ثلاثة عناوين إشكالية وجدالية يطرحها الكسندر دوغين في كتابه “أسس الجيوبولوتيكا” وهي: الشعب الروسي ورسالته العالمية والحضارية؛ نقد مفهوم الدولة ـ الأمة؛ لا معنى لروسيا من دون إمبراطورية، وشروحات ذلك على الشكل التالي:
أولاً؛ الشعب الروسي ورسالته العالمية:
يرى دوغين أن للشعب الروسي خاصية رسالية حضارية على مستوى العالم، “فالشعب الروسي ينتمي إلى عداد الشعوب ذات الرسالة، وله أهميته الكونية التي تشمل الإنسانية كلها، والتي لا تتنافس فقط مع الأفكار القومية، بل ومع أنماط الصيغ الأخرى من العالمية الحضارية”، وهذا الشعب “وبغض النظر عن الفتن والمراحل الإنتقالية والجوائح السياسية بقي محتفظا بهويته الرسالية”.
ما هي هذه الرسالية؟
بحسب دوغين “أن الشعب الروسي وُهب نمطا خاصا من التدين والثقافة اللذين يختلفان اختلافا حادا عن الغرب الكاثوليكي ـ البروتستانتي، وعن تلك الحضارة بعد المسيحية التي نمت هناك، وبصفة النقيض الثقافي والجيوبولوتيكي يجب أخذ الغرب بمجموعه لا واحدة من الدول المكونة له، والحضارة الغربية المعاصرة ذات توجه عالمي، أما العالمية الروسية أساس الحضارة الروسية، فتتباين بصفة جذرية عن الغرب في جميع نقاطها الأساسية، فهما نموذجان متناقضان ينفي كل منهما الآخر، وعلى هذا، فالمصالح الإستراتيجية للشعب الروسي يجب أن توجه ضد الغرب”.
وفي قائمة “الرسالية الروسية” على ما يقرأ دوغين في خاصية شعبه “أن الشعب الروسي ينطلق في وجوده من أفق لاهوتي خلاصي يكتسب في النهاية معنى مسكونيا عاما، والحديث لا يدور حول اتساع المجال الحيوي الروسي، بل حول فرض النمط الروسي الخاص برؤية العالم، النمط المتشدد في مسألة الآخرة، وهذه هي المهمة الأسمى للأمة كشعب متوشح بالله، ويتجلى ذلك بصفة خاصة في إيمان الروس الذي لا يتزعزع بالإنتصارالنهائي للحقيقة والروح والعدالة، ليس فقط في إطار الدولة الروسية، بل في كل مكان”.
وبناء على ذلك “لم يهدف الشعب الروسي ـ قط ـ إلى إقامة دولة إثنية ومتجانسة عرقيا، فرسالة الروس تميزت بطابع عالمي، ولهذا السبب بالذات، كان الشعب الروسي يسير بطريقة منهجية نحو بناء الإمبراطورية التي كانت حدودها تتوسع وتحتضن خليطا أكبر فأكبر من الشعوب والثقافات والأديان والأراضي والأقاليم، ومن العبث أن تُعد هذا التوسعية المنهجية صدفة تاريخية، فهي تمثل جزءاً لا يتجزأ من الوجود التاريخي للشعب الروسي ورسالته الحضارية”.
ألكسندر دوغين: إذا لم تبدأ روسيا بإعادة بناء المجال المكاني الكبير، أي تلك الآماد الأوراسية المُضيّعة، فإنها تلحق الكارثة بنفسها، ويمكن بسهولة استشراف مسيرة الأحداث إذا اختارت روسيا طريقا آخرغير طريق تجميع الإمبراطورية
ثانياً؛ الدولة ـ الأمة لا تناسب روسيا:
يُقر دوغين بأن نموذج الدولة ـ الأمة ظهر لأول مرة في فرنسا خلال المرحلة الملكية وجرى تثبيته بعد الثورة الفرنسية، وظهرت هذه الدولة في أوروبا خلال مرحلة السقوط النهائي للوحدة الإمبراطورية الأوروبية، ويؤكد بأن “الدولة ـ الأمة لا تدار بالفكرة الإلهية ولا بالشخصية الإرستقراطية البطولية، وإنما من خلال دكتاتورية القانون، وهو ما يمنح سلطة هائلة لعلماء القانون والبيروقراطية الحقوقية”.
وهذا النموذج وفقا لدوغين لم تعرفه روسيا، إذ “لم تظهر الدولة ـ الأمة في التاريخ الروسي، وعندما بدأ هذه النموذج يتجذر في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، جاهدت روسيا لمناهضته جهاد المستميت، وبغض النظر عن إصلاحات بطرس الأكبر(1672 ـ 1725) الموالية لأوروبا، فقد ناهضت العفوية القومية هذا التحلل للإمبراطورية وانقلابها إلى دولة ـ أمة”، وكردة فعل على الإصلاحات الليبرالية، فإن الروس ونخبتهم العليا “كانوا يتحولون إلى المشاريع الغيبية والتجديد لعادات قديمة، وتجلى ذلك على أوضح صورة في تسلم العرش من طرف الكسندر الأول (1777ـ 1825) مؤسس الحلف المقدس بين روسيا والنمسا وبروسيا”.
وعلى ما يقول دوغين “فقط في بداية القرن العشرين اقتربت روسيا اقترابا شديدا من تحقيق الدولة ـ الأمة، إلا أن هذه العملية أوقفت هذه المرة ايضا، بسبب دفقة ثورية حملت في اعماقها احتجاجا وطنيا عميقا ضد هذا النمط من بناء الدولة، والذي ما كان ليتوفر فيه مكان لظهور الرسالة الشعبية الروحية”.
كيف ينظر الروس إلى النظام السوفياتي؟
يقول ألكسندر دوغين “من خلف الخطابية الحداثوية البلشفية، تعرًف الروس بصورة غامضة على مُثلهم الغيبية الخاصة، انتصار الفكرة والعدالة والحقيقة، واستُقبلت الدولة السوفياتية من طرف الشعب كبناء للإمبراطورية الجديدة، مملكة النور ومغانم الروح، لا كوعي لبناء أكثر عقلانية للإدارة والحُكم، ولم يصبح الإتحاد السوفياتي دولة ـ أمة، فقد كان استمرارا للتقاليد الإمبراطورية الوطنية المكتسبة بأشكال ظاهرية مضخمة” كما أنه “من المستحيل إنكار الحقيقة القائلة بأن البنية المحورية للإمبراطورية السوفياتية كانت بالذات الشعب الروسي الذي جسّد عالميته الخاصة في الأنموذج الإيديولوجي والإجتماعي ـ السياسي السوفياتي”.
وهذه التقاليد الإمبراطورية بمختلف مراحلها القيصرية والسوفياتية يعتبرها دوغين قوانين وسُنناً تاريخية روسية، ذلك “أن ثمة قانونا في التاريخ الروسي، يرى أن الأمور عندما تصل إلى تحويل روسيا إلى دولة ـ أمة تنزل الكوارث”، وفي الطريق إلى صد تلك الكوارث والجائحات “فالروس مستعدون للسير نحو ما لا يمكن تصوره من الضحايا وألوان الحرمان لتحقيق وتطوير الفكرة القومية، الحلم الروسي الكبير”.
أي حلم هو ذاك؟
يجيب دوغين ويقول “أما حدود هذا الحلم فتراه الأمة، وفق أقل تقدير في الإمبرطورية”.
ثالثاً؛ لا معنى لروسيا من دون إمبراطورية:
هذا العنوان الذي يشكل صُلب الفكرة الإستراتيجية والجيوبولوتيكية لألكسندر دوغين، مأخوذ من أحد العناوين الرئيسة لكتابه، واستنادا إلى ذلك يقول “إذا لم تبدأ روسيا بإعادة بناء المجال المكاني الكبير، أي تلك الآماد الأوراسية المُضيّعة، فإنها تلحق الكارثة بنفسها، ويمكن بسهولة استشراف مسيرة الأحداث إذا اختارت روسيا طريقا آخر غير طريق تجميع الإمبراطورية” وفي هذه الحالة تغدو الآماد الأوراسية هدفا لكل من:
-أن تقفز الصين قفزة يائسة بإتجاه كازاخستان أو سيبيريا الشرقية.
-أن تتحرك أوروبا الوسطى بإتجاه الأراضي الروسية الغربية، أي نحو أوكرانيا وبيلاروسيا.
-أن يقوم المعسكر الإسلامي بالتكامل مع آسيا الوسطى.
وعلى هذا الأساس “فإن مجرد التردد في تجميع الإمبراطورية يُعدُ تحديا ـ حافزا ـ كافيا لتقوم الآماد الجيوبولوتيكية البديلة الكبرى بالتحرك بإتجاه الحدود الروسية، وتوحيد الأراضي الروسية لحماية روسيا كمحور للتاريخ محفوف بصعوبات محددة، إلا أن هذه الصعوبات زهيدة جداً أمام تلك الكوارث التي تحدق إذا لم يجر البدء بتجميع الإمبراطورية”.
وفي سرد تاريخي، يقول دوغين “لا دولة وحيدة الإثنية، لا دولة ـ أمة، فمنذ أول البدايات، كانت صورة الدولة الإمبراطورية في طيات روسيا، بداية من توحد القبائل السلافية حتى الإتحاد السوفياتي، وكان الشعب الروسي يسير دون توقف عبر طريق التكامل السياسي والمكاني ونحو بناء الإمبراطورية والتوسع الحضاري”، وهذا التوسع كما يقرر دوغين “كان يحمل معنى حضاريا بالذات، ولم يكن على الإطلاق توسعيا مصلحيا يسّيره السعي وراء المستعمرات أو الصراع في سبيل المجال الحيوي، والنقص في الأراضي لم يكن ـ قط ـ السبب الأصلي لإقامة الروس للإمبراطورية، فالروس توسعوا كحاملي رسالة خاصة”.
ويقارن دوغين بين روما القديمة وروسيا من حيث الأبعاد الحضارية والرسالية، ليخلص إلى نتيجة مضمونها “خلافا لروما، تملك موسكو في ثنايا دافعها الإمبراطوري مغزى ثيولوجيا ـ لاهوتيا ـ عميقا، ولقد طور هيغل نظرية طريفة بأن الفكرة المطلقة في وضعها الغيبي يجب ان تتجسد في صيغة الدولة البروسية، لكن بروسيا وحتى ألمانيا غير كافيتين جيوبولوتيكيا لأخذ هذه النظرية بعين الجد، أما روسيا روما الثالثة، فتستجيب دينيا وثقافيا استجابة رائعة لهذه النظرية”.
ويعتقد دوغين “أن النكوص عن بناء الإمبراطورية يعني نهاية وجود الشعب الروسي، كواقع تاريخي وظاهرة حضارية، ومثل هذا النكوص يمثل انتحارا قوميا”، وفي سبيل تحقيق الإمبراطورية التي تمنع ذاك الإنتحار “سار الشعب الروسي خطوة بعد خطوة إلى تحقيق هذا الهدف، وخلال كل مرحلة من مراحل توسيع دولتهم، كان الروس ينتقلون إلى درجة جديدة من عالميتهم الرسالية، وذلك بتوحيد السلاف الشرقيين في بادىء الأمر، ثم بإحتضانهم السهوب التركية وسيبيريا، ثم بزحفهم نحو الجنوب، وانتهاء بتكوين مجمع سياسي هائل بسط سيطرته في المرحلة السوفياتية على نصف العالم”.
ألكسندر دوغين: أمام الإمبرطورية الروسية الجديدة أربعة بنود لتحاشي الوقوع في النموذج السوفياتي: أن تكون لا مادية ـ لا إلحادية ـ ذات اقتصاد لامركزي؛ أن تكون لها إما حدودها البحرية أو الأحلاف الصديقة على الأراضي القارية المجاورة؛ أن تتميز بالبنية الإثنية التعددية المرنة؛ المرونة في مشاركة الدولة في توجيه الإقتصاد
ما السبيل إلى إعادة بناء الإمبراطورية الروسية؟
الطريق واضحة أمام الكسندر دوغين، وحيال ذلك يقول “إن وجود الشعب الروسي يرتبط بمواصلة هذه العملية ـ البناء الإمبراطوري ـ وتطويرها وتفعيلها”، وأما إذا جرى “قطع الخط الإرادي الجيوبولوتيكي لإقامة دولة الفكرة المطلقة، نطعن الروس في سويداء القلب ونجردهم من الهوية القومية بتحويلهم إلى بقايا تاريخية، ونقطع العملية الثيولوجية الغيبية الكونية على مستوى العالم”، وللوصول إلى الغاية الإمبرطورية يجب تحليل “أسباب إفلاس الإمبراطورية السوفياتية” كما يقول دوغين حرفيا، و”نقد الأنموذج القيصري” اعتمادا على الآتي:
أولاً؛ أمام الإمبرطورية الروسية الجديدة أربعة بنود لتحاشي الوقوع في النموذج السوفياتي:
1ـ أن تكون لا مادية ـ لا إلحادية ـ ذات اقتصاد لامركزي.
2ـ أن تكون لها إما حدودها البحرية أو الأحلاف الصديقة على الأراضي القارية المجاورة.
3ـ أن تتميز بالبنية الإثنية التعددية المرنة.
4ـ إضافة المرونة على مشاركة الدولة في توجيه الإقتصاد، فلا تمس إلا آفاقه الإستراتيجية.
ثانياً؛ أمام الإمبرطورية الروسية الجديدة خمسة بنود مرتبطة بنقد المرحلة القيصرية:
1ـ شحن المعادلة الدينية القيصرية بالمضمون الصافي المقدس الذي ضاع تحت تأثيرالغرب العلماني على أسرة رومانوف، وتحقيق ثورة ارثوذوكسية محافظة من أجل العودة إلى منابع النظرة المسيحية الحق.
2ـ تحويل مصطلح الشعبية إلى أفق مركزي، ومعارضة التصور العضوي للشعب عن طريق المعايير الكمية للقانونية الليبرالية والإشتراكية.
3ـ التوجه إلى المشاريع الأوراسية التي ترفض سياسة روسيا المعادية للألمان في الغرب وسياستها المعادية لليابانيين في الشرق، والتخلص من التوجه نحو الأطلسي.
4ـ الحيلولة دون عمليات الخصخصة والرسملة والبورصة.
5ـ الإنتقال من مبدأ المحافظات إلى إقامة الإثنية ـ الدينية ذات المستوى الأعلى من الإستقلال الذاتي والثقافي واللغوي والإقتصادي، وتحديدها في استقلالية سياسية وإستراتيجية وجيبولوتيكية وإيديولوجية واحدة.
وانطلاقا من ذلك تسير روسيا نحو بنائها الإمبرطوري، ذلك أن “معركة روسيا من أجل السيادة على العالم، لم تنته بعد”، هكذا يقول دوغين.
ثلاث إضافات قبل الختام:
ثمة ما يلفت النظر في علاقات روسيا مع آسيا الوسطى وتركيا، وهذه ثلاثة آراء وتفسيرات:
ـ المفكر الروسي نيقولا سافيتسكي (1895 ـ 1968) لا يعتبر الروس مجرد فرع من السلاف الشرقيين، وإنما تكوّنوا من الجذرين الأساسيين السلافي والتركي، و”لولا التترية لما كانت روسيا”.
ـ المؤرخ الروسي ليف غوميليوف (1912 ـ 1992) إبن الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا، يرى أن أصول الفكرة الأوراسية تكمن في التذاوب الإثني بين الأتراك والسلاف، ومن هذه الأصول تنبثق إثباتية السيطرة الروسية على تلك الأراضي الأوراسية.
ـ الكسندر دوغين، يدين الحروب الروسية ـ العثمانية التي تعدت الثلاثة عشر حرباً، ويقول “كان النظام القيصري يقوم دوما بتقويض أسس الدولة الروسية ويسير بها إلى الإنتحار الجيوبولتيكي، وإلى هذا تنتسب الحروب التركية والحرب مع اليابان، شيء ينطوي على المفارقة، لكن يبدو أن روسيا كانت تتوجه بالطريقة الأمثل لخدمة المصالح الأطلسية لفرنسا وإنجلترا” وهذه إدانة واضحة لمجمل الحروب الروسية ـ العثمانية، وحول ذلك يعلق دوغين قائلا “الحروب التركية ـ الروسية، ما جنى ثمارها الترك ولا الروس”، ولعل ذلك يعطي تفسيرات لكيفية تطور العلاقات الروسية ـ التركية الراهنة.
في الختام، بعض المقاطع الشعرية عن روسيا والكنيسة والإمبراطورية، وقد أنشدها الشاعر الروسي فيودور تيوتشييف (1803 ـ 1873) فقال:
مجدداً ستستضيف أقبية آيا صوفيا مذبح المسيح
إركع امامها أمامها أيها القيصر الروسي
ومن ثم أنهض قيصرا على سائر الشعوب السلافية.