينفع القول بأن استخدامه مقيد بقانون عندما نتفاوض مع الدائنين واصحاب الحقوق. وفي ذلك مشكلة خطيرة تكمن في ملكية هذا الذهب. فالدولة هي التي اشترته لكنه مسجل الآن في بند موجودات مصرف لبنان. أي كلام سياسي عن ملكية الدولة لهذا المخزون سيفتح شهية الدائنين الخارجيين حملة سندات “اليوروبوندز” المقدرة قيمتها الإسمية مع فوائدها بأكثر من ضعفي قيمة الذهب. وأي تسليم نهائي بملكية مصرف لبنان للذهب يعزز الموقع التفاوضي للحاكم رياض سلامة على حساب مناوئيه السياسيين.
عاشراً؛ الغاز والنفط وترسيم الحدود شمالاً وجنوباً أحد أكبر التحديات الجيوسياسية التي لم يستطع لبنان مواجهتها بجبهة سياسية واحدة موحدة صارمة في التفاوض على خطوط الترسيم بما يحفظ للبنان كامل حقوقه. هذه الثروة جزء لا يتجزأ من خطط إنقاذ لبنان مستقبلاً إذا تفاقمت الديون مجدداً.. وستتفاقم
***
مما سبق يمكن التوكيد بأن السياسة حاضرة في كل ما يتصل بخطط انقاذ لبنان من أزماته المتشعبة والمستعصية. لذا فالتحدي الأكبر هو بخوض مفاوضات مع صندوق النقد والجهات التمويلية الأخرى بلسان حال وطني جامع لا نشاز فيه.. وهذا أشبه بمن يطلب المستحيل.
لقد جرت العادة منذ ما بعد الطائف على التقاسم أو التنازع حتى انطبقت على لبنان بقوة مقولة الصحافي والروائي البريطاني جورج أورويل: “السياسيون كالقرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول”.
وها هم أنفسهم يستعدون للفوز بالانتخابات النيابية المقبلة ليستمروا في حكم لبنان بآليات وأعراف وممارسات يسمح بها النظام الطائفي نفسه، سواء بنص إتفاق الطائف أو بروحه.. أو بطلوع روحه بانتظار تقمص جديد لهذا الكيان المهيض.