سياسة إيران الخارجية.. ما هو دور بزشكيان تخطيطاً وتنفيذاً؟

هناك فهم خاطیء لدى أوساط عربية وغربية تعتقد أن الحكومة الإيرانية ورئيسها لا دور لهم على صعيد رسم السياسات الخارجية وأن هذه الأخيرة بيد المرشد الإيراني الأعلی؛ ولذلك لن تشهد السياسة الخارجية الإيرانية أي تعديل أو تغيير نتيجة فوز المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. 

ربما يكون هذا الاعتقاد صحيحاً من حيث المبدأ والجوهر، أي عندما تتصل المقاربة بقضايا استراتيجية رئيسية كالعلاقة مع الولايات المتحدة والدول الغربية؛ العلاقة مع الشرق ولا سيما الصين وروسيا؛ العلاقة مع دول الإقليم؛ العلاقة مع محور المقاومة وكلها تقع في صلب صلاحيات مجلس الأمن القومي والمرشد الأعلی؛ إلا أن الصحيح أيضاً أن تجارب العقود الأربعة الماضية تشي بأن الحكومة الإيرانية ورئيسها ووزارة خارجيتها لطالما كانت مكلفة بتنفيذ القرارات وتحديد الآليات اللازمة لتحقيق هذه التوجهات الاستراتيجية، وقبل ذلك، وهذا هو الأهم، يكون لها دور في رسم هذه السياسات الاستراتيجية من خلال رئيس الجمهورية الذي يرأس مجلس الأمن القومي الذي يأخذ علی عاتقه رسم السياسات الخارجية العامة.

وبنظرة عابرة علی سياسة الحكومات الإيرانية المتعاقبة، يظهر جلياً الدور الذي مارسه رئيس الجمهورية في تبني الأفكار والتصورات وطرحها علی المؤسسات السياسية المعنية لتتحول إلى منهاج تسير عليه إيران في علاقاتها الدولية والإقليمية.

وقد تناولت في مقالة سابقة الملفات الساخنة الموضوعة علی طاولة الرئيس الإيراني الجديد والتي تستوجب الانغماس بها من أجل ايجاد حلول وأليات للتعامل معها بما يخدم الأمن القومي الإيراني. أشرت في ذلك إلی أربعة تحديات أساسية: الملف الداخلي ولا سيما الاقتصادي؛ الملف النووي؛ ملف المباحثات مع الولايات المتحدة؛ وملف العلاقات الإقليمية.

الآن وبعد فوز مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية؛ هناك تحديات مهمة في السياسة الخارجية الإيرانية يتعين علی الحكومة الإيرانية الجديدة مواجهتها ويُمكن تعدادها على الشكل الآتي.

أولاً؛ الاتفاق النووي:

لقد احتل هذا الاتفاق حيزاً مهماً في المناظرات التلفزيونية التي أجراها المرشحون للسباق الرئاسي، لما له من انعكاسات علی الوضع الاقتصادي الإيراني. وقد كان الرئيس المنتخب مسعود بزشكيان واضحاً عندما دافع عن الاتفاق النووي الموقع عام 2015 مع المجموعة الغربية؛ كما دافع عن الآليات التي يُمكن التوصل من خلالها إلى تفاهمات مع الدول الغربية يجعلها تزيل الحظر المفروض علی الاقتصاد الإيراني؛ هذا الفهم شكّل نقطة نقطة خلاف جوهرية مع المرشح المحافظ سعيد جليلي الذي خاض الجولة الثانية من الانتخابات بعنوان خوض المفاوضات مع الغرب على قاعدة المطالبة بحقوق إيران التي بدّدتها الولايات المتحدة عندما انسحبت من الاتفاق النووي عام 2018؛ وبشكل أوضح فإن جليلي والتيار الذي يُمثّله يعتقد أن المباحثات مع الولايات المتحدة هي مضيعة وقت ولن تكون مجدية، وعلى إيران أن تجد بديلاً عنها مع دول أخری مثل روسيا والصين. هذا الملف يشكل حالياً أحد أبرز التحديات الرئيسية في سياسة الرئيس المنتخب وبالتالي علينا أن ننتظر كيف سيُهندس فريقه ويرسم سياسته؛ وكيف يمكن التأثير علی قناعة مجلس الأمن القومي الأعلی حتى يحصل على التفويض المطلوب منه قبل أن يُفاتح الدول الغربية وتحديدا الولايات المتحدة التي ما زالت ترتبط معها بعلاقات غير مباشرة عبر منصة سلطنة عمان.

ثانياً؛ الملف الأفغاني:

إن سيطرة حركة “طالبان” علی أفغانستان أصبحت أمراً واقعاً؛ وبالفعل، تسير إيران باتجاه اقامة أفضل العلاقات مع حكومة “طالبان” من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية والخدماتية لكي تُحيّدها ومن ثم تجعلها “صديقاً محتملاً” بدلاً من أن تكون “عدواً محتملاً”. هذا الملف حافل بالتحديات ولا سيما تيسير حركة المياه عبر نهر هيرمند للوصول إلی محافظة سيستان وبلوشستان التي تعاني من شح المياه لأسباب عدة بينها بطء اندفاعة مياه النهر الآتية من ناحية أفغانستان، في حين يُشكّل اللاجئون الأفغان مشكلة أمنية واقتصادية وسياسية وإنسانية بالنسبة لإيران، إذ تتحدث الأرقام عن وجود 7 ملايين لاجیء أفغاني في إيران، وبالتالي يُمكن أن يُشكلوا خطراً على الأمن القومي الإيراني، إذا لم تنتظم عملية اللجوء وفق الآليات التي تُحدّدها الحكومة الإيرانية.

ثالثا؛ التحديات الأمنية والجيوسياسية الخارجية:

ثمة تحديات تواجهها إيران في أكثر من “جبهة”. مثلاً بين أرمينيا وأذربيجان وخصوصاً ما يتعلق بـ”ممر زنغزوز” الذي أنشأته أذربيجان واعتبرته إيران “تغييراً للحدود التاريخية” في المنطقة، و”خطاً أحمر”، بالتوازي مع تعزيز حشودها العسكرية في المنطقة الحدودية.

وكان المرشد الأعلى الإمام علي خامنئي قال عقب انتهاء حرب قره باخ الثانية عام 2020 “إننا فرحون بعودة قره باخ إلى أذربيجان، لكن إذا كانت هناك سياسة لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا، فإن الجمهورية الإسلامية ستعارض تلك السياسة، لأن تلك الحدود كانت طريقاً للتواصل منذ آلاف السنوات”.

وتُشكّل التطورات في أذربيجان عامل قلق بالنسبة لإيران لأنها تضم سكاناً من القومية الأذرية يبلغ عددهم نحو 15 مليوناً. كما أن إيران تعترض على مشروع الممر خوفاً من فقدان الاتصال مع أرمينيا، فضلاً عن تخوفها من الدور الأكبر لتركيا في القوقاز وآسيا الوسطى؛ ناهيك أن هذا الممر يحرم إيران من المنفذ الوحيد إلى البحر الأسود، حيث تعتبر أرمينيا جسر طهران لتصدير بضائعها إلى دول المنطقة. ويُثير قلق إيران بعدٌ جيوسياسيٌ آخر يتعلق بالتعاون الثلاثي بين تركيا وأذربيجان وأرمينيا، واحتمال نجاح مسار التطبيع الثلاثي بشكل يُضعف نفوذ طهران ومصالحها في المنطقة، وهذا الملف سيكون مطروحاً علی جدول أعمال الرئيس المنتخب بما يبدّد قلق طهران ويحفظ مصالحها.

إقرأ على موقع 180  سلة تفاهمات لبنانية قريبة.. أم جمود فانهيار؟

رابعاً؛ العلاقة مع الصين وروسيا:

هذا الملف مرتبطٌ إلی حد بعيد بالملف الأول، أي الملف النووي وكيفية إدارة إيران علاقتها بالدول الغربية وهوية الرئيس الآتي إلى البيت الأبيض في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، فمن مصلحة إيران خلق توازن في علاقاتها بين الغرب والشرق. لكن السؤال هل هذا ممكن في ضوء المواجهة غير المعلنة بين واشنطن من جهة وبكين وموسكو من جهة أخری؟

خامساً؛ حرب غزة:

أثارت الرسالة الجوابية التي أرسلها الرئيس المنتخب مسعود بزشكيان إلى الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصرالله تساؤلات بشأن آلية تعامل الحكومة الإيرانية الجديدة مع حزب الله وفصائل المقاومة في ظل التهديدات الإسرائيلية للبنان. ولقد كان بزشكيان واضحاً في القول إن السياسات الإيرانية ثابتة في دعمها للفصائل المقاومة إقليمياً؛ لكن السؤال كيف سيكون شكل هذا الدعم ومضمونه وأهدافه؟ (ربما نتحدث عن ذلك بالتفصيل لاحقاً لأن هذا الملف مهمٌ لإيران ولدول المنطقة ولفصائل المقاومة وبينها حزب الله).

سادساً؛ التطبيع مع الكيان الإسرائيلي:

يُشكّل ملف التطبيع تحدياً استراتيجياً للأمن القومي الإيراني الذي يقف ضد هذا الكيان وضد التواجد الأجنبي في المنطقة دفاعاً عن مصالح الدولة العبرية. صحيح أن الحكومة الإيرانية الجديدة تريد التوصل إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة بشأن ملفها النووي ولكنها ستجد نفسها وجهاً لوجه مع عمليات التطبيع المستمرة بين دول الإقليم والكيان الإسرائيلي وما يُشكّله من خطر علی أمنها القومي. هنا سيصبح السؤال كيف يُمكن التوفيق بين هذا وذاك أو بين التفاهم السعودي الإيراني والاتفاق الدفاعي المُزمع توقيعه بين السعودية والولايات المتحدة وفي طياته تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية؟

وحتى الآن، ليس من الواضح الموقع الذي سيحتله محمد جواد ظريف مهندس السياسة الخارجية في حكومة الرئيس بزشكيان؛ لكنه بالتأكيد أينما يكون سيعمل علی أن يكون شريكاً أساسياً في صياغة كيفية مواجهة هذه التحديات الموجودة علی طاولة السياسة الخارجية للحكومة الإيرانية الجديدة.

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "محور الشر التكنولوجي".. شريك إسرائيل في مذبحة غزة