لبنان يخسر “فرصة ماكرون” السعودية.. وميقاتي مُحرج!

لم يكد نجيب ميقاتي يغادر حاضرة الفاتيكان حتى تطايرت رسائل البابا فرنسيس شرقاً وغرباً. من الأزهر إلى واشنطن مروراً بباريس وعواصم غربية عديدة. زيارة غير عادية. إهتمام إنساني إستثنائي ولكن حصادها السياسي المحلي صفري!

لم يعُد خافياً أن نجيب ميقاتي يحظى بمظلة من الدعم الدولي ربما لم تتوفر لرؤساء حكومات آخرين، في السنوات الأخيرة، وتحديداً لسعد الحريري. حتماً، صار الرجل مصدر حسدٍ. لكأنه كان يحفر لنفسه، على طريقته، حتى “يُعمِّر” في رئاسة الحكومة.. ويحفر للآخرين “بأيديهم” حتى “يرتاحوا” من عناء الرئاسة الثالثة!

لو عُدنا إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى لحظة التكليف وصولاً إلى زيارة روما الأخيرة، مروراً بإستقباله المميز في الإليزيه ومشاركته في قمة غلاسكو وما تخللها من لقاءات دولية وعربية وإسلامية.. ورحلته السريعة إلى بغداد. ولو تسنى التسلل إلى دفتر مواعيده المقبلة، وأولى محطاته الآتية في القاهرة مع عبد الفتاح السيسي ثم في إسطنبول مع رجب طيب أردوغان (قد يطرأ تعديل فتتقدم إحداهما على الأخرى)، يمكن الإستنتاج أن مظلة التكليف لم تتآكل خارجياً، بل إننا نشهد إتساع دائرة الحضانة الدولية والإقليمية الداعمة للرجل في مهمته.. ولكن.

قبل التعريج على كيفية إستثمار دعم الخارج داخلياً، يفضي التدقيق بإمكان وجود عناصر خارجية سلبية تقف حجر عثرة في درب ميقاتي السياسية إلى القول إن العلاقة الأميركية ـ السعودية صارت عنصر التعطيل الأبرز. لماذا؟

ثمة إشتباك سياسي غير مسبوق في تاريخ العلاقات السعودية ـ الأميركية، إلا في زمن باراك أوباما (2013) على خلفية الأزمة السورية والملف النووي الإيراني وقبله زمن فيصل بن عبد العزيز، عندما قرّر في العام 1973 حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة ودول غربية أخرى دعمت إسرائيل في حرب تشرين/أكتوبر. قرار فيصل جاء مخالفاً للإتفاق الذي أبرمه الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن البارجة “يو إس إس كوينسي” في مياه قناة السويس في العام 1945 وقاعدته الأساس “النفط (للولايات المتحدة) مقابل الحماية (للمملكة)”. هذا الكسر كلّف فيصل حياته. حصلت توترات أخرى كتلك التي أعقبت الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، لكنها لم تبلغ حدود ما نشهده منذ حوالي السنة حتى الآن.

عاد ميقاتي من روما. دقّ باب عين التينة مُستنجداً بصديقه نبيه بري. قدّم إليه العديد من الإقتراحات التي تضمن عقد جلسة سريعة لمجلس الوزراء (الأربعاء أو الخميس) وإستقالة قرداحي قبيل وصول ماكرون إلى الرياض.. من دون أن يُسجل غياب كلي لـ”الثنائي الشيعي” عنها. رفض بري فتح الأبواب حتى ولو بشكل موارب أو جزئي. عادت الأمور إلى نقطة الصفر

حاول ولي العهد محمد بن سلمان بكل الطرق والوسائل فتح الأبواب مع إدارة جو بايدن، لكن “مكانك راوح”، لا بل إلى الوراء. يريد بن سلمان الفوز بلقاء في البيت الأبيض أو أي مكان آخر مثل قمة غلاسكو على قاعدة أن بلاده صارت نموذجية في التعامل مع الطاقة البديلة. كان الجواب الأميركي حاسماً: الأبواب مقفلة.

لم يقتصر الأمر على بايدن. كل الإدارة الأميركية الحالية أسيرة هذه الحرب الباردة في العلاقات السعودية ـ الأميركية. في جلسة حوارية أدارتها شبكة “سي إن إن” الأميركية قبل حوالي الشهر مع بايدن، لم يتردد الأخير في تحميل مسؤولية إرتفاع أسعار النفط عالمياً إلى السعودية بسبب عدم وفرة العرض من دول “أوبك” وإلى “الكثير من الأشخاص في الشرق الأوسط ممن يريدون التحدث معي وأنا أرفض الحديث معهم”. واقع جعل “بنك أوف أميركا” يتوقع إرتفاع سعر برميل النفط ـ إذا كان شتاء العام 2022 أكثر برودة من المعتاد ولا سيما في أوروبا ـ إلى 100 دولار للبرميل الواحد. حتى أن أحد كبار المسؤولين الأميركيين لم يتردد في مصارحة مسؤول لبناني كبير بأن درجات الحرارة في هذه الأيام “أصبحت أهم من باقي الأرقام والمؤشرات”!

ما يجري من حرب طاقوية بين الرياض وواشنطن يُعيدنا إلى لحظة 1973، لكن بفارق أن القبضة الأميركية لم تكن رخوة كما هي في يومنا هذا، وهذه نقطة غير بسيطة أبداً. هوامش العزف المنفرد عند  عدد من اللاعبين الدوليين والإقليميين تتسع على حساب المايسترو الأميركي.

كل محاولات السعوديين للإستنجاد بالأميركيين في حرب اليمن، لأجل توفير مخارج تحفظ ماء وجههم، باءت بالفشل حتى الآن. وجدت الرياض في الحوار بينها وبين طهران ضالتها أو خشبة خلاصها. إستنجدت بالإيرانيين، فكان جوابهم “إذهبوا وتحدثوا مع أنصار الله ونحن ندعم ونساعد”!

مكانك راوح. غداة إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن وصول المازوت الإيراني إلى بيروت، فتحت واشنطن بعض قنواتها مع الرياض لأجل توفير الفيول لكل معامل الكهرباء في لبنان. وافقت المملكة على مضض. جاء شريط فيديو جورج قرداحي ليوفر الذريعة: إبحثوا عن دولة ثانية توفر مثل هذا الدعم للبنان. هل كان تسريب الشريط مرتبطاً بالقرار السعودي؟ لا أحد يملك جواباً واضحاً حتى الآن، لكن الفرضية الأكثر ترجيحاً أن لبنان بعلاقته المتوترة مع المملكة يدفع ثمن حرص الأميركيين على إستقراره، أي أنه بات أسير الكباش الأميركي ـ السعودي المتصاعد!

ما يجري من حرب طاقوية بين الرياض وواشنطن يُعيدنا إلى لحظة 1973، لكن بفارق أن القبضة الأميركية لم تكن رخوة كما هي في يومنا هذا، وهذه نقطة غير بسيطة أبداً. هوامش العزف المنفرد عند  عدد من اللاعبين الدوليين والإقليميين تتسع على حساب المايسترو الأميركي

في لقاء الإليزيه “الإحتفالي” بين رئيس فرنسا ورئيس حكومة لبنان، إنبرى الثاني لسؤال الأول مراراً حول كيفية مساعدة فرنسا في إعادة فتح الأبواب السعودية ـ اللبنانية وهل يمكن تشجيع الأميركيين على لعب دور أكبر في الإتجاه نفسه. قال ماكرون، حسب تقارير دبلوماسية فرنسية ولبنانية، إنه سيقوم بزيارة سياسية إلى الرياض في الأسبوع الأول من كانون الأول/ديسمبر المقبل. معظم الملفات التي يحملها إلى المملكة ستكون سياسية بإمتياز وبينها ملف لبنان. هذه محاولة جديدة لفتح الأبواب.. أو بمثابة بديل عن ضائع أميركي!

إقرأ على موقع 180  الإستشارات المُلزمة في لبنان: لا دستورية التفويض والإمتناع

توجهت المفرزة الدبلوماسية السبّاقة من باريس إلى الرياض قبيل عشرة أيام على الأقل في إطار التحضير للقمة السعودية الفرنسية. تعهدت باريس بالتشاور مع بيروت بالمخرج الآتي: يبادر وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي إلى تقديم إستقالته بعد إجتماع الحكومة اللبنانية مباشرة. تُعتبر هذه الخطوة تجميداً للإجراءات السعودية والخليجية. حثّت دول الخليج الأخرى لبنان على الإلتزام بهذه الخطوة. شغّل ميقاتي محركاته، فتمكن من جمع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب في سيارة واحدة ثم في المكتب الرئاسي بقصر بعبدا، فور إنتهاء عرض الإستقلال يوم الإثنين الماضي. صادقت “الترويكا” على المخرج: فصل ملف الرؤساء والوزراء (وضمناً من لم تُرفع عنهم الحصانات) في قضية تفجير مرفأ بيروت عن ملف التحقيق العدلي الذي يتولاه طارق بيطار. لم تمضِ ساعات قليلة حتى جاء الجواب.. سلباً. قيل إن جبران باسيل إنقلب على التسوية الرئاسية وقيل أيضا إن “وزير البلاط” يتحمل مسؤولية الإنقلاب.. وقيل “صدقوا أو لا تصدقوا صار القضاء اللبناني مستقلاً جداً جداً”.. و”سهيل عبود أصلب من أن تكسره تسوية من هنا أو هناك”!

طارت التسوية. عاد نجيب ميقاتي من روما. دقّ باب عين التينة مُستنجداً بصديقه نبيه بري. قدّم إليه العديد من الإقتراحات التي تضمن عقد جلسة سريعة لمجلس الوزراء (الأربعاء أو الخميس) قبيل وصول ماكرون إلى الرياض.. من دون أن يُسجل غياب كلي لـ”الثنائي الشيعي” (أمل وحزب الله) عنها. رفض بري فتح الأبواب حتى ولو بشكل موارب أو جزئي. عادت الأمور إلى نقطة الصفر.

يقول الأميركيون أن الإنتخابات النيابية “خط أحمر” لا يكفي للجزم أن الإنتخابات ستجري حتماً. يستطيع بسام طليس وحده تعطيل الإنتخابات بإقفال طرق لبنان في يوم الإنتخابات ويستطيع اساتذة لبنان أيضاً تعطيل الإنتخابات إذا نفذوا إضراباً مفتوحاً

لماذا بدأ العرض من عند العلاقات الأميركية ـ السعودية وإنتهى في عين التينة؟

ثمة إنطباع سياسي حقيقي أن الخارج مهما عظم شأنه في المعادلة اللبنانية، ليس مُقرراً إلى حد كبير. هل “يمون” الإيرانيون أو السوريون على نبيه بري مثلاً؟ حتماً الجواب لا. هل يمون طرف دولي على جبران باسيل في هذه اللحظة الإنتخابية التي يعتبرها لحظة حياة أو موت؟ حتماً لا.. والنماذج كثيرة.

مثلما باتت القبضة الأميركية رخوة في العديد من الملفات الدولية، لم تكن هوامش القوى المحلية متفلتة من الخارج، كما هي في لحظتنا الراهنة. حتى بين حزب الله وأمل، ثمة وجهات نظر متباعدة أكثر من أي وقت مضى لكن الطرفين يتمايزان من جهة ويحاولان تنظيم خلافاتهما تحت سقف بيتهما وخطوطهما الحمراء من جهة ثانية.

خلاصة القول إن الإستنجاد بماكرون لم يعد كافياً لإرساء معادلات لبنانية. أن يقول الأميركيون إن الإنتخابات النيابية “خط أحمر” لا يكفي للجزم أن الإنتخابات ستجري حتماً. يستطيع بسام طليس وحده تعطيل الإنتخابات بإقفال طرق لبنان في يوم الإنتخابات ويستطيع اساتذة لبنان أيضاً تعطيل الإنتخابات إذا نفذوا إضراباً مفتوحاً. جنون الدولار كفيل أيضاً بتعطيل الإنتخابات.

آن الأوان للإلتفات إلى البيت اللبناني. معادلات الداخل اللبناني هي التي تبقى وما عداها لا يدوم. صارت الصيغة عنواناً للتعطيل. هل ننتظر ولاية ماكرون الثانية حتى يتولى حياكة صيغتنا الجديدة أم نبدأ بالتفكير بها بصوت عالٍ، برغم هذا الركام الكبير وهذا الإنهيار المترامي الأطراف..

حمى الله لبنان. حكومته باقية ولن يستقيل رئيسها، على الأرجح، ولكن واقعنا الإجتماعي سيزداد تأزماً وسيجعلنا ننتقل من “الإرتطام الكبير” إلى حالة “الكوما”، برغم الأدوية والأمصال وأجهزة التنفس الإصطناعية التي يستعد الخارج لتزويدنا بها، ولا سيما تلك الآتية من الفاتيكان قريباً. لننتظر البابا فرنسيس زائراً عزيزاً وكريماً في العام 2022، إذا بقي هناك من بلد إسمه لبنان.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  لا تجعلوه "كبش فداء" جرائمكم!