الفيدرالية في سوريا: الحل والتحديات

بتاريخ 17 كانون الثاني/ يناير 2022 نشر موقع 180postبحثاً مُهمّاً للباحث الدكتور عقيل سعيد محفوض بعنوان "الفيدرالية حل أم مشكلة لسوريا" (*)، وهو برأينا يفتح الباب لمزيد من التعاطي الموضوعي والعلمي مع قضية غلب على المتعاطين معها، إيجاباً وسلباً، الجانب العاطفي.

دأب المنادون بالفيدرالية في سوريا، (مجلس سوريا الديموقراطي وبعض القوى الكردية بشكل أساسي)، على تقديمها كوصفة حل سحرية لكل مشكلات سوريا، مغفلين تجارب عديدة فشلت فيها الفيدرالية في تحقيق أي تقدم على مسار الدمقرطة والسلم الأهلي، ومن دون أي دراسة علمية للسياق السوري وتحدياته، ومدى استعداده لتلقي مثل هذه المنظومة. أما الكارهون للفيدرالية، نظاماً ومعارضة سياسية، فيهاجمونها على أساس أنها “تقسيم للبلاد، وأداة استعمارية تسعى القوى الدولية من خلالها إلى تمرير أجنداتها الشريرة”، وأيضاً من دون دراسة علمية موضوعية للسياق السوري، ولتجارب فيدرالية نجحت في توحيد الممزق.

ما سنحاول تقديمه في هذه المقالة، هو تدقيق لما نراه بحاجة إلى ذلك، واستكمال لما رأينا ضرورة إيراده، لمسألة تبدو في غاية الحيوية في هذه الفترة مستعملين تقسيماً مشابهاً إلى حد ما لذلك الذي قدمه الباحث سعيد محفوض لتسهيل القراءة والاستكمال لدى القارئ.

أولاً: ما الفيدرالية؟

 نتفق تماماً مع ما أورده الدكتور محفوض من أن الفيدرالية هي تقنية سياسية ودستورية، وليست وصفة قانونية لحل جميع المشكلات الناجمة عن نزاع ما، أو حتى تلك التي تعاني منها منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية في نزاع آخر. الفيدرالية ليست خيراً وليست شراً. هي شكل من أشكال إدارة البلاد كما في بلدان كبرى كالولايات المتحدة ـ مخترعة هذه المنظومة ـ والهند وكندا؛ وفي دول صغيرة من حيث المساحة والسكان كسويسرا وبلجيكا؛ وفي دول تعتبر الديموقراطية فيها راسخة ككندا؛ وفي دول تنتهج الفيدرالية بلا مستويات عالية من الديموقراطية كروسيا الاتحادية والإمارات العربية المتحدة. وثمة دول تتبناها على أساس عرقي كبلجيكا وسويسرا، وأخرى على أساس جغرافي محض مثل الولايات المتحدة إلخ..

ما يمكن أن يجعل الفيدرالية اليوم مناسبة لسوريا هو إنقاذها من التقسيم، على عكس ما يطرحه المتخوفون منها. سوريا اليوم مقسمة بحكم الأمر الواقع إلى مناطق نفوذ تتطور فيها يومياً نماذج سياسية واقتصادية واجتماعية متباينة، أضحت بشكل متزايد أشبه ببلدان لا تجمعها حتى كونفيدرالية

تتطلب الفيدرالية، تعريفاً، مستويي حكم في البلاد، تُعطى فيه الولايات (أو الدول كحالة المصطلح الأميركي)، أو البلدان (بحسب المصطلح الألماني) أو الجمهوريات كحال المصطلح الروسي، أو الإمارات كما في الإمارات العربية المتحدة، صلاحيات واسعة لإصدار قوانين محلية في المقاطعات والولايات والبلدان من جهة، ومن جهة ثانية، هنالك تمثيل لهذه الكيانات على المستوى الوطني عبر مجلس المقاطعات، أو مجلس الشيوخ، أو المجلس الاتحادي، يكون فيه التمثيل للمقاطعات والأقاليم وليس للمواطنين. المُتطلّب الثالث، هو تشارك السيادة بين الإقليمي والوطني، وعدم قدرة مستوى على إلغاء مستوى آخر، فلا المستوى الوطني يلغي الإقليمي ولا العكس، وأي تعديل على أحدهما يتطلب توافق المستويين معاً. جوهر الفيدرالية تاريخياً هو السمة الاتحادية بين كيانات مستقلة (النموذج الأول هو نموذج الولايات المتحدة)، أي أنها توحيد المفرق، إلا أنها أصبحت تقنية سياسية وقانونية لإعادة تشكيل البلاد كما هو الحال في جنوب إفريقيا وإسبانيا ونيبال ورواندا وإثيوبيا.

نتفق هنا مع محفوض في أن الفيدرالية طيف واسع وليست مسألة “إما، أو”، وتكاد لا تتشابه فيدرالية مع أخرى. التباين هنا في صلاحيات الأقاليم والمركز من جهة، وشكل التركيبة الهيكلية التي تربط بعضها ببعض، وآليات التقسيم الإداري للأقاليم (على أساس جغرافي، أو إثني، أو طائفي إلخ) من جهة أخرى. وبالتالي تعتبر جنوب إفريقيا وإسبانيا دولتان شبه فيدراليتين Quasi-Federal، في حين تعتبر بريطانيا (على خلاف ما أورد محفوض) دولة أحادية برغم وجود كيانات مثل اسكتلندا، وويلز، وإيرلندا الشمالية فيها، وبرغم من وجود برلمانات فيها، لكنها لا تحقق شروط الفيدرالية مطلقاً.

من المهم إيراد أن هناك دولاً استدعت العامل الفيدرالي للخروج من النزاع، مثل جنوب إفريقيا، وإسبانيا، ورواندا، ودولاً تحولت إلى النظام الفيدرالي بدون نزاع للتكيف مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية مثل نيبال[1]، ودولاً أنشأت فيدرالياتها بشكل طوعي عبر اتحاد بلدانها، كالولايات المتحدة الأميركية (الترجمة الدقيقة ليست الولايات المتحدة وإنما الدول المتحدة).

عليه، لا يمكن الخلوص إلى نموذج واحد للفيدرالية عكس المغالطات التي يوردها خصومها أو أصدقاؤها السوريون/ات، فهناك فيدراليات في دول صغيرة، ودول كبيرة، وفي دول ديموقراطية، وأخرى غير ديموقراطية، ودول تحولت إليها بعد النزاع، وأخرى من دونه. تماماً كما توجد دول أحادية صغيرة، وكبيرة، وديموقراطية، وغير ديموقراطية. وهنا نتفق تماماً مع محفوض في توصيفه.

المغالطة الثانية التي يوردها بعض السوريين/ات، والتي لم يأت على ذكرها محفوض هي المطابقة بين اللامركزية السياسية، والفيدرالية، واعتبارهما مترادفين. حقيقة اللامركزية السياسية تعني قدرة المجتمعات على انتخاب سلطاتها المحلية، وتمتع هذه السلطات بصلاحيات تخولها إصدار قوانين محلية[2] أو إقرار سياسات وأنظمة تطبق على المستوى المحلي[3]، في حين تتطلب الفيدرالية أن تعطى هذه السلطات صلاحيات على المستوى الوطني عبر الغرفة العليا (مجلس الشيوخ، جمعية المناطق، إلخ)، وفي كلتا الحالتين تحتفظ السلطة المركزية بالسلطة على الجيش، والأمن، والاقتصاد الكلي، والنقد، والعلاقات الخارجية، وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات ومنح الجنسية. غير أن المخيال السوري، لدى مؤيدي الفيدرالية وخصومها على السواء يقيس على النموذج الفيدرالي العراقي الذي تشوبه عيوب جوهرية تجعله أقرب إلى الكونفيدرالية من الفيدرالية في أحسن الأحوال، وهو برأينا – وكما سنرى لاحقاً – ليس إلا شكلاً فريداً في العالم، ولا يصح مثالاً يحتذى في حال من الأحوال.

 ثانياً: الرؤية والمقاربة

هل يمكن تطبيق الفيدرالية كمخرج للحرب في سوريا؟

للإجابة على هذا السؤال سنطرح السؤال الأهم والأعم: ما هي أساساً مخارج الحرب في سوريا؟ نرى أن الإجابة على هذا السؤال تنطلق من فكرة وجود القوى الأجنبية على الأرض السورية، واحتمالات انسحابها، و/ أو وصول هذه القوى إلى توافق بينها حول المخرج. نفترض أن الوجود الروسي في سوريا نافل، وأنه مقبول لجميع الأطراف غير السورية، لتبقى أربع قوى أخرى هي إيران، وتركيا، والولايات المتحدة، و”إسرائيل”. تتعقد عملية وجود هذه الأطراف بالتفاوض النووي، والعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، والحرب على الإرهاب، وصراع المشاريع الإقليمية. هذا على الأرجح ينفي احتمالات أي أن انسحاب أميركي وشيك، بعد أن كان احتمالاً وارداً قبل نحو ثلاث سنوات، فما بالك بانسحاب تركيا التي يزداد عديد قواتها شمال البلاد، وتدخل شركاتها لتقدم الكهرباء والخدمات في إدلب، وما بالك بإيران التي يزداد توسعها اجتماعياُ واقتصادياً من دون أي مؤشر على أي انسحاب. بالطبع الانسحاب “الإسرائيلي” بعيد أيضاً.

إذاً لا مؤشرات حقيقية على انسحاب القوى الأجنبية، وبالتالي سيبقى تقسيم البلاد قائماً، وستبقى القوى الثلاث مسيطرة على جغرافياتها، وكلٌّ سعيد بما لديه.

وما لم تتوجه الأطراف السورية – ومن خلفها القوى الدولية الداعمة لكل منها – نحو إيجاد آلية تتعامل مع الواقع، ومحاولةً ربط الجغرافيات الثلاث (أو حتى الأربع، أو الخمس) بنماذج اقتصادية، ونماذج حوكمة متشابهة فإن التقسيم قادم لا محالة. يكفي أن يتكيف الناس مع هذا الواقع بضع سنوات ليتكرر لدينا النموذج الكوري أو القبرصي، وتنتهي البلاد إلى دويلات متناحرة غير قادرة على الحياة في حقيقة الأمر.

نظام الحكم رئاسياً كان أم برلمانياً أم مختلطاً ليس جيداً أو سيئاً بالضرورة، بل يتعلق بظرف بلاد ما وشرطها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وكذلك الأمر بالنسبة للفيدرالية؛ فشلها في بلاد لا يعني سوءها المطلق وتوصيفها كأداة للتقسيم، ونجاحها في بلاد أخرى لا يعني حسنها المطلق وتوصيفها كأداة دمقرطة وتشارك سلطة

ما الذي يعنيه هذا؟ برأينا، يعني هذا أن فدرلة البلاد قد تكون المخرج الوحيد لكي تبقى البلاد موحدة في ظل الوجود الأجنبي في مختلف الجغرافيات، ريثما تتحقق معجزة ما، ويتغير المشهد الإقليمي و/ أو الدولي ليتيح إعادة بناء الدولة، وإحداث تغيير جذري في شكلها نحو استقرار ودمقرطة البلاد. بكلام آخر: ما لم تخرج هذه القوى الخارجية فالخيار أمامنا هو نموذج حكم يتعايش مع وجودها، ومع وجود القوى السورية التي تعيش في ظل حمايتها كما هو الأمر الواقع الآن. يتعين على هذا النموذج أن يحفظ قدرة البلاد على البقاء موحدة (كل الدول المتدخلة في سوريا تؤكد على وحدة البلاد وسلامة أراضيها) وأن يخلق شكلاً من أشكال المشاركة في الحكم يترك للمركز الحالي السلطة الأساسية على القرارات الوطنية، بما في ذلك وعلى رأسها ما يتعلق الجيش والعلاقات الخارجية، ويحفظ للأطراف قدرتها على حماية أمنها المحلي بعيداً عن أجهزة أمن المركز، وإدارة مواردها وشؤونها المحلية، كما يتيح لها المشاركة في السياسات الوطنية عبر التمثيل في البرلمان، والذي يتطلب تعديلات دستورية جوهرية.

ندرك طبعاً صعوبة تقبل جميع الأطراف لمثل هذا الحل، ولكن السؤال الأهم: ما هو البديل؟

ثالثاً: الأطر المرجعية

نتفق هنا مع طرح محفوض حول إكراهات الحرب، وهذا ما أوضحناه في الفقرة السابقة، ومع مرجعية القرار 2254 الذي يتحدث عن تطبيق بيان جنيف المؤرخ بـ 30 حزيران/ يونيو 2012 وذلك “بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية..[4]

القرار هنا يتحدث عن سبل مختلفة لإحداث الانتقال السياسي، وبما يضمن استمرار المؤسسات الحكومية. إذاً ووفق هذا القرار، وليس بالضرورة وفق معطيات الأرض، ليست “هيئة الحكم الانتقالي” كما تشتهي المعارضة هي السبيل الوحيد للانتقال السياسي الذي – وفق هذا القرار – يجب أن يحدث وليس كما تشتهي السلطة في دمشق، وأيضاً ليس بالضرورة وفق معطيات الأرض.

إذاً قد يحدث الانتقال بالتوافق المتبادل، أيضاً وفق نص القرار، عبر تشارك السلطة بين المركز، ممثلة بالحكومة المركزية، والأطراف ممثلة بالإدارة الذاتية وقوى المعارضة السياسية والمسلحة، وبما يحفظ للبلاد وحدتها، وللقوى الأجنبية نفوذها، على الأقل مؤقتاً.

وهنا يبرز أيضاً دور اللجنة الدستورية التي تبحث لنفسها، ويبحث لها ضامنو آستانة عن موطئ قدم في ملعب الأزمة. فأي حل كالذي تطرحه الفيدرالية يتطلب تعديلات دستورية، أو قل إصلاحات دستورية استخداماً للغة اللجنة ذاتها. إذ تتطلب الفيدرالية كما ذكرنا، نصاً دستورياً يعطي الأطراف دوراً في المركز عبر الغرفة العليا، كما يعطيها صلاحيات محلية أكبر. لا يمكن للقانون أن يتيح مثل هذه الصلاحيات، إذ أن القوانين عرضة للتغيير من السلطة الحاكمة في لحظة، على عكس النص الدستوري الذي يتطلب إجراءات معقدة لتغييره.

زد على ذلك أن التاريخ السوري لا يتعامل مع الفيدرالية وكأنها قادمة من كوكب آخر، أو كحل يفرضه الغرب علينا. فمشروع أول دستور سوري كان دستوراً فيدرالياً وبغرفتين تمثل إحداهما المناطق، أو المقاطعات بلغة هذا الدستور. يعترض كثر على هذا الطرح مستندين إلى مسألتين:

إقرأ على موقع 180  سيكولوجيّة العلاقة بين لبنان وفلسطين.. الأصل والأصيل

الأولى أن سوريا آنذاك كانت سوريا الطبيعية بما في ذلك لبنان وفلسطين والأردن، إضافة إلى سوريا التي نعرفها اليوم، وبالتالي نحن نتحدث عن مساحة أكبر من القائمة اليوم، وهذا الاعتراض لا معنى له، فالأمثلة كثيرة على وجود فيدراليات أصغر من سوريا مساحةً وسكاناً، وقد أوردنا بعضها.

الثانية هي أن اختيار النظام الفيدرالي آنذاك جاء ليستوعب فلسطين والأردن ولبنان، وفي رأينا فإن الأمر لم يكن الأمر كذلك. فالنص الدستوري لا يتحدث عن تلك الأقاليم (أي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) بل عن أقاليم تُحدد على أساس عدد السكان والمساحة دون النظر إلى التقسيمات التي نعرفها اليوم. ومن المهم أن نلفت الإنتباه إلى أن سوريا 1920 ليست سوريا 1916. فسوريا التي نعرفها اليوم كانت مقسمة إلى ولايتين هما: ولاية حلب، وولاية سوريا (التي كانت تضم الأردن وفلسطين وعاصمتها دمشق)، بالإضافة إلى متصرفية دير الزور[5].

إذاً: الحرب وإكراهاتها، وعلى رأسها الوجود الأجنبي، والقرار 2254، والتاريخ الدستوري السوري، هي عوامل تمنح الفيدرالية مشروعيتها.

نعود ونؤكد، ليست الفيدرالية التي ستأتي بالديموقراطية كما يقول مناصروها، بل التي قد تعيد وحدة البلاد، على عكس ما يقوله خصومها.

 رابعاً: المثال والمنوال

من سوء حظ دعاة الفيدرالية أن جوارنا طبّق أسوأ نماذج لها، هذا إذا افترضنا أنها طبقت فعلاً. يورد محفوض العراق ولبنان مثالين عن الفيدراليات في المنطقة، وهما النموذجان الأسوأ في رأينا، بما يعنيه هذا من شرعية تخوفات المناهضين لها. ولا بد من التوسع قليلاً في هذين النموذجين لمعرفة مكامن العيب فيهما، ولماذا يجب تحاشيهما في النموذج السوري إن حدث.

بداية، كلا النموذجين يعتبر نموذجاً فيدرالياً أعرج. فكلاهما يفتقد إلى أهم مكون من مكونات الفيدرالية، أي الغرفة العليا. فدستور لبنان، يضع أسس فيدرالية تسمى الفيدرالية الشخصية بحسب بوكرنفيلدة[6]، عبر تمثيل الطوائف في مجلس الشيوخ. والدستور العراقي ينشئ الغرفة الثانية على أساس تمثيل المناطق أو الأقاليم. غير أن كلا الدستورين، ولأسباب متشابهة، يعطي مجلس النواب، أو الغرفة الدنيا، حق إنشاء الغرفة العليا عبر إصدار قوانين لذلك، ولا يستكمل بناءها دستورياً. يعني هذا أن الدستور يعطي إحدى الغرفتين سلطة على الأخرى، ويقول لها: قومي بإنشاء جزء آخر لك يضعفك! وهذا غير ممكن عملياً، وبالتالي يفسر عدم إنشاء الغرفتين حتى تاريخ كتابة هذا المقال برغم ورودها في دستوري البلدين.

ما لم يضع الدستور أسس إنشاء الغرفتين بشكل يضمن استقلال إحداهما عن الأخرى، فالفيدرالية عرجاء وربما ميتة.

غير أن المخيف في النموذجين، والمطابق للنموذج السوري، وبشكل يصعب تفاديه كما أسلفنا، هو أن كلا الفيدراليتين قائم على أساس النفوذ الدولي فيهما، الولايات المتحدة وإيران في العراق، وفرنسا وسوريا وإيران والسعودية في لبنان، ما يعني أننا أمام خيارين: إما التقسيم أو التقاسم!

قد يساعد وجود الغرفة الثانية في تخفيف حدة أثر هذه المسألة، لكنه لن يلغيها بشكل كامل، وعلى السوريين/ ات أن يتحضروا لها.

خامساً: الفيدرالية من يريدها ومن يعاديها ولماذا؟

جاء أول نداء علني لطرح مشروع الفيدرالية في سوريا ضمن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، ومن ثم من روسيا، في كانون الثاني/ يناير من العام 2016، عبر مقترح إحداث جمعية المناطق، وتوسيع اللامركزية، ومنح الأكراد ما يشبه الحكم الذاتي.

بعد ذلك طرحت القوى الكردية في آذار/ مارس من العام 2016 وفي مؤتمر الرميلان، المقترح الفيدرالي لسوريا بشكل علاني كامل.

واجهت هذه الطروحات مقاومة عنيفة من القوى السياسية والاجتماعية السورية على مقلبي الحرب، أي من السلطة والمعارضة.

معاداة الفيدرالية محلياً مسألة مغرقة في عمقها اجتماعياً وسياسياً. فعلى مدى عقود كانت اللامركزية، دع عنك الفيدرالية، تُصور على أنها دعوة للانفصال، حتى يومنا هذا [7]. كل دعوة للامركزية كانت تصور إضعافاً للدولة ومحاولة للانفصال. ويعود هذا الشعور الجمعي العميق برأينا إلى أسباب عديدة:

 السبب الأول، هو الحكم العسكري الشديد المركزية الذي يرى اللامركزية إضعافاً لقبضته، والذي اعتاد النموذج المغرق في المركزية من المؤسسة العسكرية من جهة ومن طبيعته المستبدة من جهة أخرى. رفض اللامركزية ليست مسألة محصورة في سوريا، بل تحضر في العالم العربي عموماً.

السبب الثاني، يعود إلى القضية الكردية ذاتها. فجميع المطالبين باللامركزية، لقصور لدى المعارضة السياسية غير الكردية، هم من الكرد، الأمر الذي تلاقى مع الاتهامات التي كانت تطلقها حكومات سوريا والعراق وإيران ضد الكرد المنادين باللامركزية والحكم الذاتي ومنح الخصوصية الثقافية.

السبب الثالث، والناجم برأينا عن السببين السابقين، هو التعمية والتجهيل حول المضامين السياسية والعلمية لمثل هذه المصطلحات. فاللبنانيون اخترعوا مصطلح اللامركزية الإدارية الموسعة، التفافاً على اللامركزية السياسية، لأن الأخيرة، ومنذ عهد العثمانيين، ودون أي أساس علمي، كانت تُرى من قبل النخب السياسية والمجتمع على السواء على أنها تمكين الأطراف من بناء علاقات دولية والحصول على قوات خاصة. وما تعنيه اللامركزية الإدارية يتباين بحسب الطرف السياسي الذي يطرحها، فالسلطة تراها شكلاً من أشكال الإدارة المحلية التي تهيمن هذه السلطة عليه في نهاية المطاف، والقوى السياسية المعارضة تراها شكلاً من أشكال تشارك الحكم، وبالتالي هي أقرب إلى اللامركزية السياسية منها إلى الإدارية، ولا أحد يتحدث عن اللامركزية الاقتصادية، والفيدرالية ليست إلا مرادفاً للتقسيم بطبيعة الحال.

أما دعاتها، وهم الكرد وبعض قوى المعارضة السياسية، فأسبابهم تعود إلى مسألتين اثتنين:

الأولى والأهم هي معالجة القضية الكردية، برغم أن حل المسألة الكردية من وجهة نظرنا لا يتطلب الفيدرالية اشتراطاً.

والثانية، هي رؤيتهم أن الفيدرالية خطوة نحو الدمقرطة، برغم أنها عملياً ليست مآلاً حتمياً كما ذكرنا. هنالك نقطة مهمة برأينا، هي أن شكل اقتسام النفوذ اليوم بين القوى السورية والدولية لا يتيح للكرد الفيدرالية التي حلموا بها، فغالبية سكان المناطق التي يسيطرون عليها هم من العرب من دير الزور إلى الرقة ومنبج، ويبقى الكرد أقلية فيها، في حين أن هنالك مناطق في غاية الأهمية للمكون الكردي تقع خارج حدود سيطرته، كعفرين.

كلا النموذجين اللبناني والعراقي يعتبر نموذجاً فيدرالياً أعرج. فكلاهما يفتقد إلى أهم مكون من مكونات الفيدرالية، أي الغرفة العليا. فدستور لبنان، يضع أسس فيدرالية تسمى الفيدرالية الشخصية بحسب بوكرنفيلدة عبر تمثيل الطوائف في مجلس الشيوخ

رفض الفيدرالية إقليمياً يعود لأسباب تشابه أسباب الرفض السوري، وخاصة ما يتعلق بالمسألة الكردية، تركياً وإيرانياً. فكلا البلدين سيعارض أي فيدرالية تعطي الكرد حكماً ذاتياً شبيهاً بذاك الموجود في العراق، فما ابتدأ في العراق وانتقل إلى سوريا، قد يكمل طريقه إلى تركيا وإيران. يتحدث الدكتور محفوض في مقالته عن موافقة إيران الضمنية على الفيدرالية، في حين أننا لما نر أي إشارة لمثل هذا الأمر إلا ما تذكره المبادرة الإيرانية عن ضمان حقوق الأقليات الطائفية والإثنية[8]، الأمر الذي لا نراه تبنيا للفيدرالية، فإيران ربما استفادت من الشكل الذي آلت إليه الأمور في العراق، لكنها أذكى من أن لا تخشى انتقال هذه العدوى إلى أراضيها.

أما قبولها دولياً، فيبدو أنه متوافر نسبياً لدى الروس والأميركيين وإن بنسب متفاوتة. فروسيا تريد مخرجاً من الأزمة السورية التي تستنزفها[9]، والولايات المتحدة تريد مخرجاً لحلفائها الكرد، وكلا البلدين فيدرالي بطبيعة الحال، وإن كان الأميركيون أقل اكتراثاً بشكل الحكم في سوريا مستقبلاً من الروس.

خلاصة

نتفق تماماً مع طرح الدكتور محفوض في أن الفيدرالية ليست قيمة بحد ذاتها لرفضها أو قبولها. هي تقنية سياسية ودستورية قد تناسب بلداً وقد لا تناسبه، وقد تناسب بلداً في ظرف سياسي ولا تناسبه في ظرف آخر. ما ضرّ السوريين/ ات كثيراً هو تعاملهم مع مثل هذه المسائل بطريقة أيديولوجية. فنظام الحكم رئاسياً كان أم برلمانياً أم مختلطاً ليس جيداً أو سيئاً بالضرورة، بل يتعلق بظرف بلاد ما وشرطها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وكذلك الأمر بالنسبة للفيدرالية؛ فشلها في بلاد لا يعني سوءها المطلق وتوصيفها كأداة للتقسيم، ونجاحها في بلاد أخرى لا يعني حسنها المطلق وتوصيفها كأداة دمقرطة وتشارك سلطة.

ما يمكن أن يجعل الفيدرالية اليوم مناسبة لسوريا هو إنقاذها من التقسيم، على عكس ما يطرحه المتخوفون منها. سوريا اليوم مقسمة بحكم الأمر الواقع إلى مناطق نفوذ تتطور فيها يومياً نماذج سياسية واقتصادية واجتماعية متباينة، أضحت بشكل متزايد أشبه ببلدان لا تجمعها حتى كونفيدرالية. لدينا بالحد الأدنى ثلاثة جيوش سورية أو قل أربعة أو خمسة. ولدينا مناطق تستخدم العملة السورية وأخرى التركية، وجميعها يحيا بفعل الدولار القادم مع المساعدات. لدينا أربعة أو خمسة أعلام. لدينا معابر تحت سيطرة السلطة، وأخرى تحت سيطرة المعارضة، وثالثة تحت سيطرة الإدارة الذاتية. والأنكى أنه محظور على الجغرافيات السورية التواصل في ما بينها، لا اقتصادياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً، لا بل يحارب بعضها بعضاً، وهذه ليست حتى كونفيدرالية!

لا يبدو أن لأي طرف القدرة على بسط سيطرته على كامل الأراضي السورية، ولن تكون المعابر الحدوية بيد طرف واحد ما لم تحدث معجزة ما. وصول قوى السيطرة المختلفة ومن خلفها القوى الدولية الداعمة إلى توافق ينعكس سياسياً وقانونياً ضمن إطار واحد، وتقديم تنازلات من جميع الأطراف تُسقط فكرة إسقاط النظام من قاموس المعارضة، وتلغي فكرة الانتصار الحاسم والتفرد بالسلطة من قاموس النظام، وتقصي دعاة الانفصال داخل قوى الإدارة الذاتية، هي الحل الوحيد كي يرفرف علم واحد على كامل البلاد، مع أعلام المناطق، وقد يكون علينا أن نتحمل معها بعض الأعلام الأجنبية، ولو مؤقتاً.

(*) مقالة عقيل سعيد محفوض بعنوان “الفيدرالية حل أم مشكلة لسوريا

المصادر والمراجع:

[1] Supporting Nepal’s Historic Transition to Federalism, Worldbank, https://www.worldbank.org/en/results/2020/09/29/supporting-nepals-historic-transition-to-federalism#:~:text=The%202015%20Constitution%20established%20Nepal,governments%2C%20and%20one%20federal%20government. Last access February,9, 2022

[2] DEMOCRATIC DECENTRALIZATION PROGRAMMING HANDBOOK, USAID 2009, PP 10 , 2009

[3] UNDP: DECENTRALIZATION: A SAMPLING OF DEFINITIONS, pp  18, 1999

[4] القرار 2254، كانون الأول 2015، https://undocs.org/ar/S/RES/2254(2015)

[5] عبد العزيز محمد عوض، الإدارة العثمانية لولاية سوريا من 1864 وحتى 1914، دار المعارف، القاهرة، 1969

[6] ماركوس بوكينفورد، دليل عملي لبناء الدساتير، Idea International، ستوكهولم، 2011، ص 34-35

[7]  انظر مقال https://aawsat.com/home/article/3123846/%D8%A8%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D9%86-%D9%8A%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AE%D8%B7-%D8%AF%D8%B1%D8%B9%D8%A7-%D9%88%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%80%C2%AB%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9%C2%BB

[8]  https://www.aljazeera.net/amp/news/arabic/2015/9/3/%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9

[9] انظر مستشهدًا بتجربة كردستان العراق.. لافروف يريد حوارًا بين حكومة النظام وكرد سوريا
https://www.enabbaladi.net/archives/539923#ixzz7KUFWXR7M

Print Friendly, PDF & Email
زيدون الزعبي

باحث في قضايا الحوكمة، سوريا

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  التقارب السعودي الإيراني.. أمامه سجادة حمراء!