إنحدار المكانة الأمريكية.. العالم يدفع الثمن!

نعيش مرحلة الخيارات الأهم في سياسات ومستقبل الدول العظمى ودول أخرى متأثرة بها أو مرتبطة بخيار أو آخر من هذه الخيارات.

الساحة الدولية معبأة هذه الأيام بدخان كثيف وغبار أثارتهما سباقات نحو التسلح في شمال أوروبا وشرق آسيا وأخرى نحو الثروات والقواعد في إفريقيا وجنوب المحيط الهادىء والشرق الأوسط وشرق آسيا. تجري السباقات حتى الآن مدفوعة بطاقة ضئيلة من العنف، ولكنه عنف مرشح للزيادة طالما بقيت الأهداف المبتغاة غير محددة الحدود وطالما استمرت المنافسات الاستراتيجية تخضع لحسابات في غالبيتها غير منطقية أو متخلفة زمنياً.

***

من بين ما يستحق التوقف عنده في هذه اللحظات الحرجة من التصعيد الحاصل ـ على أصعدة كثيرة ـ متابعة المسافة التي ما تزال تفصل بين خيارين أتصورهما مطروحين بشدة أمام صنّاع السياسة في أمريكا. خياران لا يتساويان ولا يتوازيان. الخياران هما أن تستعيد أمريكا دورها فتقيم نظاماً دولياً متعدد أو ثنائي القطبية تقوده من موقع متميز، والثاني، ولا يُطرح كخيار إلا في حال فشل الخيار الأول. يقضي الخيار الثاني أن تبادر أمريكا إلى مسايرة الصين وأن تقيم معها نظاماً دولياً تحكمه قواعد تناسب ظروف التحول في توازنات القوة الدولية كما فرضت نفسها على أرض الواقع.

أتصور أن واشنطن لن تسمح طويلاً للمنافسة بين الهند والصين أن تستمر سلمية وهادئة في إطار مجموعة “البريكس”. تفعل الشيء ذاته عندما تضع خيار بناء بنية تحتية عربية رهناً بوجود إسرائيل المتشددة والمنحازة للفاشية عضواً وشرطاً جوهرياً ودائماً دون أي اعتبار لحال الشعب الفلسطيني

لا تزال واشنطن تعيش أمل أن تستعيد مكانتها التي كانت تحتلها في النظام الدولي الذي أثمرته الحرب العالمية الثانية. هذا النظام خطّطت له أمريكا ولعبت الدور الأساسي في إخراجه ونصبّت لنفسها مكانة خاصة مكافأة لنفسها على جهدها في الحرب ضد دول المحور. جمعت كافة الدول الكبرى حول مبدأ المساواة أمام الميثاق والرأي العام العالمي مع اعتبار الولايات المتحدة العضو البارز أو الأفضل بين المتساوين. المبدأ نفسه سحبته لينطبق على هياكل ونظم العمل في الحلف الأطلسي. تتساوى مع فرنسا وكندا في عضوية الحلف ولكنها يجب أن تظل في نظرهما العضو الأول والأولى بالهيبة. تتساوى مع جواتيمالا والأرجنتين في عضوية منظمة الدول الأمريكية ولكن تحتفظ لنفسها بحقوق ونفوذ العضو الأول وصاحب أعلى مكانة.

تعيش أمريكا على الأمل ولكنها والحق يقال تعمل بشغف ليتحقق لها هذا الأمل. ما زالت تنتج نخباً سياسية مشبعة بفكرة الدور التاريخي لأمريكا في القيادة والهيمنة. أدركوا في واشنطن كما أدركنا جميعاً أن الصين الجديدة على أي مستوى من مستويات القوة الدولية لا يمكن إلا أن تكون قطباً من أقطاب القيادة. جرت محاولات ولا تزال تجري محاولات أخرى الغرض منها الضغط على الصين بالحصار والمقاطعة لتقبل بعضوية في نظام دولي متعدد الأقطاب بشرط الاحتفاظ لأمريكا بمكانة العضو الأول. من أجل تحقيق هذا الهدف تبذل أمريكا جهوداً مستميتة وتضع العراقيل أمام جميع المحاولات من جانب الصين وروسيا ودول نامية لتعديل منظومة الأمم المتحدة بحيث تنتفي عن الولايات المتحدة صفة القطب الأول ذي الحظوة والمكانة وتصبح التعددية حقيقية وفاعلة.

بفضل هذه المكانة المتميزة لأمريكا على قمة نظام دولي متعدد الأقطاب أو ثنائي القطبية استطاعت الولايات المتحدة الإحتفاظ بهيبتها ومكانتها بل وتنميتها خلال الحرب الباردة ليصبح ممكناً لها إضعاف القطب السوفييتي وإخراجه نهائياً من معادلة القيادة وربما استطاعت فرض انفراطه. عزّزت مبدأ الحصار حول روسيا وإمبراطوريتها الشاسعة، وأقدمت على مصالحة تاريخية مع الصين هدفها الأكبر ضرب معنويات إمبراطورية سوفييتية أنهكتها بيروقراطية ثقيلة، ثم سعت لإدخال جيوشها حرباً يائسة في أفغانستان استمرت عشرين عاماً وانتهت كما بدأت بحركة “طالبان” في السلطة.

في النهاية، ومع بزوغ القرن الحادي والعشرين، حقّقت واشنطن حلم الأجيال عندما انفردت بقيادة النظام الدولي، وفي الحقيقة اجتمعت لها مكونات هيمنة، بدت في ذلك الحين، كافية لتكون مطلقة.

***

لم يكن انفراد أمريكا بالقيادة نعمة كاملة بل مرحلة لعلها من بين الأسوأ في التاريخ السياسي الأمريكي. ففي خلال ربع قرن من الهيمنة الأمريكية المطلقة أو شبه المطلقة، أو ربما بسبب أخطاء جسيمة ارتكبتها خلال ممارسة هذه الهيمنة، فقدت أمريكا بعض مكانتها وكثيراً من هيبتها. تأثرت الهيبة بقسوة عندما تعرضت رموز الحضارة الأمريكية في كل من نيويورك وواشنطن للتدمير. بعدها دخلت أمريكا حرباً ضد العراق وحرباً في أفغانستان خرجت منهما في وضع استراتيجي ومعنوي غير طيب وأقل شأناً. دخلت الحربين بغير تخطيط جيد من ناحية ومندفعة في أعمال حربية انتقامية غير محسوبة من ناحية ثانية ومدفوعة بالعواطف المتشددة من جانب “شلة المحافظين الجدد” من ناحية ثالثة وفي الوقت نفسه مستجيبة لمصالح اقتصادية غير مجزية العائد.

إقرأ على موقع 180  "وشوشات" عايدة سلوم.. تذوق طعم الألوان   

وفي مرحلة لاحقة ومستمرة إلى يومنا هذا وقعت في أخطاء دفعتها إليها ظروف الخضوع لمدرسة جيواستراتيجية حلّت محل مدرسة الجيو اقتصادية التي هيمنت بدورها خلال مرحلة سادت فيها أفكار ومدارس العولمة. صدر مثلاً عن مرحلة المناهج الجيوسياسية المختلطة بمدارس الإبهار الإعلامي والتي صارت تسيطر على السلوك الخارجي قرارٌ بتوجيه السيدة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب للقيام بزيارة رسمية لتايوان، وهي الزيارة التي صعّدت حالة التوتر بين الصين وأمريكا إلى حالة أشد توتراً غيّرت جذرياً من طبيعة التطور التدريجي في المنافسة بين القطبين ولعلها أطاحت بها. في الوقت نفسه، عادت إلى الواجهة أيديولوجية استعداء الصين، كما كان يحدث مع روسيا خلال الحرب الباردة، وهي الأيديولوجية التي استخدمتها وهي تعد الشعب الأمريكي لتحمل تكلفة حرب مع روسيا بينما تتحمل أعباءها القتالية أوكرانيا وتتحمل دول أوروبا مع الشعب الأمريكي أعباءها المالية. مرة أخرى كان الهدف وقف نزيف الهيبة الأمريكية، ولم يتحقق.

أخطأت أمريكا المنفعلة بهوس الانحدار وتراجع المكانة، كما ظهر واضحاً في شعارات حملتي دونالد ترامب وجو بايدن الانتخابيتين قبل أربع سنوات. أخطأت حين سمحت بعودة مرشح تـآمر ضد الديموقراطية قدس أقداسها. أخطأت أخطاء جسيمة حين راحت النخبة السياسية الحاكمة تخطّط وتقود حملات تشهير برؤوس الحكم. قادت وتقود الرأي العام لانتخاب مرشح خاضع لمحاكمات جنائية خطيرة ومرشح يكاد يفقد القدرة على التركيز لتقدمه في العمر. أخطأت، وتخطئ، منذ أن قررت العودة للاهتمام بالشرق الأوسط انطلاقاً من التزام جديد وأقوى بحماية مصالح الأقلية الصهيونية المهيمنة أكثر فأكثر على مفاتيح السياسة الأمريكية ومواقع القوة في منظومة الحزبين والحكم في أمريكا. نعرف ويعرف المتابعون لأحوال الشرق الأوسط عواقب واقعة ومحتملة لهذا الخطأ المتجدد على مستقبل السياسة في المنطقة.

***

مرة بعد أخرى يكتشف الأمريكيون أن النقص في مكانة أمريكا شجّع دولاً عديدة صغيرة وكبيرة على حد سواء لرفض أسلوب الإملاءات في علاقات أمريكا مع حلفائها. أتصور، بناء على ما حدث فعلاً خلال الفترة الأخيرة، أن دولاً أكثر سوف تقوم بتنويع علاقاتها الخارجية. لن تأتمن طرفاً واحداً على سلة ثمارها. أخشى، على كل حال، أن يزداد عدد الدول الصغيرة التي فضلت عسكرة سياساتها الداخلية والخارجية على الاستمرار في تطوير برامجها الإنمائية والاقتصادية، من هذه الدول مجموعة دول البلطيق. أخشى أيضاً أن نتفاجأ بطفرة في أنشطة الإرهاب الغامض الأصول وزيادة في عدد الدول النامية المهددة بعدم الاستقرار.

عادت إلى الواجهة أيديولوجية استعداء الصين، كما كان يحدث مع روسيا خلال الحرب الباردة، وهي الأيديولوجية التي استخدمتها وهي تعد الشعب الأمريكي لتحمل تكلفة حرب مع روسيا بينما تتحمل أعباءها القتالية أوكرانيا وتتحمل دول أوروبا مع الشعب الأمريكي أعباءها المالية

***

غيرُ خافٍ خطورة ما تمارسه أمريكا من سياسات تجاه الهند وإعدادها لدور كبير في نظام دولي جديد. أحس بالخطورة في كل مرة ناقشت فيها الأمر مع من يعرف الهند ونظامها السياسي. تحاول أمريكا جذب الهند كمنافس للصين في آسيا مع كل ما يعنيه هذا التوجه من دفع للهند نحو اقتصاد متعسكر على حساب تنمية اقتصادية تبدو الهند في أشد الحاجة إليها في ضوء كثافة الفقر وتنوع مصادره الإثنية والطائفية والبيئية، وفي ضوء شكوك متزايدة في قدرة الديموقراطية الهندية على الصمود في وجه التعديات الفاشية التي يمارسها الحزب الحاكم وتفرعاته المتشددة.

أتصور أن واشنطن لن تسمح طويلاً للمنافسة بين الهند والصين أن تستمر سلمية وهادئة في إطار مجموعة “البريكس”. تفعل الشيء ذاته عندما تضع خيار بناء بنية تحتية عربية رهناً بوجود إسرائيل المتشددة والمنحازة للفاشية عضواً وشرطاً جوهرياً ودائماً دون أي اعتبار لحال الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال ولمتطلبات إقامة سلم حقيقي في المنطقة.

لا يغيب عنا أن بعض الحركة السياسية ينبئ بأفكار وخرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط قد يجري طرحها قريباً. منها ما طرح بالفعل وتجري مناقشته ثنائياً أو ثلاثياً. يفيد في هذا الشأن الاعتقاد السائد في الغرب أن تبقى الدول “الفاشلة” و”المقسمة” و”المنهكة” على حالها لفترة قد تطول، يفيد أيضاً أن تبقى منظومة العمل العربي المشترك مجمدة إلى حين تتضح للشرق الأوسط الجديد معالم وعلامات ما زال أكثرها غير واضح تماماً.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  جريمة فرنسا إرتكبها وعي إسلامي